لبنان: الحكومة والبرلمان يتنصلان من «وعْد» تغطية تمويل الدولة بالدولار
جريدة الراي -

لم يكد يجفّ حبرُ مطالعة الدكتور وسيم منصوري الذي تسلّم رسمياً صلاحية القرار التنفيذي والتوقيع «الثمين» والمنفرد كحاكم لمصرف لبنان بالوكالة بدءاً من الثلاثاء، حتى فوجىء بأولى الانتكاسات «المعهودة» في الالتزامات الحكومية، متجلّيةً برمي كرة الاستدانة بالدولار من «المركزي» الى مجلس النواب، بخلاف الوعد المبلّغ «وجاهياً» الى الحاكم الجديد ونوابه الثلاثة بتسريع إعداد مشروع قانون خاص، وضمن آليات السداد وتواريخها.

ولفت ميقاتي خلال جلسة مجلس الوزراء أمس التي كانت مخصَّصة لاستكمال منقاشة بنود الموازنة العامة للسنة الحالية، إلى أن «المادة الرابعة من مرسوم تنظيم أعمال مجلس الوزراء تنص على وجوب إرسال مشاريع القوانين والمراسيم التنظيمية قبل أسبوع على الأقل من مناقشتها في مجلس الوزراء».

منذ 16 ساعة

منذ 19 ساعة

وفي الشرح «غير المُقْنِع» بحسب مصادر مالية متابعة، أوضح ميقاتي «بالأمس، وزّعْنا على الوزراء مشروع قانون يرمي إلى الإجازة للحكومة الاقتراض بالعملات الأجنبية من مصرف لبنان، ما يعني أن المناقشة قد تستغرق وقتاً، ومصرف لبنان يحتاج إلى وتيرة أسرع في هذه المسألة، ولذلك أقترح أن يُصار إلى تقديم اقتراح قانون من قبل نوابٍ في البرلمان بهذا الصدد، ولا سيما أن البعض ربما سيعترّض على إرسال مشروع قانون من الحكومة، ما يعني المزيد من إضاعة الوقت، ومن خلال اقتراح القانون يُمكن لمجلس النواب اتخاذ القرار الذي يراه مناسباً».

ولكن رئيس البرلمان نبيه بري عاجَل هذا الطرح بإعرابه عن غضبه «من تنصُّل ميقاتي ومحاولته إلقاء التبعة على البرلمان بالإمتناع عن وضع مشروع قانون بذلك وإحالته على مجلس النواب»، معلناً كما نقلت عنه صحيفة «الأخبار» ان المجلس «لا يتخلى عن دوره لكنه لا يأخذ دور سواه ولا يمانع إقرار الإقتراض من مصرف لبنان عندما يصل الى المجلس مشروع قانون بذلك، عندئذٍ يُقرّ باقتراح قانون. بيد أن ذلك يوجب إحالة المشروع من الحكومة أولاً».

وإذ لفت بري إلى أن مجلس النواب «لا يملك أن يقدّم تعهدات نيابةً عن الحكومة بإعادة ما تقترضه هي من مصرف لبنان لأنها هي المقترض، وهي مَن يفترض أن تقدّم تعهداً والتزاماً له بردّ ما ستنفقه»، وصف موقف الحكومة بأنه «أول علامة سلبية في تعاطيها مع منصوري في اليوم الأول لبدء عمله»، مضيفاً: «اذا لم يُقر القانون من أين سيؤتى بالمال؟ هذه مسؤولية الحكومة».

وسبق خطوة رئيس الحكومة، نشْر كتابٍ رسمي على منصات التواصل الاجتماعي وفي وسائل إعلام، ممهور بتوقيع نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي، يشكك أساساً في قدرة الدولة على سداد اي اقتراض جديد من احتياطات العملات الصعبة، ثم يؤكد أن هذه الأموال هي حقوق للمودعين في البنوك.

وهكذا بدا السيناريو الموعود لانسيابٍ القرار النقدي المركزي وتمكين «الحاكم بالوكالة» المستلم للتو مقعده ومسؤولياته، متعثراً في أول خطواته بعدما تقاذفتْ حكومة تصريف الأعمال والبرلمان المسؤوليةَ - وعلى الأرجح في ما يشبه «توزيع أدوار» بينهما - عن تأمين الأرضية القانونية التي اشترطها منصوري للإتاحة للحكومة الاقتراض بالعملة الأجنبية من مصرف لبنان.

ووفق مسؤول مالي تواصلتْ معه «الراي»، فإن رحلة التشريع الاقتراضي المنشود لم تكن أساساً لتمرّ رَبْطاً بتهيّب النواب التطوع لهذه المهمة «الانتحارية» والتي تتيح للدولة إنفاق «الرمق» الأخير من حقوق المودعين المحتجَزة كتوظيفاتٍ إلزامية على مدخراتهم، وبتعذُّرٍ شبه مؤكّد لانعقاد جلسات تشريعية للهيئة العامة في البرلمان، ولا سيما في ظل المواقف المعلنة من كتل وازنة ونواب منفردين لجهة أولوية انتخاب رئيس جديد للجمهورية.

وبمعزل عن المطبات المُعَرْقِلة للمرتكز الأول الذي أورده منصوري وفريق نواب الحاكم لإدارة المرحلة الانتقالية بعد انتهاء ولاية رياض سلامة (1 اغسطس)، فإن المخاوف من تبعات توكيل الدولة بتبديد مبالغ جديدة من الاحتياطي الذي تدنّى عن عتبة 9 مليارات دولار، تعلو على تزويد البنك المركزي بتغطية قانونية لم تنفع بتاتاً وبصيغ متعددة في عهد الحاكم السابق الذي اختزن فقط تعهدات تشريعية «وَرَقية» عبر مواد محدَّدة في الموازانات وعقود ائتمانية لمصلحة الدولة ومؤسساتها، لقاء إنفاقٍ فعلي بعشرات مليارات الدولار على مدى ثلاثة عقود أمضاها في «المركزي» وختمها بصرف أكثر من 20 مليار دولار بعد انفجار الأزمات في خريف 2019.

ويمكن لهذه الأمثولة المبكرة جداً لدى القيادة النقدية الجديدة أن تحاكي، وفق المسؤول المالي، سائر النقاط الأساسية التي أوردها منصوري في مطالعته عشية انتقال مهمات الحاكمية إليه وفق قانون النقد والتسليف (كونه النائب الأول للحاكم)، وبحضورٍ عبّر عن التَشارُكية الضمنية لنواب الحاكم الآخَرين: الثاني بشير يقظان والثالث سليم شاهين والرابع الكسندر مراديان. علماً أن الفريق عيْنه جاهَرَ بأنّ «خيارنا كان ثابتاً وواضحاً وهو أنه مهما كانت الأسباب التي تدفع الحكومة لطلب أموال من المصرف المركزي فهي أسباب غير مبرَّرة على الإطلاق ويجب أن يتوقّف هذا الاستنزاف نهائياً».

كما بيّن أن المجلس المركزي في مصرف لبنان أصدر قراراً العام 2021 يمنع المساس بالتوظيفات الإلزامية، ولم يتمكّن من تنفيذه بالكامل. ويشير المسؤول المالي تحديداً إلى المادة 91 من قانون النقد والتسليف التي تتيح إبرام عقود إقراض بين المركزي والحكومة. ففي مندرجات النص أنه «في ظروف استثنائية الخطورة أو في حالات الضرورة القصوى، اذا ارتأت الحكومة الاستقراض من المصرف المركزي، تحيط حاكم المصرف علماً بذلك».

لكن المشرّع لم يغفل، بالتوازي، أولويةَ حماية الاستقلال الناجز لقرار السلطة النقدية وحمايتها، حيث أورد في المادة عينها، «يدرس المصرف مع الحكومة إمكان استبدال مساعدته بوسائل أخرى، كإصدار قرض داخلي أو عقد قرض خارجي أو أجراء توفيرات في بعض بنود النفقات الأخرى أو إيجاد موارد ضرائب جديدة. وفقط في الحالة التي يَثبت فيها أنه لا يوجد أي حل آخَر، وإذا ما أصرت الحكومة، مع ذلك على طلبها، يمكن المصرف المركزي أن يمنح القرض المطلوب».

كذلك يفترض وفق المادة نفسها أن «يقترح المصرف على الحكومة، إن لزم الأمر، التدابير التي من شأنها الحد مما قد يكون لقرْضه من عواقب اقتصادية سيئة وخصوصاً الحد من تأثيره في الوضع الذي أعطي فيه، على قوة النقد الشرائية الداخلية والخارجية».

ويلفت المسؤول المالي نفسه في هذا السياق إلى أنه ووفق إفصاحات فريق الحاكمية «فإننا أمام مفترق طرق. والاستمرار في نهج السياسات السابقة في ظلّ إمكانات المركزي المحدودة يعني أنّه لا بدّ من الانتقال إلى وقف تمويل الدولة بالكامل، ولن يتمّ التوقيع على أيّ صرف لتمويل الحكومة إطلاقاً خارج القناعات وخارج الإطار القانوني لذلك».

وفي المقصد ذاته، يلاحظ نائب رئيس الحكومة «أن قانون النقد والتسليف يمنح مصرف لبنان الاستقلالية التامة وذلك لإبعاد السياسة عن التدخل في إدارة السلطة النقدية، والتي تخوّله أن يمتنع عن تمويل العجز في الموازنة وألاّ يرضخ لأي طلب من أي سياسي كائناً من كان»، ليؤكد بالتالي أنه «لا شك أن هذا يتطلّب من القيادة الجديدة في هذا المنعطف الصعب إقداماً واستعداداً للابتعاد عن الطبقة السياسية والتصرّف بشكل مستقل، مع التركيز على المهام الرئيسية المتعلقة بالسياسة النقدية، من دون الدخول في مسائل ليست في نطاق عمل البنك المركزي».

وبالمثل، أكد منصوري في مؤتمره الصحافي (الاثنين) «اقتنعنا بأنّه لا يُمكن تغيير السياسات الموجودة ونؤكد على استقلالية مصرف لبنان، وأرسلنا كتباً إلى وزارة المالية وأصدرنا قراراً عن المركزي يقضي بأنه لا يجوز المسّ بالتوظيفات الإلزاميّة تحت أيّ مسمى أو ذريعة، وأقنعنا الحكومة أنّه يجب وقف سياسة الدّعم، ونتيجة لذلك بدأ الاقتصاد يتعافى نسبياً، ولكن بقيت حاجة الحكومة للدولار من مصرف لبنان مستمرّة لأنّ الحلّ الوحيد يكمن في إصلاح المالية العامة».

وقال: «نحن إما أمام الاستمرار بالنهج السابق والسياسات السابقة وموجودات المصرف محدودة، ومن هنا لا بد من الانتقال الى وقف تمويل الدولة بالكامل»، لافتاً الى «أننا مستعدون لنكون الى جانب النواب يومياً لتزويدهم بالأرقام والمعلومات».

وأشار الى أنه «لن يتمّ التوقيع على أيّ صرف لتمويل الحكومة إطلاقاً خارج قناعاتي وخارج الإطار القانوني لذلك»، موضحاً أنه «لا يمكن للبلد أن يستمر من دون إقرار القوانين الاصلاحية خلال الأشهر الستة المقبلة، وهي موازنة 2023 ولاحقا موازنة 2024 ضمن المهل الدستورية، وقوانين الكابيتال كونترول وهيكلة المصارف وإعادة التوازن المالي».

وأضاف: «ننظر الى فترة انتقالية قصيرة تسمح بتمويل الدولة بموجب قانون. وتشريع الصرف من التوظيفات الإلزامية من مصرف لبنان يجب أن يكون مشروطاً برد الأموال ويجب ان يكون التشريع لفترة محددة ومشروطة وسيسمح القانون بدفع الرواتب بالدولار وفق منصة صيرفة».

وأكد أن «ما يعزز الاستقرار، هو القانون المقترح الذي ستطلب الحكومة اقراره، والذي يعزز قدرات المصرف المركزي على التدخل في سوق القطع في حال محاولة أي من المضاربين التلاعب، مع التأكيد أن القضاء والقوى الأمنية تراقب عن كثب أي محاولات للتلاعب في سوق القطع».



إقرأ المزيد