جريدة الأنباء الكويتية - 12/12/2025 12:47:05 AM - GMT (+3 )
بقلم د. يعقوب يوسف الغنيم
هذا هو المقال الثاني من المقالات التي نأمل في استكمالها وهي ـ كما ذكرنا في المقال الأول ـ متنوعة، ولكنها ذات علاقة بالكويت: وطنا وسكانا، وسوف يكون العنصر الغالب على ما تقدمه هنا هو ما يلقي الضوء على بداية تحرك بلادنا بكل ما تملكه من طاقات تتمثل في قيادتها وأبنائها لكي تطلع على تطلع العالم، وتكتسب مما فيه من مظاهر التقدم والتطور. ولقد كانت هذه الفترة التي سوف تكون موضع الحديث في هذا الفصل فترة مهمة في تاريخ بلادنا، وذلك لأنه بالإضافة إلى تطلع الكويت إلى الخارج، فقد كان عدد كبير من المهتمين والمسؤولين يأتون إليها من بلدانهم للاطلاع على كل جوانب الحياة عندنا. ولقد كانت فترة مهمة كثر فيها عدد هؤلاء الزوار رغبة منهم في الإلمام بمعلومات عن الحراك الكويتي الذي بدأ في الانطلاق. وقد قاموا بتسجيل انطباعاتهم ووجهات نظرهم بهذا الخصوص، وكتبوا كل انطباعاتهم في تقارير ظلت محفوظة إلى يومنا هذا. وهذه ثلاثة أمور نعرضها هنا، وفيها إيضاح لما سبق:
أول حالة نتطرق إليها هنا هي المتعلقة بالتعليم في البلاد، وهو منذ سنة 1936م تحت قيادة مجلس المعارف ودائرة معارف الكويت. وقد كان لهذا المجلس دوره الكبير في تنمية الحركة التعليمية بدأ من التوسع في إنشاء المدارس، واستمر في ذلك بإرسال البعثات الطلابية للدراسة في الخارج من أجل نيل التخصص المفيد لحاجة البلاد من أبنائها المتعلمين.
كانت أول بعثة رسمية ترسلها الكويت من أجل الدراسة في مصر مكونة من أربعة طلاب أرسلوا في سنة 1939م، ثم تلتها بعثة أخرى في سنة 1943م مكونة من سبعة عشر طالبا، وازداد العدد كثيرا في سنة 1945م بإرسال سبعة وثلاثين طالبا.
وقد دل هذا التسارع في أعداد الطلاب الموفدين على اهتمام الكويت آنذاك بإعداد طبقة عميقة الثقافة تنهض بشؤون البلاد في مختلف الاختصاصات.
وقد دعت الحاجة إلى جمع هؤلاء الطلاب في سكن واحد حتى يتيسر لهم مجال الدراسة والتحصيل العلمي، بالإضافة إلى الاستقرار والراحة النفسية في كنف الإشراف الفني الذي يهيئه المشرف على البيت الذي تقرر أن يكون مركزا ثقافيا نافعا للطلاب، وقد اهتمت دائرة المعارف بإنشاء هذا البيت، وبعد صعوبات جمة أمكن تذليلها، وافقت على إنشاء «بيت الكويت بمصر» وافتتح رسميا في الأول من أكتوبر لسنة 1945م. وكان يضم ـ آنذاك ـ ستة وخمسين طالبا، موزعين على المدارس الثانوية والتجارية ومعاهد المعلمين وغيرها.
أصدر «بيت الكويت» مجلة البعثة التي عبرت عن جهود العاملين فيه، وعن أنشطة الطلاب المختلفة، وظلت تصدر سنين طويلة حاملة مشعل الثقافة والأدب فاتحة ذراعيها لأبناء الكويت كي يجدوا مجالا رحبا للتعبير عن خلجات أنفسهم. وقد تحدثت هذه المجلة في أول عدد من أعدادها عن بيت الكويت، وكيف نشأ، وما هو الغرض من إنشائه، ومن ضمن ما قالته:
«إن الغرض الذي قصد إليه إنشاء البيت ليس محصورا في أن يكون مجرد مأوى للطلبة يؤون إليه بعد أن يتلقوا دروسهم في مدارسهم المختلفة، بل إن هناك غرضا أكثر أهمية من هذا وأبعد أثرا في حياة الطلبة المستقبلة».
وكان مجلس المعارف بالكويت قد رفع رسالة بتاريخ الخامس من شهر يونيو لسنة 1945م إلى الشيخ أحمد الجابر الصباح يبلغه فيها بأن المجلس قد أقر مشروع إنشاء بيت الكويت بمصر، وأنه قد قدر له مبلغ عشرة آلاف جنيه مصري ما عداد الإيجار السنوي، وقد مضى المجلس في رسالته يبين أوجه صرف هذا المبلغ، ويحدد الجهات التي ساعدت على التوصل إلى هذه النتيجة. ومنذ تاريخ هذه الرسالة والعمل في بيت الكويت مستمر، وعدد الطلاب يزداد إلى أن صار عددهم أكبر من أن يحتويه هذا البيت، فتم بعد سنوات، وبعد أن أصبح جميع الطلاب من الجامعيين السماح لهم بالسكن في شقق خاصة، وأصبح بيت الكويت مقرا فنيا وإداريا للمتابعة إلى أن نشأت سفارة الكويت بعد سنة 1961م.
أما نص الرسالة فهو كما يلي:
حضرة صاحب السمو الشيخ أحمد الجابر الصباح المعظم
تحية وإجلالا
لي الشرف بأن أرفع إلى سموكم موافقة مجلس المعارف على تنفيذ مشروع بيت الكويت الذي قدر له مبلغ (10000) جنيه مصري ما عدا الإيجار السنوي.
وقد اعتمد مبلغ (6000) جنيه مصري تصرف على الوجه الآتي: شيك رقم 2500 لتأثيث بيت الكويت حسب تقدير المجلس البريطاني.
1500 إيجار سنوي للبيت حسب تقدير مجلس معارف الكويت.
2000 رصيد يصرف منه على الأبواب الآتية لحساب السنة المكتبية المقبلة سنة 45-46.
أ - مصرف جيبي لأعضاء البعثة الثانية من أول يوليو 1945م إلى بدء تنفيذ النظام الجديد عند افتتاح بيت الكويت.
ب - كتب مدرسية وكتب لمكتبة المعارف وآلة جستتنر وأدوات لمدارس البنات والأطفال.
ج - مصاريف سفر لجميع المعلمين والمعلمات الجدد الذين ينتدبون للعمل في معارف الكويت وكذلك الذين جددوا عقودهم من المعلمين السابقين.
وأما المصروفات الخاصة بإدارة المنزل والطعام...إلخ فسيدفعها المجلس على ثلاث دفعات سنوية مقدما وتدفع الدفعة الأولى بمجرد إخطار المجلس باستئجار البيت نهائيا.
وقد سبق أن خابر مجلس المعارف الحكومية المصرية رسميا بتيسير إيجاد سكن للطلبة الكويتيين في القاهرة.
ويشكر مجلس معارف حكومة الكويت المجلس البريطاني بالقاهرة لجهوده المشكورة على تلك المعاونة ويتقدم برجاء خاص إلى المجلس البريطاني في القاهرة بتيسير مهمة مجلس المعارف المالية بقدر المستطاع.
وتفضلوا سموكم بقبول أسمى احتراماتي.
هذه معلومات عن أحوال العمل بنظام البعثات الدراسية التي قامت بها الكويت عن طريق دائرة معارفها منذ وقت مبكر. وقد جاءت نتائج هذه الجهود مبهرة، وخرجت عددا كبيرا من المتخصصين من أبناء البلاد في مختلف المجالات.
كانت سنة 1950م من أهم السنوات التي مرت في تاريخ الكويت، فقد كانت من السنوات التي حدثت فيها أحداث جسام كان أهمها وفاة الشيخ أحمد الجابر الصباح، ثم تولى الشيخ عبدالله السالم الصباح لمهام الحكم في البلاد. وهذا ملخص يحتوي على ذكر شيء من خفايا هذه السنة.
في شهر يونيو لسنة 1950م كانت المساعي البريطانية جادة في اقتناص بعض ما يمكن اقتناصه من الثروة الكويتية التي جلبها ظهور النفط. وقد قامت مجموعة من الصناعيين والسياسيين البريطانيين بمقابلة الشيخ عبدالله السالم لاقتراح استثمار جزء من موارد بلاده في مشروعات تجارية وصناعية، منها بناء أسطول لناقلات النفط، وكانت إحدى الرسائل الواردة في وثائق الممثلية البريطانية في الكويت، الصادرة بتاريخ السادس عشر من شهر يونيو لسنة 1950م تقول: «إذا كان شيخ الكويت سوف يستثمر أمواله في بناء ناقلات النفط فإنه سيكون من الممكن إغراء الشيخ إذا هو قرر بناء ناقلات للنفط أن يبنيها في إنجلترا، وإذا حدث وتم بناء الناقلات في مكان آخر فإن الصناعة في المملكة المتحدة لن تكسب شيئا».
٭٭٭
استمع الشيخ عبدالله السالم إلى كثير من الأفكار التي عرضت عليه، ولكنه لم يسع إلى إخراج أي منها إلى حيز الوجود إلا في حدود ما تقتضيه مصلحة وطنه، ولما كان من أهم المشروعات التي كانت مجال العرض مشروع ناقلات النفط، فقد اتجه إلى تنفيذه بعد دراسة وافية، فتأسست في الكويت «شركة ناقلات النفط الكويتية» التي أعلن عن قيامها في سنة 1957م، وهي شركة مساهمة روعي ـ منذ البداية ـ أن تكون ملكا لأكبر عدد ممكن من الكويتيين، ولذلك ـ وقبل أن يوجد قانون للشركات ـ وضع حد أعلى للمساهمة فيها، بحيث لا يزيد عدد ما يملكه كل مساهم عن عشرة آلاف سهم. وكانت هذه الشركة في طليعة الشركات الكويتية المساهمة من حيث كثرة عدد المساهمين، وحجم رأس المال. وقد قامت في سنة 1962م بطرح مناقصة عالمية لبناء ناقلتين حمولة كل واحدة منهما 57000 طن، وقد رست هذه المناقصة ـ بخلاف ما كان البريطانيون يتمنون ـ على شركة ساسيبو اليابانية. وقد أطلق على إحداهما اسم الصبية وعلى الأخرى اسم وربة.
بدأت الكويت منذ هذا الوقت في الاعتماد على نفسها في تنمية مدخراتها، واستثمار فائض أموالها دون أن تتيح لأي كان فرصة التحكم في مواردها، ثم اتسعت أعمال الاستثمار بحيث شملت آفاقا بعيدة وأنشطة متعددة.
منذ تولى الشيخ عبدالله السالم الصباح الحكم، والجانب البريطاني يحاول الضغط عليه من أجل الحصول على مكاسب يستفيد فيها بما حصلت عليه الكويت من أموال نتيجة تدفق النفط، وغزارة الأموال التي حصلت عليها بعد ذلك. ولم يكن البريطانيون يريدون الاستفادة بقدر الإمكان من الأموال الكويتية فحسب، بل كانوا يريدون أن يبعدوا الكويت عن التعامل مع الدول الأخرى حتى ولو كانت هذه الدول مفيدة لها من حيث جدوى التعاون الاقتصادي معها، ومقدار الاستفادة المادية من جراء التعامل التجاري في كافة جوانبه.
وفي الأيام الأخيرة من حياة الشيخ أحمد الجابر الصباح وبالتحديد في يوم الثالث والعشرين من شهر يناير لسنة 1950م، كان الاقتراح الصادر من الممثلية البريطانية في الكويت يدعو إلى الاهتمام بفترة انتقال الحكم، وأن يتم إقناع الأمير الجديد بوجود مستشار بريطاني له، وكان أمل البريطانيين أن يقبل الشيخ عبدالله السالم هذا الاقتراح وهو في فترة عصيبة - كما ظنوا - ولكن ظنهم خاب ورفض هو الآخر اقتراحهم هذا كما رفضه من قبله الشيخ أحمد الجابر الصباح.
وتأكيدا لهذه الرغبة البريطانية جاء في تقرير من الممثلية البريطانية في الكويت المؤرخ في السابع من شهر فبراير لسنة 1950م، ما يلي: «ولم يكن الشيخ السابق يقبل على الإطلاق وجود مستشار بريطاني سياسي، وهو مركز كنا دائما مهتمين به، بسبب تطور الكويت السريع، والدخول الضخمة التي سوف تأتي من النفط وقد ضغط المندوب البريطاني على الشيخ عبدالله السالم ليقبل هذا التعيين، ولكن لم يتم ذلك حتى الآن».
هذا، ومنذ الحادي والثلاثين من شهر يناير لسنة 1950م، والبريطانيون يحاولون جس نبض الأمير الجديد حتى يحيطوا بأفكاره التي يضمرها لمستقبل بلاده، ولكنه كان يتحدث في هذا الوقت مع المندوب السياسي البريطاني في الكويت عن أمور وصفها المندوب بأنها (ليست تقليدية). وكان منها حديثه عن العملة الدارجة في الكويت ورغبته في أن تكون هناك عملة موحدة للخليج. ومنها حديثه عن المنطقة المحايدة، مؤكدا أن الحل الأمثل هو التقسيم، وذلك ما حدث فيما بعد. وفي الوقت الذي كان المندوب السياسي في هذه المحادثة يصر على إثارة موضوع المستشار السياسي، والإدارة المالية لحكومة الكويت، كان الشيخ يثير موضوعا آخر عن مياه الشرب التي تحتاج إليها البلاد، بل إنه كما جاء في التقرير المكتوب عن هذه المحادثة (لم يواصل المناقشة).
نحن الآن في ربيع سنة 1954م، وسوف نتحدث عن موقعين من المواقع الكويتية المعروفة هما: المقوع وملح، وذلك لتجاورهما من جهة، ولاحتمال أن يكون اسم ملح كان في القديم يضم أرض المقوع بكاملها لعدة أسباب منها:
أ - إن موقع ملح قديم الذكر في الكتب، ووقعت فيه أحداث قديمه ومتأخرة، وسوف نورد الأشعار التي ذكر فيها فيما بعد.
ب - إن موقع ملح متسع يشمل ما يطلق عليه هذا الاسم كما يشمل بحرة ملح، وهي شق في الأرض تملؤه مياه الأمطار عند هطولها، ويتدفق منها إلى أماكن متعددة.
ج - إن المقوع ليس له ذكر قديم ولم يبرز إلا بعد أن استغلته شركة نفط الكويت حين بدأت أعمالها. وهو متكون من مرتفعات ومنخفضات تشبه في شكلها سطح ملح.
كل هذا يدعو إلى الظن، والظن فحسب، أن اسم ملح كان يشمل ملح والمقوع في القديم.
تحدثنا يوما عن العدان، وذكرنا أنه ينقسم إلى قسمين، أحدهما بري والآخر بحري بمعنى أنه ملاصق للبحر، وقد ذكر كل من لوريمر وهارولد ديكسون المواقع التي يتكون منها العدان البري وكان منها ملح والمقوع.
والمقوع هو كما وصفه لوريمر يتكون من خمسة آبار عمقها 18 قدما، والمياه صالحه للشرب، وكان على الطريق المؤدي إلى الأحمدي، ولكن هذا الطريق أصبح غير مألوف بعد إنشاء الطرق الأخرى الموازية، وكذلك إنشاء مطار الكويت الذي قطع ذلك الطريق.
وفي المقوع بعض نشاطات شركة نفط الكويت، وكان فيه بعض البيوت، ومستشفى، ثم تحول هذا المستشفى وبعض المباني هناك إلى مدرستين إحداهما للبنين والأخرى للبنات، وقد أصبحت هذه المنطقة خالية في الوقت الحاضر من السكان، وذلك بعد نمو عدد من المناطق القريبة منها مثل الفروانية، وأبرق خيطان، إذ إنه لا يفصل بين الموقعين إلا المطار، بالإضافة إلى أن المنطقة غير صالحة للسكنى بسبب الأعمال النفطية وتأثر الجو بهذه الأعمال مما خشي معه التأثير على صحة السكان، ويبعد المقوع عن مدينة الكويت مسافة 26.5 كيلومترا.
وأما ملح فهو موقع مجاور للمقوع إلى الغرب منه بمسافة ثلاثة كيلومترات، وكان فيه موضع مخصص للمقاولين الذين يعملون في مجال النفط.
وملح كما أشرنا فيما مضى موقع قديم لبني تميم فيه ماء مذكور في كتب الأماكن، وقد ذكره الشاعر الأموي جرير وهو شاعر تميمي فقال:
يا أيها الراكب المزجي مطيته
بلغ تحيتنا لقيت حملانا
بلغ رسائل عنا خف محملها
على قلائص لم يحملن حيرانا
كيما نقول إذا بلغت حاجتنا
أنت الأمين إذا مستأمن خانا
تهدي السلام لأهل الغور من ملح
هيهات من ملح بالغور مهدانا
وهنا نذكر ما قاله العلامة الشيخ حمد الجاسر بهذا الخصوص حين علق على قول الإمام محمد بن موسى الحازمي المنشور في كتابه الأماكن وهو من تحقيق الشيخ حمد (2/857).
كان الحازمي قد قال عن ملح (بفتح الميم واللام) أنه من ديار بني جعدة باليمامة. وكان تعليق الشيخ حمد كما يلي: «وبلاد جعدة في منطقة الافلاج، جنوب اليمامة وما حولها، أما ملح الوارد في قول جرير فأراه الموضع الذي لا يزال معروفا في منطقة الكويت، حيث بلاد تميم قديما». وأردف ذلك بقوله: «وأراه الوارد في شعر الأعشى».
أما ما جاء في شعر الأعشى، فهو ضمن القصيدة التي مدح بها إياس بن قبيصة الطائى. ومنها:
إنما نحن كشيء فاسد
فإذا أصلحه الله صلح
كم رأينا من أناس هلكوا
ورأينا المرء عمرا بطلح
أفقا يجبى إليه خرجه
كل ما بين عمان فملح
(طلح: نعمة ورفاهية، الأفق: البالغ نهاية الكرم).
إذن فموقع ملح مشهور منذ القدم، تشهد له الأشعار التي ذكرناها، بل إن بعض الشعراء المتأخرين عن جرير كانوا يوردون ذكره في أشعارهم، ومن أولئك الشاعر المدائني وهو من متأخري العصر العباسي إذ يقولك:
حننت وأين من ملح الحنين
لقد كذبتك ـ يا ناق ـ الظنون
ويقول:
فسقي الدار من ملح ملث
تحصحص في أسرته الحصون
إلى أن تكتسي زهرا قشيبا
معالمها، وتعتم الحزون
وهذا الذكر الواسع مع عدم ذكر المقوع هو ما أثار ظننا بأن اسم ملح يشمل الموقعين، اذ لم نسمع عن المقوع في الشعر إلا ما قاله شاعر الكويت فهد العسكر عند زيارة له قصيرة لتلك المنطقة:
أشجى الرفاق تأوهي وتوجعي
وتمنعي عن شربها في المقوع
وأنا الذي بالأمس إن هي شعشعت
كم زف لي قدحي وغير مشعشع
وهي قصيدة طويلة يشكو فيها ما يعانيه من زمنه، ومن عقوق أبناء وطنه:
وطني ولي حق عليك أضعته
وحفظت حق الداعر المتسكع
٭٭٭
أقدم ما جاء في الكتابات الحديثة عن ملح والمقوع ما ذكره لوريمر في موسوعته «دليل الخليج»، فقال عن المقوع: «يقع على بعد ميل واحد جنوب ملح، به خمس آبار عمق كل واحدة منها ثماني عشرة قدما، والمياه صالحة للشرب».
ويلاحظ أنه لم يتحدث عن ملح بأكثر من هذه الاشارة، واسم ملح اليوم منحصر في الجزء الغربي من المقوع.
وجاء هارولد ديكسون بعد ذلك بزمن ليقول في كتابه «الكويت وجاراتها» ما يلي:
وبدأ في الوقت نفسه انتاج حقل الاحمدي الذي لم يتقدم أو يتأخر عن مواعيد المقوع، وبذلك صارت الحقول الثلاثة المتقاربة: برقان والمقوع والأحمدي تنتج نفطا غزيرا، وصار يطلق على هذا الثلاثي اسم: «حقل برقان الكبير».
في شهر ديسمبر لسنة 1958م نشرت مجلة النفط اللندنية مقالا عنوانه: «التحقيق في أسرار حقول نفط الكويت»، وقد ترجمته ونشرته في حينه جريدة «الكويت اليوم» الرسمية، ومما جاء في المقال حول تشكيل المستودع الثلاثي الذي أشرنا إليه ما نقدمه في ما يلي: «يعتبر تشكيل مستودع برقان المقوع الأحمدي، تشكيلا مركبا إذ إنه مستودع ذو مساحة كبيرة جدا ولكنه بذي عمق كبير تحت الأرض، ويتكون هذا المستودع من ثلاثة خزانات ثانوية منفصلة عن بعضها البعض، وتختلف الخامات الموجودة في كل من هذه الخزانات اختلافا طفيفا في تركيبها، فتعتبر خامات الأحمدي خفيفة، وخامات الموقع متوسطة وخامات برقان ثقيلة، وفي الأحمدي توجد كميات كبيرة من الغاز، بينما لا توجد أي كميات من الغاز في برقان، وتوجد منه كميات قليلة في المقوع».
ويبدو أن تركيب النفط في الأجزاء القاعدية من الخزان متشابهة في مستوياته المختلفة إلا أن كثافته تزداد بزيادة العمق.
وقد تساءل الكاتب مندهشا عن كيفية حدوث هذا التجمع النفطي في منطقة كبيرة واحدة؟ وكيف تم توزيعه داخل الخزان؟ وهنا أورد الكثير من الاحتمالات التي أدت إلى هذه النتيجة، ولكن المقام لا يسمح لنا بإيرادها.
٭٭٭
لا بأس في نهاية حديثنا هذا في أن نورد بعض المتفرقات عن المقوع الذي كان في يوم من الأيام مقرا كبيرا من مقرات العمل النفطي، وكانت فيه بعض المرافق العامة وكان فيه عدد لا بأس به من السكان، وإن كان بقاء كثيرين منهم مؤقتا بحسب حاجة العمل، وهذا هو ما يمكن أن نقوله في المتفرقات التي أشرنا اليها:
1 - كان عدد السكان يزيد وينقص بحسب الحاجة إلى العمالة بمختلف درجاتها، فقد كان عدد هؤلاء في سنة 1965م، زهاء خمسة آلاف ومائة وأربع وثلاثين نسمة، ثم ازداد العدد زيادة كبيرة في سنة 1970م، ليصبح ثمانية آلاف وثلاثمائة واثنتين وعشرين نسمة، وقد عاد العدد بعد هذا الارتفاع إلى الانخفاض التدريجي، لأن الأمر قد استقر باكتشاف النفط وعمل تمديدات إسالته إلى ميناء الاحمدي، فاكتفت شركة نفط الكويت بمركز التجميع الذي يحظى بالحراسة والعناية.
2 - عندما كانت أعداد الناس على الصورة السابقة كان للمقوع أمير عينه أمير البلاد ليتولى فض المنازعات بين السكان، ومراعاة احتياجاتهم وتمثيلهم لدى الدوائر الحكومية القريبة منه وبخاصة في الاحمدي، وكان آخر أمير للمقوع هو المرحوم مرشد الشمري.
3 - مرشد بن عايد الشمري من أبطال معركة الجهراء المعروفين (1920م) وكان له موقف مشهود أكد بطولته، ولد في سنة 1898م، وفي المعركة كلفه الشيخ سالم المبارك الصباح قائد الجيش الكويتي آنذاك بالذهاب إلى العاصمة لطلب النجدة من أهلها، وقد اخترق بحصانه الحصار الذي كان مضروبا على القصر الأحمر، ووصل إلى الكويت في اليوم الحادي عشر من شهر أكتوبر لسنة 1920م، وكان لهذه الحركة التي قام بها دور كبير في إنهاء الحرب وخذلان المعتدين، ولم تنس له الدولة هذا الموقف فأطلقت اسمه على أحد شوارع الجهراء حيث بدت بطولته هناك.
4 - لا ننسى أن نشير هنا إلى أن اسم المقوع إنما جاء من اسم القاع، وفي اللهجة يطلق اسم (المقوع) على المنخفض في البر وفي البحر، ولذا فإننا نستطيع أن نقول إن لفظ المقوع له دلالة على شكل من أشكال سطح الأرض، ولا غرابة في أن نرى الاسم في مكان آخر، وها نحن اليوم نجد ما يطلق عليه اسم المقوع الشرقي تمييزا له عن المقوع الآخر.
وكان هذا المقوع في شرقي العاصمة ولايزال معروفا بهذا الاسم حتى اليوم، استغلته الحكومة في السابق فأنشأت على أرضه عددا من المساكن لذوي الدخل المحدود وزعتها على طالبي السكن. وكان قبل ذلك مجموعة من الحفر التي كانت تستغل لعمل الجص، وهذه الحفر هي التي أعطته اسم: المقوع.
٭٭٭
هذا ما أردت تقديمه، ولقد صار جزء من تاريخ الكويت في الزمن المذكور في ثنايا الموضوعات التي تقدمت هنا. وآمل في أن يتكرر عرض مثل هذا العمل مستقبلا من أجل إتاحة الفرصة لمن أراد يطلع على المزيد.
إقرأ المزيد


