التعليم... التعليم... التعليم
جريدة الراي -

أبدأ الافتتاحية اليوم بقصة قصيرة.

20 نوفمبر 2025

8 نوفمبر 2025

شبه جزيرة صغيرة جداً، كانت مستعمرة بريطانية فقيرة فيها مرفآن بحجم موقِفَي سيارات تمّ استغلالهما في ما عُرف بـ«مستوطنات المضائق». لا موارد فيها ولا حتى بنى تحتية، كانت حتى عبئاً على المستعمر الذي غادرها وتركها لمصيرها. قرّرت الانضمام إلى دولة شمالية أكبر. أيضاً، ليس واضحاً من ضاق ذرعاً بالآخر، الكيان القائم أم الوافد، خصوصاً مع ظهور توترات عرقية بين المكونات الاجتماعية، لكن النتيجة أنّ انفصالاً حصل وعادت هذه المنطقة لتواجه مصيرها بنفسها... وسُمّيت «الدولة اليتيمة».

هذه «الدولة اليتيمة» كادت الفوضى تبتلعها خصوصاً مع غياب أي مقومات للعيش. الماء يُستورد من جار الشمال، الأتربة المستخدمة في الزرع والبناء تُستورد عبر السفن الصغيرة. الشوارع ترابية تستوطنها المخلّفات الطبيعية والصرف الصحي. ثلاثة أعراق تتخاصم والطبقة السياسية فيها تزرع الفساد داخل كل شيء حتى خُيّل للمراقبين أن الفساد هو الدولة وهي جزء بسيط منه.

محامٍ، متعلمٍ، راقب دولته وهي على شفا انهيار. خاض العمل السياسي وصار رئيساً للجمهورية. قدّم له المستشارون ألف خطة للنهوض، فتجاهلها كلها، وأعلن خطة من 3 كلمات: التعليم، التعليم، التعليم.

رأى أن التعليم هو المدخل الإلزامي لإنتاج رأس المال البشري، وهو من سيجلب الرساميل والاستثمارات، وهو من سيؤسّس الصناعات المتقدمة، وهو من سيحوّل الجغرافيا القاحلة إلى ثروة، وهو من سيعزّز الوحدة الوطنية ويذيب الأعراق في بوتقة واحدة، وهو من سيحارب الفساد ويقود الإصلاح. ومن شعار«التعليم، التعليم، التعليم» انبثق شعار مؤسّس له هو «المعلم، والمعلم، فالمعلم» كونه الحاضنة الإنتاجية. أما الرافعة الأعلى فكانت سيادة القانون على الجميع.

لا حاجة للقول أين أصبحت «المستوطنة» السابقة الآن. وما هو ترتيبها بين الكبار، وكيف صار اسمها أيقونة نجاح... هي سنغافورة، وهو لي كوان يو.

القصة الآسيوية مدخل إلى القصة الكويتية. هم بدأوا من تحت الصفر، ونحن ولله الحمد عندنا الموقع والإمكانات والثروات والتاريخ والمجتمع والمؤسسات. كنتُ دائماً أكرّر عندما نقارن بغيرنا أنّنا كمثل شجرةٍ جذرها ضارب 50 متراً في الأرض ومتنها الظاهر بالأمتار، أما غيرنا فمثل شجرةٍ جذرها متر واحد في الأرض ومتنها الظاهر خمسون متراً... لكن الجذور والأمتار لا تكفي لتكتمل الحكاية. الحكاية في موقع آخر. في التربية والتعليم والمدرسة والأستاذ والجامعة والمنهج.

باختصار وبأسلوب مباشر، لن تستقيم التنمية في الكويت ولن نعبر إلى مستقبل أفضل إن لم تحدث ثورة حقيقية في قطاع التعليم.

ثورة تبدأ بالمُعلّمين أنفسهم وتأمين كل مقومات التطور والنجاح لهم، وابتعاثهم الدائم في دورات تأهيلية للوقوف على كل ما هو جديد وحديث، وتهيئة مناخات عمل تسمح لهم بإطلاق عمليات الخلق والإبداع. ولا أبالغ إن قلت إن المبادئ النظرية لعمل رجال القضاء بكل مندرجاته من حيث الاستقلالية والتركيز العملي وتقديم ما يسمح بالاكتفاء والعطاء يجب أن تكون موجودة بصورة أو بأخرى للمُعلّمين كونهم مسؤولين مباشرة عن إعداد أجيال الكويت.

من المُعلّمين إلى المناهج. وهل من سر في هذا الكون في موضوع المناهج؟ لا أسرار عندنا ولا عند غيرنا. المناهج في الكويت لا تحتاج إلى تغيير أو تطوير، بل ربما إلى نسف وإعادة بناء، وكنت كتبت سابقاً عن بعض النماذج في كتب اللغة والدين والجغرافيا والتاريخ والعلوم ولا داعي لإعادة ذِكرها مكتفياً بالقول إنّها تنفّر ولا ترغّب... تؤخّر ولا تقدّم.

أما المدارس العالمية الناجحة في موضوع توسيع مدارك الطلاب من الحضانات حتى الجامعة فموجودة وتتبارى بين بعضها في التحديث وتتباهى بالنتائج... والأهم من ذلك كله أنها مستعدة لتعميم تجاربها لمن يطلب بل تتمنى أن تساهم في المساعدة.

انشغلنا هنا بأمور كثيرة بينما مدارس المناهج العالمية مفتوحة للحكومات التي ترغب، سواء كان في سنغافورة وكوريا الجنوبية واليابان مثل الكفاءة والتحصيل العالي والانضباط السلوكي، أو في فنلندا وألمانيا وهولندا مثل غرس التفكير النقدي وبناء الشخصية والتعليم المهني... وغني عن القول إنّ كل هذه المدارس تعتمد أعلى معايير التكنولوجيا والحداثة وخلق المهارات التقنية.

يعرف المختصون في الكويت، وأنا لست منهم، أن للمناهج أدواراً قيمية ورسائل إنسانية وطرقاً سلوكية وذهنية، ويندرج تحت هذه العناوين بناء الشخصية والسلامة المجتمعية والتربية الوطنية وترسيخ الوحدة والسيادة وتجريم الطائفية والانقسامات والخطاب المتطرف. كما أن لها أدواراً علمية بحتة تشمل كلّ الميادين من التاريخ إلى الذكاء الاصطناعي... وهذه الأدوار يجب أن تكون في صلب أي رؤية جديدة للمناهج.

المعلم الفاشل سينتج طالباً أفشل، والطالب الفاشل سيهدم مستقبلاً، والمنهج الممل المتأخر الجامد يقضي على الشغف بالتعلم والإبداع. مثلث لا بد من البدء به أي «المعلم والمنهج والطالب»، خصوصاً أنّ العلم لم يعد مساراً لإيجاد عمل فحسب أو للتكسب بل صار حياة لأوطان تستحق الحياة.

في الكويت التي تعبرُ مفصلاً تاريخياً في مسيرتها وتكرّس كل الإمكانات لموضوع التنمية، الثورة المطلوبة من الحكومة في قطاع التعليم إن لم تحدث في القريب العاجل فسينعكس ذلك سلباً على التنمية ومشاريعها وبرامجها، بل على مناحي الحياة الأخرى. نريد أن يسجّل التاريخ للحكومة أنها عالجت أحد أصعب الملفات، ونريد أن تشهد الكويت في المستقبل القريب نظاماً تعليمياً لا يُضاهى يشار إليه بالإعجاب... وأن يكون ذلك واحداً من أهم الإنجازات الحكومية لأنه لا يتعلق بحصانة أجيالنا فحسب بل بتحصين وطن.

سنغافورة كانت مستوطنة صغيرة صارت بلداً متقدماً وعالمياً. نحن بلد ولسنا مستوطنة لكننا نريد في التعليم أن نكون... سنغافورة.



إقرأ المزيد