الجزيرة.نت - 11/25/2024 12:24:33 AM - GMT (+3 )
"هل تعرف ماذا وقع للإخوان؟ أرادوا أن يأخذوا مهمة الله!!"
عبد الإله بنكيران
لو أعلنت الإذاعة الرسميّة في المغرب أن السيد عبد الإله بنكيران رئيس وزراء المغربي الأسبق سيخرج في الثالثة والنصف ليلًا، في مشاركة قصيرة، يسرد فيها حروف الهجاء العربية بصوته، لأنارت أكثر مباني المغرب قبل أذان الفجر ثقة منهم بأن السيد سيسرد الحروف بطريقة غير تقليديّة! هو رجل قد أجمع محبوه وناقدوه على متابعته وتسقّط أخباره، وقد عوّدهم هو على مفاجأتهم!
"لا أريد أن أجري حوارًا صحفيًّا، وليس لديّ تصريحات، لكن إن أراد أن يزورنا لحديث ودّي فمرحبا به". هكذا تكلم بنكيران، لمنسق لقائي معه.
لم أكن أبحث عن تصريحات جديدة. في الصحافة نمطان؛ نمط يطارد التصريحات والعواجل، وآخر ينتظرها عند خط النهاية، حتى يعرف سياقها والدوافع التي أنشأتها. أميل إلى النمط الثاني.
في حيّ الليمون على بعد كيلومتر واحد من مبنى البرلمان و2 كم من القصر الملكي في الرباط، توقفت السيارة، أشار لي صديقي منسّق اللقاء إلى بيتٍ على مفرق الطريق حيث يلتقي شارعان يغصّان بالأشجار، لم يكن البيت يتميز بشيء عن سائر البيوت في الحيّ، وليس من الصعب تحديده، خاصة حين ترى دركيًّا وضابطًا يرابطان عند باب الدار التي يمكن أن يُجدد صبغ جدرانها، بعد أن أصابت الرطوبة منها، وتدلت عليها شُجيرة ورد جميلة، بدت كغُرّة تتدلى على جبين سيدة حسناء تعاني من تساقط الشعر.
من وراء الدرك، لاح شابٌّ بسّام، اقتربَ مني وصافحني، وقال لي "السي بنكيران بانتظارك". كان ذلك نزار خيرون مدير مكتبه.
صعدنا الدرج الحلزونيّ إلى الطابق الثاني من البيت المسجّل باسم زوجته. رائحة البيت طيّبة، استقبلنا باب المجلس، فوجئت به يقف عن يساري على رأس الممر الذي يؤدي إلى غرف البيت، رجل في عَقد السبعين، يكسو البياض وجهه ورأسه الذي لاث عليه قطعة قماش سيتدثر بها لاحقًا عند جلوسنا. أقبلت عليه بحفاوة، وأنا أتذكّر نصيحة أحد وزرائه لي حين سألته عن مفاتيح شخصيته "السي بنكيران يحب التقدير" استلم يدي بودّ، مرحبا بي، وقادنا إلى غرفة الجلوس.
قرأت في مذكرات الممثل الأمريكي ماثيو بيري وصفًا لافتًا لزوج والدته، رئيس وزراء كندا الأسبق بيير ترودو والد رئيس الوزراء الحالي جاستن ترودو. "كان بيير يتمتع بنوع من الكاريزما، تمكّنه إذا دخل مجلسًا من تحويل كلِّ من فيه إلى قطع أثاث!". في بنكيران كاريزما مشابهة، لكني كنتُ قد عقدتُ العزم على مقاومتها.
أشار إليّ بالجلوس على طرف الأريكة الطويلة، وجلس فيما يليني على أريكة تكاتفها، ولم يعد يفصل بيننا سوى طاولة في الزاوية وضع عليها صورة له مع رفيق دربه عبد الله بها وزير الدولة الذي توفي في حادثة مؤسفة عام 2014.
"هذا أنتَ؟" أشار إليّ ملوحًا بهاتفه، بعد أن دق حروف اسمي في محرك البحث غوغل، وظهرت له قائمة أبحاثي في صفحة تراث في موقع الجزيرة نت.
"نعم" أجبته، وأنا أتزحزح عن مجلسي تاركًا مساحة لمدير مكتبه وهو يحوّل قطعة القماش إلى دثار للرجل المسن، ويساعده على أن يجلس جلسة مريحة، كانت حركة ودٍّ وتقدير لا مهمة عمل.
"إنته ماشي صحفي، إنتَه كاتب أو عالم!، ماذا تريد من الصحافة والمقابلات؟" قال لي بالدارجة المغربية.
"هذه مهنتي التي أحب"، وانتهزت الفرصة لصرف الحديث إلى الغرض الذي جئت من أجله ولم يتحدد لديه بعد، فواصلت "أنا لا أبحث عن سبق صحفي، ولا عن تصريح خاص، لديك أربعون سنة من العمل الحركي والتجربة السياسية، وجئت لأسمع منكَ الخلاصات التي تختمر في ذهنك بعد هذا المشوار الطويل".
"هذي فكرة مزيانة" قال وهو ينظر إلى مدير مكتبه وقد أعجبه الاقتراح، وارتاح إليه. "قبل بضع سنوات، قلت في نفسي، الآن وصلت إلى سن، يقول عنها المغاربة، ’ما بقى قد ما فات’ (=لم يبقَ من العمر مقدار ما مضى منه).
"أطال الله بقاءك" خرجت مني بعفويّة.
"لا، نسأل الله طول العمر في الطاعة في صحة جيدة، ولكن ليس كثيرًا" أجاب بيقين.
ألا تريد أن تصلَ إلى المئة؟ قلت مستفزًا.
"مالنا ولهذا!" رد بفزع كمن ملَّ الحياة.
"نحن هنا في المغرب ندعو بالبركة، حكى لي أحد الإخوة الفلسطينيين عن صحفي كويتي كان صديقا للحسن الثاني، واستدعاه الحسن الثاني لحضور عيد العرش. كان من رسوم الحسن أن يسلم على ضيوفه ويؤانسهم، فلما وصل إلى الصحفي، قال له هل جئت بنكتة من نكاتك هذه المرة؟
قال نعم يا طويل العمر!
فغضب الحسن، وقال: لا تقل هذا في المغرب، وقله في الخليج. نحن هنا لا نسأل طول العمر، ألم تسمع المخازنية (=خدم الملك) ماذا قالوا حين دخلت. ماذا قالوا؟ لم يفهم الصحفي الخليجي الدارجة التي يحيي بها المخازنية الملك، فقال الحسن: يقولون: الله يبارك في عمر سيدي! نحن هنا نطلب بركة العمر لا طوله".
"هذا عجيب!" قلتُ مستحسنًا للمعنى.
"ما سيأتي سيعجبك أكثر" قال لي بصيغة جازمة، منبهًا لي أن القصة لم تنتهِ بعد.
رفع هاتفه وقال "براد صغير ديال أتاي"
وضع الهاتف بجانبه، ونظر إليّ وأكمل القصة.
"قال الحسن للصحفي، إلى أي حد سيطول عمري، هل ترى عشر سنوات تكفي؟
فقال نعم يا سيدي، تكفي!".
"في يوليو عام 1999 توفي الحسن الثاني، وحين بلغ الصحفي خبر وفاته، نظر إلى التقويم فوجد أن عشر سنوات قد مرّت!
والصحفي ما زال حيًّا يرزق، ولعله إذا اطلع على هذه الطُّرفة سيذكرها!".
"أما أنا فقد بلغت السبعين بالهجري والميلادي، أظن في شعبان سأكمل 73 بالهجري. وهناك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيه "أعمار أمتي بين الستين والسبعين وقليل من يجوز ذلك" فقد بدأ الإنسان يطل على القبر وعلى الآخرة بجدّ. قلتُ لنفسي ماذا سأترك لأولادي؟ ليس لديّ ثروة.
فقد عشتُ كفافًا طوال حياتي، كان أحد المساجين مع ولده فسأله عما يملك وعن ذمته المالية، فقال له: ما دون البغل وفوق الحمار! عشتُ حياة معقولة بالمعيار الماديّ، ثم إني فكرت أن أترك لهم ما تعلمته من هذه الحياة.
وأردتُ جمعهم لذلك فلم يجتمعوا! أحدهم منشغل بالرياضة، والآخر بدروس اللغة الإنجليزية، فقلتُ لنفسي أدعهم، وأسجلها لهم، حتى إذا أرادوا أن يتعرفوا على جدهم سيجدون المادة مسجلة. وهي سيرة حياتية وفكرية، أحكي فيها عن الآيات التي استوقفتني وعن الأحاديث التي تربينا عليها في الحركة الإسلامية، وذكرياتي في العمل الجماعي، وهي بضاعة أعلم أن ليس لها زبناء!".
لماذا لا تكتبها؟ سألته
"أجد صعوبة في الكتابة، كتابتي كبيضة الديك".
وماذا عن مستوى الصراحة في تسجيلاتك؟
"أنا من حيث المبدأ لا أقول كل شيء، لكن لا أقول إلا ما أعتقده، أما أن أكذب فمعاذ الله! أظن أن هذا عيب من عيوبي، فأنا لا أشعر بالراحة إلا إذا قلتُ كل ما يعتمل في دماغي!".
هل تعتقد أنك لو كنت مجاملا لتغير مسارك السياسي؟
"أنا مجامل!" قالها وقد قطّبَ حاجبيه. فضحكتُ أنا ومدير مكتبه.
"ربما فيّ من السذاجة ما يجعلني أبوح بأشياء يخفيها الآخرون. مثلا حين أكون في اجتماع ولا أفهم ما يقولون، فأقول لم أفهم، يضحكون مني! وحين يعاد الشرح، أكتشف أني لم أكن الوحيد الذي لم يفهم، لكني الوحيد الذي قلتها!".
تناول البراد الصغير وصبَّ الأتاي رافعًا البراد ليرغي الكأس.
في الثاني من أبريل/نيسان عام 1954 ولد عبد الإله بنكيران في حيّ العكاري في الرباط، وكان حيًّا وسطًا، ليس مغرقًا في الفقر، ولا على طراز أحياء الرباط الأنيقة. ونشأ في فاس -وفاس في المغرب هي أم القرى- في بيتٍ وسط ليس بالكوخ، ولا قصرًا منيفًا، بل بيتًا وسطًا مساحته 112م2، كان والده تاجرًا للألبسة، متصوفًا على الطريقة التيجانية، ولم يكن له أدنى اهتمام بالسياسة، عاش حياته في مخمّسٍ يطوف بداخله، أقطابه: البيت والمسجد ودكانه، والسوق، والزاوية التيجانية. "وكان والدي مقتنعًا بأن معي بركة ما" كذا أخبره.
أما أمه فقد كانت مهتمة بالسياسة وعضوًا في حزب الاستقلال، فعنها أخذ التوجّه، وحين كبر الابن وأسسَ حزبًا منافسًا، بقيت الأم استقلاليّةً. مرَّ الفتى بحزب الاستقلال الذي كان يرأسه الزعيم المغربي علال الفاسي، وبالاتحاد الوطني للقوات الشعبية الاشتراكي الذي انشقّ عن حزب الاستقلال، ولم يتوقف عندهما. تفتّح وعيه على الأحداث السياسية أول ما تفتح على وفاة محمد الخامس (ت 1961) فعاشها بمشاعره، وحين جاءت النكسة (1967) عاشها بوعيه.
هل كنتَ واعيًا وقتها تفهم السياسة؟ سألته.
"شويّة، إلى الآن لا أستطيع أن أقول إني أفهم السياسة جيدًا" قالها بجد مهزول.
لم يكن الفتى الذي قارب الأحزاب الاشتراكية في ميعة شبابه، منبتًّا من جذوره الإسلاميّة التي نشأ عليها، حين كان عمره 14 عامًا حضر مسرحيّة في الرباط لفرقة فلسطينيّة، فلما انتهى العرض وضجّت القاعة بالتصفيق والتبرعات، تسلل الفتى وجاء إلى الفرقة يقول لهم: خذوني للجهاد معكم في فلسطين!" فقالوا له اذهب إلى السفارة المصرية!
التعرف على العمل الإسلاميفي 1975 دخل الفتى مسجدًا فوجد جماعة من الشبيبة الإسلامية يتحدثون فيما بينهم، وجذبه حديثهم، فمال إليهم. قال لأحدهم: الحسن الثاني يقول: إن المغرب لا يصلحه إلا النظام الفردي أو الشيوعية! فقال الشاب: بل يصلحه الإسلام!
فعجبَ الفتى وقال لنفسه: سبحان الله في هذا الكون شاب يؤمن بأن المستقبل للإسلام؟!
وجنَّدوك؟
"استقطبوني، كانوا حذرين، يقولون هذا شاب مليان معلومات، وثمة مخاوف على الزعامة منذ البداية، بسبب نمط الشخصية"
سيحسمون أمرهم عن قريب، ويهدونه إنجيلهم. "أهدوني كتاب معالم في الطريق، ولم أنم حتى أتممته، وأصبحتُ وأنا على الطريق!".
"هنا نحتاج وقفة، في المغرب عندكم حالة مختلفة، ليس لديكم شخصية مرجعية، ليس لديكم الترابي مثل السودانيين، ولا البنا مثل المصريين، ولا الخميني مثل الإيرانيين . كيف اجتمع الشباب وتفاهموا بدون مرجعية؟" سألته مستشكلًا.
"لم نكن نحتاجها فوضعنا مختلف. وذلك لمعنى بسيط، وهو لأن الحركة الإسلامية في الشرق نشأت على أساس استعادة الخلافة، ونحن في المغرب لم نكن تابعين للخلافة المشرقية، كنا بلدا مستقلا خليفته فيه. وخلافتنا ترجع إلى 12 قرنا؛ من عهد مولاي إدريس رحمه الله والمغاربة مجتمعون على السلاطين أو الأمراء -سمهم ما شئت- الذين جاؤونا. فتلك الخصوصية لم تكن عندنا. وأما زعماؤنا الإسلاميون فعندنا علال الفاسي". هل تربيتم على كتاباته؟ "لا، مرجعيتنا الأولى هي الإخوان المسلمون. وهي الحركة التي تعرفت عليها في الستينات وانضممت إليها في السبعينات والتي أسسها عبد الكريم مطيع".
اشرب شايك! قال لي مقربًا مني الكأس.
أخذت رشفة، وثانية وثالثة، ما أجمل طعم الأتاي المغربي! خاصة إذا كنتَ قريب عهد بطعام.
"كانت عندنا تجربة في السجن.. في عامي 81 و82، غيرنا السجن واكتشفت أن هناك أخطاء في الحركة. ما الذي يريده الإسلاميون؟ دولة إسلامية، فهي موجودة وبنص الدستور، نمت في ذهني هذه المراجعات وصرت أفكر فيها وأشاركها إخواني. فاختلفوا معي واصطدموا بي. وذهبت بعيدًا.
"من شعارتنا: الإسلام هو الحل. الإسلام هو حل ماذا؟ الزبدة التي يشتريها المغاربة بدرهم وربع. إذا ارتفع سعرها، كيف سيعالج الإسلام هذه المشكلة؟ الإسلام هو الحق. وليس هو الحل. هو حق من عند الله. وقد يكون مشكلة وليس حلا. النبي دعا للإسلام فحوصر في الشِّعب ثلاث سنوات، هذه مشكلة أم حل؟ مشكلة. وقد وقفت أمام هذا الشعار وقفة صارمة ورفضت أن يوضع في وثائقنا، وتصارعنا. حتى اتفقنا على صيغة "الإسلام هو الهدى".
كيف واءمت بين شخصيتك الصدامية وبين الرئاسة التي تقتضي الشوروية؟
"من قال لك إني صدامي؟" مرة أخرى لم نستطع أنا ونزار كتم ضحكاتنا.
"إذا آمنت برأي سأظل مصرًّا عليه بكل ما أملك".
وينفض الناس عنك؟
"ينفضون. لكني كنت دائمًا ألتزم بالديمقراطية.. لم تكن رئاستي مريحة لي ولا لهم. أتعبتهم وأتعبوني.. هذا اللي أعطى الله!" قالها بانزعاج.
ما الذي يبقيك إذن وأنت غير مرتاح؟
"المسؤولية!" ثم تذكر إنجازاته، فأردف "استطعت بفضل الله تعالى أن أحقق بالمقاييس الديمقراطية ما لا يخطر على بال؛ حين استلمت الحزب أول مرة كان عنده 46 نائبا وبعد ثلاث سنوات صار عنده 107 نواب. وبعد خمس سنوات 125، وعين رئيسه رئيسا للحكومة".
في عام 1986 انتخب بنكيران رئيسًا لحركة الإصلاح والتجديد وسيبقى فيها لفترتين متواليتين إلى 1994. وقتها هجرت الحركة العمل السريّ وخرجت للعلن، وتواصلت مع الجماعات الأخرى، واقتحمت عالم الصحافة، والحياة السياسية، وشكلت حزبا سياسيا سيطلق عليه لاحقًا اسم العدالة والتنمية.
وأصبح بنكيران عضوًا في الحركة والحزب. وفي أغسطس 1996 أعلنت الوحدة الاندماجية بين حركة الإصلاح والتجديد، ورابطة المستقبل الإسلامي، لتولد حركة التوحيد والإصلاح، وفي 2008 انتُخب بنكيران أمينًا عامًّا لحزب العدالة والتنمية. في يوم 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2011 عينه الملك محمد السادس رئيسا للحكومة بعدما احتل حزبه المرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية التي شهدها المغرب يوم 25 من الشهر ذاته، بموجب دستور جديد اقترحه الملك إثر حراك شعبي يطالب بالحريات والديمقراطية والإصلاح وتم تبنيه عبر استفتاء شعبي في يوليو/تموز 2011.
قاد بنكيران حزبه ليفوز للمرة الثانية في انتخابات 2016، واستقبله الملك وكلّفه بتشكيل حكومة بمقتضى الدستور الجديد الذي ينص على أن الملك هو من يعيّن رئيس الحكومة من الحزب الفائز بالانتخابات. ليعود في مارس/آذار عام 2017 فيُقيله ويكلّف زميله في الحزب سعد الدين العثماني الذي أصبح رئيسا للحزب كذلك.
سار العثماني سيرًا وئيدًا في فترته وختمها بتوقيع اتفاقية التطبيع بين المملكة المغربية وإسرائيل، ممارسًا لما كان ينهى عنه وما انتقده يومًا في مقالة له بعنوان "التطبيع إبادة حضارية" نشرها عام 1996 في مجلة الفرقان. بعد أقل من عام من توقيع العثماني على الاتفاقية، كاد حزب العدالة والتنمية يُباد في الانتخابات البرلمانية المقامة في سبتمبر/أيلول عام 2021، حيث عجز عن تحقيق عُشر ما حصله من مقاعد في الانتخابات السابقة، محققا 12 مقعدا فقط.
طالب بنكيران باستقالة العثماني من رئاسة الحزب بعد ما وصفه بـ"الهزيمة المؤلمة". استجاب العثماني، وعُقد المؤتمر الوطني الاستثنائي للحزب في شهر أكتوبر/تشرين الأول، وفي الاستفتاء على منصب رئاسة الحزب حقق بنكيران فوزًا حاسمًا بحصوله على 1012 صوتًا من مجموع الأصوات البالغ عددها 1252.
الباحث عن الحِكمة بعد الخروج من الحُكمأردت العودة إلى حديث الخلاصات، فقلتُ "قرأتُ مرة أن مراد هوفمان، كان له دفتر صغير يدوّن فيه خلاصاته التي برهنت عليها الحياة، فلما بلغ ابنه 18 عامًا دفعه إليه، وقال هذا هديّتي إليك في هذه السن!".
"هذا ما أحاول أن أفعل، لكن بدون أن أكتب".
"من أهم الخلاصات عندي: وقد تفاجئك بعض الشيء؛ أنني خلصت إلى أن الحركة الإسلامية منجم من الخير لكن عندها أخطاء قاتلة، ومنها قناعتها بأن عليها أن تصل للحكم أولا لكي تطبق الدين".
أليس هذا منطقيًّا؟ سألتُه.
"هذا منكر!" رد كالمغضَب. وأكمل بنبرة حادة "وهو ضد الإسلام وضد الإصلاح وأدخلها في متاهات".
"هذا كلام مجمل يحتاج إلى بيان!" قلت له.
اعتدل في جلسته وقد ارتاح إلى السؤال ليقدم خلاصة أنضجها على مدى سنوات، وقال:
"إذا راجعت كتاب الله عز وجل وسنة نبيه ستجد أنه لم يدع إلى الحكم ولا مرة واحدة وإنما دعا للإيمان والعمل الصالح. ثم إن الحركة الإسلامية وعلى رأسها حسن البنا اختطف لبَّها فكرةُ الوصول إلى الحكم؛ فركبت مراكب طلاب الحكم. وطريق الحكم لها منطق وقوانين تسري على السالك فيها سواء كان إسلاميا أو بوذيا. وقعت الحركة الإسلامية في مشاكل بسبب سلوكها تلك الطريق الوعرة، ولم تتوقف لتراجع قناعاتها.
أعلم أن الحركة الإسلامية مليئة بالأولياء والصالحين، ولكنها لم تميّز ما أقبلت عليه. ولم يفهم أصحابها أن ما يقع لهم ليس للمعتقدات التي يحملونها بل بسبب الطريق التي سلكوها والتي مالت بهم إلى المنازعة على الحكم. فانتهى المطاف بكثير منهم إما شهيدا أو سجينًا أو في متاهات لم يخرج منها. وحتى الذي وصل إلى الحكم، لما جاءه، لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب" قال عبارته الأخيرة بيقين من يحكي عن تجربة لا من يتلو نصًّا محفوظًا.
"ما هو الحكم؟ الحكم الذي وصل النبي صلى الله عليه وسلم إليه كان نتيجة طبيعية لاقتناع الناس حوله به وبدينه. حين هاجر إلى المدينة لم يطلب من الأنصار أن يكون حاكما. كانوا يهيئون الحكم لعبد الله بن أُبيّ، ولكن المشروعية تحولت إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فهو لم ينقلب على عبد الله بن أبي ولم يتآمر عليه. وهذي هي الطريقة الطبيعية التي ينبغي أن يوصل الإنسان بها إلى الحكم."
"لم نكن في حاجة إلى هذا الصراع. لقد تحول التنافس على المشاريع الإصلاحية إلى الصراع على الحكم، وتبددت قدرات الأمة وإمكانياتها بين من يحاول الوصول إلى الحكم ومن يريد أن يحافظ على الحكم.
وفسدت العلاقة بين الجماعات الإسلامية والحكام وتبعا بين الشعوب والحكام. وبدل أن تكون الحركة الإسلامية عنصر إصلاح ونصح وتقوية. صارت عقبة. هل تفهمني أم لا تفهم!"، نظر إليّ وعيناه تبرقان!
"أفهمُكَ جيدًا وفي ذهني ألف اعتراض واستشكال!". قلت له وأنا أنتظر أن يهوله العدد، ويستفسر عن بعضها، بدا لي الرجل وكأنه يعاني من اكتئاب سياسيّ حاد.
"لا مشكلة، أضف إليها ألفًا أخرى، واحتفظ بها! هذا هو الواقع، والواقع لا يرتفع بالاعتراض". بداهة بنكيران كالحقائق الموضوعيّة، لا دخل للذات فيها، وبالتالي لن تجدها مهينة. بل لافتة، وربما لذيذة!
"هذا فهم جديد للسيرة النبوية، لم أسمعه من قبل، ويشكل عليه نص بيعة العقبة الثانية "فقُلْنا: يا رسولَ اللهِ، عَلامَ نُبايِعُكَ؟ قال: تُبايِعوني على السَّمعِ والطاعةِ في النَّشاطِ والكَسَلِ، وعلى النَّفَقةِ في العُسْرِ واليُسْرِ" فهذا واضح في أنه هاجر إلى المدينة بصفته قائدًا لا تابعًا. لم أقل هذا له، وإنما اعتمل في ذهني فكان ضمن الاعتراضات الألف الموؤودة.
لا تصدر مثل تلك الأجوبة المفحمة منه بتدبير وتخطيط، بل بالفيض. وبالتالي لا يشعر بها ولا يتوقف عندها. واصل قائلًا وكأنه لم يسجل نقطة على محاوره:
"خذ مثلا حسن الترابي من أصلح من رأيت في حياتي ومن ألمع من رأيت في حياتي. ولست أريد التحدث عن المسرحية التي عملها بدخوله السجن عند الانقلاب. ذلك شيء لم يكن يليق به، وأظن أنه كان أذكى من اللازم! ثم انظر إلى حال السودان اليوم. ولو كان الترابي يعمل ضمن المشروعية مع الصادق المهدي ومع سوار الذهب، لكان أنفع للسودان".
في 1989 خطط حسن الترابي لانقلاب على حكومة الصادق المهدي المنتخبة، وقاد الانقلاب العميد عمر البشير، وبمقتضى الخطة سيق الترابي إلى السجن بتنسيق مع البشير لإبعاد التهمة عنه لكونه العقل المدبر. سيخرج الترابي لاحقًا ويشارك في الحكم على مدى عقد من الزمان، ولأن الكرسيّ العربيّ لا يتسع لاثنين، سيضيق به البشير ويجرّده من مناصبه، وسيبقى البشير على كرسيّه حتى يخلعه الجيش في 2019، ليدخل السودان في خلاف دمويّ بين رئيس المجلس الانتقالي عبد الفتاح البرهان وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو.
"تنظر المجتمعات المسلمة إلى الجماعات الإسلامية في بعدها الديني، ولكنها حين تتصدر للتجاوب مع المطالب الدنيوية في الحكم تفاجأ بأن الأمر مختلف، وأن الموضوع مرتبط بالهيمنة الأمريكية على العالم ومقيّد بالعلاقة مع الغرب الذي يحكم الدنيا منذ أربعة قرون، وأن هناك ظروفًا قاهرة. وأن تلك الظروف لا تسعفهم عادة". كان بنكيران يحكي هذا وعينه مصوّبة على عينيّ، وكأنه رأى أثار الدهشة من كلامه منثورة في ملامحي، فأراد أن يكنسها باستدلال، فقال:
"ثم إني وجدت لهذا حجيته في القرآن الكريم!".
أين؟ قلتُ متفاعلًا معه
"{وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا، يعبدونني لا يشركون بي شيئا}، وهي آية يحفظها كل الإخوان. لكنهم لم يفهموها ببساطتها. إذن مهمة المؤمنين: الإيمان والعمل الصالح! من الذي سيستخلفهم؟ الله الذي يستخلف وليسوا هم!".
"بالمعجزات والكرامات؟" قلتُ مستغربًا استدلاله.
"لا! هو قال سيستخلفهم انتهى الكلام. وإذا كان المعجزات والكرامات، ماذا يضيرك أنت؟" أجاب بحدة.
"وصل الغرور بالإخوان أنهم يريدون أن يمكنوا للدين بنسبة التمكين إليهم. والله عز وجل ينسب التمكين لنفسه. بدل أن يمكّن هو لهم، أرادوا هم أن يمكنوا له! "تعرف شو وقع للإخوان! أرادوا أن يأخذوا مهمة الله!!".
وسيبدلهم من بعد خوفهم أمنًا، مهمة من؟ هذه مهمتهم هم أم الله؟ جاوب!".
لم أجب، بقيتُ معلقًا بالاعتراضات الألفين التي استودعني إياها!
"هي مهمة الله! مهمة المؤمنين الإيمان والعمل الصالح وعدم الشرك. طبعًا يدخل في العمل الصالح النصح للحكام والمساهمة في الحياة السياسية. وليست المنازعة على الحكم. لأن الحديث واضح، ’’وأن لا ننازع الأمر أهله’’ هذا كلام واضح. لكن الإنسان يبحث دائما عن المنافع في السلطة".
هل بحثت أنت عن المنافع؟ سألته ببرود
"هذه هي طبيعة الإنسان". أجاب ببرود مماثل
هل فهمت ما قلته لك أم لم تفهمني؟ سألني
أفهمك، ولكن هذا يرجع على كل تاريخك بالنقض.
"فليعد!" قالها بدون تردد.
"كل تاريخنا الذي نفخر به قام على هذا الأمر. أبو بكر تحولت إليه المشروعية طبيعيا، عمر ثم عثمان ثم علي ثم اضطرب مسار الإسلام. وهذا يجب أن يتوقف الآن، على الحركة الإسلامية أن تفهم أن ليس لها أن تسعى للمغالبة على الحكم.. وهذا لا يعني ألا تشارك في الحياة السياسية وألا تنصح ولا تفكر وألا تبدع. لا. هذا يفيد أنها تكف عن الاقتناع أن دورها الأول أخذ الحكم أو استرجاعه.
ولذلك قال هرقل [لأبي سفيان]’’وسألتك هل كان من آبائه من ملك فقلت: لا، فقال لو كان من آبائه ملك لقلت رجل يطلب ملك أبيه’’. الحركة الإسلامية تطلب ملك أبيها!".
"مثل ما فعل العلويون في المغرب ومن قبلهم العباسيون في المشرق" قلتُ مشيرًا إلى النماذج الناجحة في طلب الحكم، وفرض الاستقرار.
"دعك من هذا، إذا كنت تستدل على هذه الحالات ستجد أمثلة كثيرة، نحن نتحدث عن الإسلاميين". تأخرت بديهته الحاضرة دائمًا فسكت قليلا قبل أن يقول:
" خلينا من العلويين! العلويون تعرف لماذا تحركوا للحكم؟ لأن المغرب في وقتهم وصل إلى حالة من الفوضى. العلويون قدموا خدمة جليلة للمغرب. وأنا لا أجاملهم، وليسوا في حاجة إلى مجاملتي. تحرّك العلويون في وقتٍ لم يكن فيه حكم، في نهاية الدولة السعدية حصل فراغ واختلت الأمور، وكان الناس يعرفونها قرونا قبل ذلك، ويشعرون أنها عائلة مباركة. واستمرت إلى اليوم.
أنا أحدثك عن الحركة الإسلامية اليوم دورها أن تعيد بناء الشخص المسلم، وتكون هذه عُملتها في المجتمع. والناس إذا رأوا منها هذا ربما سودوها عليهم. ولكن لا يجب أن يكون هو مطلبها".
حسنًا لنفترض أنهم أخذوا بوصيتك، لنتصوّر السيناريو التالي: تقبل على الدعوة والتربية. ثم بدا للحاكم بعد أن عملتَ في إصلاح المجتمع لأربعين عامًا أن يأخذك وكل المصلحين معك ويلقيكم في السجن؟ ترجع إلى الصفر؟
"أن يأخذ الحاكم شخصا لأنه مسلم وينصح ويصلح ويضعه في السجن هذا شيء، وأن يأخذ شخصا يتآمر عليه وعنده العمل السري ويريد أن يقوم بانقلاب ويضعه في السجن شيء آخر.. ثم دعه يضعك في السجن ظلما وعدوانا، وقتها سيعلم المجتمع أنك تعاقب على حق أنت متمسك به!".
"أليست هذه روح مسيحية بلسان إسلاميّ؟! هل على المصلحين يعطوا أيديهم لكل من أراد أن يفعل بهم ما يشاء" قلت له مقاطعًا.
"لا لا. أول شيء الحق لا يضرني مصدره، إن كان عند المسيحيين فمرحبا به. أنا لا يضايقني هذا. قناعتي أن هذه الأشياء أصيلة في الإسلام! بل هي الإسلام! كم عانى صحابة النبي صلى الله عليه وسلم في الفترة المكية، وفي المدينة كم عانى النبي صلى الله عليه وسلم، اجتمعت عليه العرب واليهود، في الأحزاب، ولما شاء الله أن ينصره نصره.
إذا لم يكن عندك أشخاص ينافسون الصحابة في استقامتهم. حتى وإن وصلت إلى الحكم ما ذا ستجد فيه؟ لن تجد شيئًا، ماذا وجد الإسلاميون في السودان حين وصلوا إلى الحكم؟ وجدوا الأموال، فتنافسوها. ووجدوا الحكم فاستبدوا به. نقلوا معهم جراثيم المجتمع وفيروساته وأمراضه فقضوا عليه. نحن اليوم مشغولون بغزة، لكن ما يقع في السودان لا يقل كارثية عنها. فقدنا نصف السودان وأدخلنا الفتنة في كل بيوتها"
ما يحصل في السودان مشكلة الإسلاميين؟
"هذه مشكلة الإسلاميين. لا شك في ذلك!". أجاب بنبرة جازمة
ويتحملها حسن الترابي؟ سألته فاحصًا قدرته في نقد أحد أساتذته.
"لا أريد أن أدخل في التفاصيل لكنها مسؤولية الإسلاميين الذين حكموا 30 سنة الأخيرة. مع أن إسلاميي السودان كانوا متقدمين على الإسلاميين في العالم في كل شيء، في الاجتهاد!".
متى بدأت تصل إلى هذه الخلاصات تنضج لديك؟
"لا أستطيع أن أعطيك تاريخًا محددًا، لكنها كانت تتشكل في ذهني وفي ذهن الأخ عبد الله بها، كان عندنا تفكير مشترك، حتى إني لم أعد أدرك مصدر بعض الأفكار هل كان هو مصدرها أم أنا. منذ 1982 ونحن في صداقة وتفكير متساوق."
نظر إلى مدير مكتبه، وقال له أرسل له الدرس الذي أتحدث فيه عن بهاء. ليدرسه!
"الآن، قل لي ما الذي يتميز به الإسلامي عن غيره حين يصل إلى الحكم؟". قال موجهًا سؤاله لي.
لا أدري، لكن السودانيين يزعمون أن الإسلاميين -مع سوء إدارتهم- كانوا أنظف يدًا من غيرهم، وقد قيل عنكم هذا، لم يعثر على فساد مالي في وقتكم مع شدة الرصد. أليس هذا شيء يتميز به الإسلاميون عن الآخرين؟
"صحيح، في الإسلاميين هذه الأمانة ومناقب أخرى، لكن شوف، حين تكون عندك سيارة ينبغي أن تعمل كل قطعها بشكل جيد حتى تسير!".
لم أشعر إلا وسعادة رئيس الوزراء الأسبق قد افتكّ مني سلطة الأسئلة وراح يسأل ثانيةً:
"اشرح لي ما معنى أن يترشح الإخوان المسلمون في 2012 في الوقت الذي أكدوا فيه أنهم لن يترشحوا؟".
"لعلهم ظنوا أن وقت التمكين قد حان". أجبت بابتسامة لم أقدر على التخلص منها
"أيوا صافي! هذه الأمور لا يفيد فيها الظن. لقد كانوا يرون بأعينهم مصائر الأمور، وأقدموا عليها. بينما لو بقوا في دورهم الإصلاحي في المجتمع، فيقينًا لن يقع ما وقع لهم بعد استلامهم الحكم. ويقينا سيكونون مصدر قوة للمجتمع. حين تتحمل ما لا تطيق ينقصم ظهرك".
يقال إن القواعد تُختبَرُ بالاطراد، سنطّرد مع خلاصتك ونتساءل: إذا ذهب أردوغان إلى الإصلاح المجتمعي، أين ستكون التجربة الإسلامية في تركيا اليوم؟
"أردوغان مع هذه الفكرة مئة بالمئة. أردوغان سبقه نجم الدين أربكان، أربكان أسس حزبًا سياسيا حين كان مسموحًا له لتشكيل حزب. لم يتآمر ولم ينقلب. ثم أنهت القوة الغالبة مشواره. قام أردوغان بالمحاولة مرة أخرى، واستطاع أن يصمد إلى الآن. أنا لا أرى أن أردوغان هو الإخوان. غير صحيح".
لو ظل أردوغان يقارب مقاربة أربكان، أو تخصص في الدعوة إلى أي شيء سيصل؟
"هذا ما فعل جدهما بديع الزمان النورسي، وهذا الذي مهد لأربكان ومهد لأردوغان" قالها مادًّا بها صوته، وكأنه فهم من سؤالي ازدراءً للدعوة.
"صحيح، ولكن جاء أتاتورك ومسح كل جهده بالمسّاحة؛ منع العربية ومنع رفع الأذان بها، وحمل المجتمع حملًا على العلمانية!". أجبته، متفاعلًا مع وتيرة النقاش.
"هل انتهى الإسلام؟ لم ينتهِ. أنا لم أقل لك إن الحركة الإسلامية لا يجب عليها أن تشارك في الحكومة، أو تمتنع عن دخول الانتخابات، قلت لك إنه يجب عليها ألا تدخل في المنازعة على الحكم. والمنازعة في الحكم ليست هي المساهمة في السياسة".
ما الفارق؟
"كيف ما الفارق؟ هناك حاكم لديه مشروعية ويحكم وتأتي أنت بشتى الوسائل لتأخذ منه الكرسي..".
قاطعته "مشروعية؟ من عنده مشروعية في العالم العربي؟".
"هذا كلام صعيب!".
أنا جاد في سؤالي؟ هل يوجد نظام عربي اليوم لم يحصل على الحكم بالقوة والغلبة؟ هل يوجد نظام عربي جاء بالشورى؟
"أنت تريد أن تأخذ الحكم والسلطة بالقوة؟ تفضل!".
أنا صحفي ولست طالب حكم. وأستشكل كلامك عن المشروعية في العالم العربي التي لا تقوم على غير التغلب. وما دام الأمر بالغلبة، فلماذا نبيحه لفريق ونمنع آخرين؟ ثم لا تنسَ أن حركات التغيير والثورات وإن كانت فاشلة في المئة عام الأخيرة، فإن لدينا نماذج ناجحة في التاريخ الإسلامي على مدى 14 قرنًا أقامت دولة وشريعة.
"هذه القرون لا تعتبر تجارب ناجحة، أنت دورك أن تعيد بناء الفرد المسلم لكي يتكلم، وأن يكون صالحًا ومستقيما. هذه الأشياء هي دورك. وهي التي سيحاسب عليها الإنسان عند الله، وعليها سيؤمر به إلى الجنة أو النار. أما في المجال السياسي فتجتهد وتعمل كما يعمل الناس. ومع هذا ليس هناك ضمانة ألا يقع لك شيء. أما المنازعة على الحكم فإن لم يظهر لك الفرق بينها وبين المنافسة على الحكم فهذا شيء يرجع إليك أنت! المنازعة على الحكم ليست هي المطالبة بإصلاح الحكم وليست هي المساهمة لإصلاح الحكم".
"الجاحظ يا أستاذي يقول ’قد يُؤتى المتكلمُ من جهة فهم السامع!’" قلتُ محاولًا كسر حدة النقاش.
"إيوااا! وما العمل! لكني أظنك قد استوعبتها".
ليس بعد، ما الفارق بين المنازعة والمنافسة؟ سألته بحثًا عن مثال حديث.
"النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ألا ننازع الأمر أهله".
"هل نازع الإخوان المساكين أحدًا؟ ذهبوا إلى الصناديق، ونافسوا!".
"خلِّ عنك هذا الكلام، خلِّ عنك هذا الكلام! لتفهم الإخوان ارجع إلى عصر الملك فاروق، كيف كانت الدولة وكيف كانوا يقومون بعمل إيجابي. ثم بعد ذلك. من الذي أسقط الملك فاروق؟".
الضباط بقيادة عبد الناصر؟ أجبته بنبرة المستفهم
"بل الإخوان! هم من أسقط الملك، هذا ما يقوله الشيخ محمد الغزالي. ماذا كانت النتيجة؟".
يبدو أن الإسلاميين مبتلون بالعسكر الذين يرتدون زيّهم ثم ينقلبون عليهم، كما فعل عبد الناصر والبشير.
"لم يلعب عليهم عبد الناصر ولا أنور السادات، ولا لعب عليهم البشير، هؤلاء إسلاميون! إسلاميون صادقون".
عبد الناصر والسادات "إسلاميون صادقون؟" سألت بنبرة استغراب بدت عالية
وبنفس النبرة أجابني:"نعم، لكن عندما وصلوا إلى السلطة وجدوا ما تعلموه وتلقنوه في صفوف الإخوان من مثاليات ليس قابلًا للتطبيق. فقاموا بما يرونه مناسبًا لواقعهم وللناس الذين معهم. فاصطدم بهم الإخوان لأنهم اختلفوا معهم. فكانت النتيجة التي تعرف! فإن قلت لي إنهم غرتهم زينة الحياة بعد توليهم، واغتروا بها، فهذا تغيّر مفهوم بين البشر. عمر البشير التقيته أكثر من مرة، وكانت عندي قناعة أنه يذكرني بعمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم بعد ذلك استحلى السلطة وقام يصادم من رآه خطرًا عليه، ولكن كان هذا نتيجة لتلاعب الإخوان. لو صبر الإخوان في السودان إلى أن يصلوا بالانتخابات لاختلف حال السودان. وإذا لم ينجحوا كان عليهم أن يكون عندهم الاستعداد أن يتنازلوا. هم لم يكن عندهم استعداد لا للانتظار ولا التنازل، فكانت النتيجة حالة البشير، رئيس يحكم لثلاثين سنة ثم صار طريدًا، لا يعرف أحد أين هو الآن".
على ذكر المطاردين والمنكوبين، أنت الإسلامي الوحيد الناجي من الربيع العربي. رأست حكومتين، والآن تجلس في بيتك آمنًا! ورفاقك بين شهيد وطريد.
"الحمد لله، يبدو أن الله علم ضعفي فلم يبتلني".
الحمد لله الذي عافاك، هل كان توفيقًا أم حسن تدبير منك؟
"هو توفيق رباني في الأول والأخير، ولكن الله رزقني بعد النظر. جاءت حملة كانت تريد أن تدخل المغرب في المجهول. فوقفتُ وقلتُ: لا. لا يمكن أن نغامر بنظامنا الملكي الذي هو ركيزة لاستقرار بلادنا بعد الإسلام.
سمع المجتمعُ مني، وسمعت الدولة مني، وسكنت رياح التغيير. والحمد لله المغرب اليوم هو أفضل بلد عربي إذا وضعتَ لكل عاملٍ معاملا؛ الوضع الاقتصادي والديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان إلى آخره. فالملكيات الثرية لا حريات فيها، ولا ديمقراطية، والجمهوريات العربية مأزومة اقتصاديًّا. نحن لم نصل إلى الحكومة على أساس المغالبة ولا على أساس ما يروج في أذهان الإخوان".
في 20 فبراير/شباط عام 2011 انطلقت حملة احتجاجات شعبية في مدن المغرب، بعد أن أسقطت حراكات مشابهة حكومة زين العابدين بن علي في تونس، وحسني مبارك في مصر. كانت المطالبات تدور حول إقرار دستور ديمقراطي وملكية برلمانية وإقالة الحكومة وحل البرلمان. شارك في الحراك العديد من الأحزاب والحركات المغربية، وغاب عنها حزب العدالة والتنمية بقيادة عبد الإله بنكيران، مع مشاركة مجموعات شبابية من الحركة الإسلامية.
في 5 مارس/آذار 2011 ألقى بنكيران خطابًا قال فيه: أنا أنتمي للشعب الذي لم يخرج في 20 فبراير، وهم يقولون لجلالة الملك، إننا لم نخرج لأننا لم نرد أن نغامر بالملكيّة، ولكننا نريد أن تقوم بالإصلاحات. الشعب الذي خرج والذي لم يخرج مطلبهم واحد، وهو المطالبة بالإصلاحات"، وأضاف موجهًا الكلام إلى الملك محمد السادس أن الحكومة "تدير البلد بالأساليب البالية التي أسقطت بن علي -حفظك الله يا مولاي- وأسقطت بن مبارك -حفظك الله يا مولاي- والتي ستسقط القذافي -حفظك الله يا مولاي- ولا سبيل إلا بالتخلص منه اليوم!"؛ ليخرج الملك محمد السادس يوم 9 مارس/آذار 2011 معلنا إصلاحا دستوريا شاملا.
في الفاتح من يوليو/تموز تم الاستفتاء على الدستور الجديد الذي يحمل إصلاحات ويضمن صلاحيات للملكية. وقد حصل على تأييد 98% من المواطنين. تسلّم بنكيران منصب رئاسة الوزراء، بعد فوز حزبه بالانتخابات، وتقاسم صلاحيات الحكم مع الملك، معلنًا أنه "جاء ليخدم بلده بالتعاون مع الملك ولم يأت للتنازع معه".
في 13 مايو/أيار عام 2015 بعد إنهائه لدورته الأولى، استضافت قناة الجزيرة عبد الإله بنكيران في حوار مرئي تحت عنوان "إنجازات حكومة المغرب بقيادة بنكيران بعد 4 سنوات في السلطة".
افتتح المذيع المقابلة بسؤال: ما هي أهم إنجازاته في تلك الفترة التي ترأس فيها؟
"سامحني أن أقول لك، إني لما تحملت المسؤولية اتضحت أكثر ما يجب أن تكون الأولويات بالنسبة إلي، كمسؤول عن الحكومة وكرئيس لها، وكما لا يخفى عليك، وحسب الدستور المغربي فإن رئيس الحكومة له صلاحيات، وليست مطلقة، وإن الذي يحكم المغرب هو جلالة الملك محمد السادس، هذه هي الحقيقة وهذا ما يقوله الدستور".
بعد أن كان ينظر إليّ صرف نظره إلى المكتبة ورائي، وقال لمساعده:
"سي نزار، عافاك، شوف المصحف هذا حذا [=بجانب] صفوة التفاسير عدّله. وأشار إلى مصحف وُضع رأسًا على عقب في المكتبة التي تقع خلف الأريكة، وتفتقر رفوفها إلى كثير من الكتب. يحتاط المالكية كثيرًا في صيانة المصاحف، فقد قال خليل بن إسحاق في مختصره وهو معتمد الفتوى عندهم، في باب الرِّدة "الردة كفر المسلمِ، كإلقاء مصحف بقذر"، ويفرّع شرّاح المختصر من الفقهاء على "إلقائه" كلّ فعلٍ يحتمل استخفافًا، أو إهانة له، ومن ذلك قلب المصحف رأسًا على عقب.
عاد بنظره إليّ وقال:
"عندي خلاصات أخرى اجتماعية وأسرية ليس هذا مجالها. لكن هذا ما حكيته لك هو خلاصتي السياسية. قبل أشهر ذهبت إلى تركيا وذكرتها لهم. ولم يعتنِ بكلامي أحد". قال بانزعاج.
لماذا؟
"لا أدري".
"هل لأنها ضد طبائع الناس؟ الناس مجبولون على الصراع! علّقتُ محاولًا أن أخفف انزعاجه.
"لا أدري، المهم لم يعتنوا بكلامي، وكأن أحدًا منهم لم يسمعني!".
"ليس من السياسة أن تطبق كل ما في رأسك، السياسة أن تطبق ما يحتمله واقعك. ثم إن السياسة ليس أسّ الأمر عندنا، بل أسّه وقاعدة الأمور عندنا الإيمان والعمل الصالح، والسياسة تأتي بعد ذلك. هذه الخلاصة ينبغي أن يعود إليها أبناء الحركة الإسلامية ليتعلموها. كم سمعت عن تنازع أبناء الحركة الإسلامية على الأموال والمناصب والمؤسسات والمراكز الإسلامية؟ سمعتَ أم لم تسمع؟".
"بلى، سمعتُ كثيرًا".
"الذي يريد أن يغالب فليس لديّ مانع فليتفضل، وربما ينجح!".
فإذا نجح؟
"فإذا نجح سيصل إلى قول الله تعالى "حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا ووجد الله عنده فوفّاه حسابه، والله سريع الحساب" لأنك غالبت على السلطة في بلد لا يتفق معك كثير من سكانه على ما تريد تطبيقه، فحين تصل ستجد نفسك مضطرًا لحكمهم بما يناسبهم، وإذا فعلتَ هذا فبمَ اختلفت عمن سبقك؟".
أنت مطلع على الحركة الإسلاميّة، أخبرني كم تعرف من الإسلاميين يؤمن بالديمقراطية إيمانًا حقيقيًّا؟".
"إيمانًا حقيقيًّا؟ الديمقراطية يا سيدي ليست من أصول الشريعة!" أجبتُه مستفزًا.
"لا، لكنه شيء تبنوه، والله يقول يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود".
"على كل حال لا يوجد تيار سياسي عربي يلتزم بالديمقراطية في أحزابه كما يفعل الإسلاميون. انظر لحركة مثل حركة حماس وانظر لتجربتكم هنا". قلتُ له.
"لا لا، أنا لا أتكلم عن حماس، حماس تعيش مع عدو يريد أن يقضي على الأمة، أما إذا سألتني عن حركتنا، فإنها ديمقراطية 100%".
إذن في الإسلاميين ديمقراطيون مخلصون!
"لا، ليس في الحركات الإسلامية، حركتنا نعم، هذا الذي أشهد به أمام الله. في 2008، جئنا إلى المؤتمر في الحزب وأنا مقتنع بأن الإخوة سيختارون سي العثماني، وحين جرت المداولات وسار الكلام في اتجاه آخر اختاروني. وهكذا كنا في الحركة". دعني أحكي لك نكتة، مرة ذهبنا إلى دولة مشرقية مع هيئة صحفيين إسلاميين كنا سننتخب رئيسا لهم. تدخلت لأختار الرجل حسب قناعتي وما تقتضيه الديمقراطية، فوقع اختيارنا على شخص آخر غير الشخص الذي استضافنا. فأرسل إلينا المضيف، أن نؤدي فاتورة الفندق!".
مش معقول! قلت وقد اتسعت عيناي استغرابًا.
"والله هذا الذي كان. الحمد لله أنه كان معي 200 دولار فدفعتها للفندق!".
"عندكم جيرانكم في موريتانيا من حزب تواصل، وهم ديمقراطيون." قلتُ له
"الإخوة الموريتانيون زرتهم مرارًا وتكرارًا، ونصحتهم بأشياء لم يقبلوا بها. منها ترك السريّة إطلاقًا..".
الزواج أم العمل الحركي؟ سألتُه.
"أقصد العمل السري، الزواج السريّ لا أعترف به! ومن النصائح التي ذكرتها لهم، عدم الدخول في تنازع مع الحكام. ولم يكونوا يقبلون مني للأسف. بلى، الوحيد الذي كان يسمع مني هو جميل منصور".
"بعد سماعه منك ذهب للموالاة وترك المعارضة!" قلتُ معلقًا وطالبًا لتعقيب، فتجاهله وقال:
"أنا تجنبت أن أقول هذا الكلام لأن الإخوان كانوا في محنة، منذ اعتقال مرسي، وما عاشه الإخوان. وحين ينازعون لا يحسنون المنازعة، فأعرضت عن الكلام".
عاد كمن تذكر أن يختم بشيء فاته.
"إذا سلك الإسلاميون هذا الطريق، سوف تتحسن أحوالهم، وتتحسن أحوال أمتهم، وسيتراجع الفساد تدريجيا. كيف يحكم الإسلاميون بالعدل والإنصاف والقيم، في مجتمعات ألفت أن تأخذ الرشوة؟!
في كل جمعة تأتيني الاتصالات، من أشخاص لا أعرفهم، تقول لي أنا قدمت لولدي في وظيفة في الأمن أو الدرك أو في إحدى وزارات الدولة وأرجوك أن تتدخل. فأجيبهم: يا مغاربة كل عمري وأنا أقول لكم إني أحارب المحسوبية ثم تطلبونها مني؟!
حسنًا، لو انتقل هذا الاقتناع من رأسك إلى رؤوس قادة العمل الإسلامي، أخبرني كيف يمكنكم إقناع الطرف الآخر بحسن نياتكم؟
"دعك من الطرف الآخر، الاستقامة قوة في ذاتها، بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه، فإذا هو زاهق. الاستقامة كالماء يجري في الطريق ويحفر مجراه، أما إذا بقيت مرتبطًا في تقديراتك بالطرف الآخر.. شوف الحكم في منافع ومصالح، وهذه المنافع يهيمن عليها من يهيمن عليها من أصحاب القدرات، لن يتنازلوا لك عن شيء، وإذا دخلت معهم في نزاع وخلاف، فهذا شغلهم. ولكن بالحق والاستقامة والدعوة والعمل الصالح، وبتكوين المجتمع تهزمهم في النهاية "قالوا فاقضِ ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا" إذا لم تكن قادرًا على أن تجعل السحرة يتحدّوا فرعون فليس عندكَ شيء، فهمت؟ انتهى الكلام!"
خلاص يا عبد القدوس؟
"قد ذكرت لي خلاصاتك، فبقي أن تحكي لي عن نداماتك؟ ما هي القرارات التي اتخذتها وندمت عليها!" سألته طالبًا لاستمرار الحوار، الذي يبدو أنه طال فوق تقديره.
"أني استقبلتك!" قالها بابتسامة عذبة معلنًا نهاية اللقاء.
إقرأ المزيد