حبيب الزيودي.. شاعر الهوية والوجدان الأردني
الجزيرة.نت -

يشغل الشاعر الأردني حبيب الزيودي (1963-2012) موقعا فريدا في الشعر الأردني الحديث، ويظلّ علامة فارقة بصفته الشاعر الذي استطاع أن يصوغ هوية شعرية بلغة فصيحة منغرسة في وجدان الناس، إلى جانب أشعاره الشعبية باللهجة المحكية، والتي لم تكن أقل شعرية وتألقا من قصائده الفصيحة.

انتسب حبيب الزيودي شعريا إلى شاعر الأردن مصطفى وهبي التل (عرار) بوصفه أب الشعر الأردني، لكن صوت الزيودي لم يكن امتدادا ميكانيكيا لعرار أو لخلفائه في القصيدة الوطنية، بل كان مؤسسا لمرحلة جديدة يتصالح فيها الشعر مع النشيد، والذاكرة مع الحاضر، والبدوي مع المثقف المدني.

يُعدّ مشروع الزيودي الشعري في جوهره رحلة بحث عن الذات الأردنية، لا بوصفها حدودا سياسية، ولكن هوية ثقافية ولغوية ونفسية تتكوّن من تفاصيل الأرض، وأصوات الرعاة، وطقوس القرى، وتحوّلات الدولة الحديثة.

وتتوزع هذه الرحلة على خمسة دواوين رئيسية هي: "الشيخ يحلم بالمطر" (1986)، "طواف المغنّي" (1990)، "منازل أهلي" (1997)، "ناي الراعي" (2009)، و"غيم على العالوك" (2012). ومن خلال هذه الأعمال يمكن تتبّع تحوّل الخطاب الشعري عند الزيودي من الإنشاد الجماعي إلى الحنين الفردي، ومن الفخر الجمعي إلى التأمل الوجودي.

"الشيخ يحلم بالمطر".. التأسيس الرمزي للهوية

يبدأ الزيودي رحلته الشعرية بهذا الديوان الذي يرسّخ رموزه الأولى، مثل المطر والشيخ والبادية والكرامة. وتبدو القصيدة هنا كامتداد لقصيدة الفخر العربية، لكنها مروّضة على إيقاع وجدانيّ جديد. "الشيخ" ليس رمز السلطة أو الزعامة فحسب، بل صورة الأب والجدّ، والحكمة والمروءة، في حين أن المطر هو وعد الحياة واستمراريتها.

في ديوانه الأول هذا، يظهر الزيودي كصوت قادم من العمق العشائري، يحمل ملامح البادية الأردنية بصفائها وكرامتها ووجعها. لغته جزلة متينة، تتكئ على البيان العربي الكلاسيكي، لكنها تُطعَّم بملمس حديث من الحس الإنساني والوجدان الشعبي. وفي هذا الديوان كان يسعى إلى جعل اللغة بيتا لأبناء البادية، وإلى ترسيخ صورة الأردني بوصفه امتدادا لتاريخ العرب في الأرض والكرامة.

إعلان

من الناحية الأسلوبية، يعتمد الزيودي لغة ذات جرس قوي، تحافظ على فصاحتها التراثية وتنهل من المعجم البدوي، لكنها لا تبتعد عن المعاصرة. وهنا تتجلى الهوية اللغوية بوصفها مرادفًا للهوية الوطنية.

ديوان "الشيخ يحلم بالمطر" (الجزيرة)
"طواف المغنّي".. النشيد الجماعي

في ديوانه الثاني "طواف المغني"، يخرج الزيودي من الذات ويتقدم نحو الجماعة، ومن الحلم الفردي إلى الطقس الجمعي. يصبح "المغنّي" رمزا للشاعر الذي يدور حول معاني الوطن. تتأسس القصيدة هنا على الإنشاد، وتتقاطع لغتها مع روح الأغنية الوطنية. وقد تحولت بعدها كثير من نصوصه إلى أغنيات غناها مطربون شعبيون، مما جعل صوته الشعري جزءا من الذاكرة السمعية الأردنية.

لكن ما يميّز هذه المرحلة أنه لا يسقط في المباشرة؛ فهو يكتب الوطن من الداخل لا من المنصّة، يراه في القرى، في الوجوه، في السحنات، وفي الخبز والملح. ومن ثمّ تتكوّن معادلة شعرية بين اللغة العالية والحياة اليومية.

ونلحظ أن الخطاب في هذا الديوان وطنيّ جماعيّ، يعيد بناء صورة الأردني كحارس للكرامة. وتزداد في هذه المرحلة ملامح الإنشاد الوطني الذي جعله لاحقا شاعرا رسميا، خصوصا عبر الأغاني الوطنية، فصارت قصيدته تقف على الحدود بين الشعر المكتوب والمنشود. كما نلاحظ أيضًا حضورا أوسع للمدن والجبال والقرى، وصورا للعلم والجيش والملك، لكن دون الخطاب التمجيدي الجاف، بل بلغة متوقدة فيها صدق العاطفة، والتدفق الشعري الذي ميز تجربته.

على أي جنب ينام المغني

وقد ذبل الورد في المزهريات،

وانكسر العود بين يديه،

على أي جنب ينام؟

وليست صباحاته فضة…

وليست مساءاته من رخام

……

فها هو يحمل أقماره ويطوفْ..

ويهتف بين المضارب: دقوا الدفوفْ

"منازل أهلي".. الحنين ووعي الذات

هذا الديوان هو قلب تجربة الزيودي، بل ذروتها الإنسانية. يتحوّل فيه الوطن من فكرة إلى بيت وذاكرة. تتراجع فيه الشعارات لتظهر القصيدة الوجدانية، المفعمة بمشاهد الريف والبيت القديم والوالدين والمضافة. واللغة هنا أكثر صفاء ودفئا، وأقل خطابة وأكثر انغماسا في اليومي. وتتحول القصيدة من النداء الجمعي إلى البوح الفردي، ومن الفخر إلى الحنين. والعنوان ذاته "منازل أهلي" يختزل اتجاهه الجديد: العودة إلى البيت الأول، إلى المكان بوصفه ذاكرة لا تُستعاد إلا بالكلمات.

كلّما دندن العود رجّعني لمنازل أهلي

ورجّع سربًا من الذكريات تحوّمُ مثل الحساسين حولي

أبي في المضافة،

والقهوة البكر مع طلعة الفجر عابقةٌ بالمحبة

وهي على طرف النار تغلي

وصوتُ أبي الرحب يملأ قلبي طمأنينةً وهو يضرع لله حين يصلّي.

يكتسب الخطاب الشعري هنا بعدًا خاصا؛ فالشاعر لا يحنّ إلى الطفولة وحدها، بل إلى معنى البراءة المفقودة في زمن التحوّل الاجتماعي والسياسي. إنه يرثي القيم لا الأشخاص، ويستحضر المكان لا ليمجّده بل ليحزن عليه. هنا تتضح أخلاق الذاكرة التي تميّز شعر الزيودي عن غيره من شعراء الوطنية الخطابية.

في هذا الديوان يُشبه حبيب الزيودي الأب الشعري عرار في حنينه، وبدر شاكر السيّاب في وجده الإنساني.

"ناي الراعي".. تأمل الطبيعة والوجود

ينفتح هذا الديوان على لغةٍ أكثر هدوءا وتأملا. يتحول الناي هنا إلى صوت كونيّ، يختزن نغمة البدايات. نجد الزيودي في هذه المجموعة شاعر الطبيعة والإنسان، وهو يستعيد روح الرعاة والبراري في زمن الإسمنت. ويتراجع الخطاب السياسي والوطني إلى الخلفية، لتظهر الذات الفلسفية التي تسائل الحياة والمصير والذاكرة. ويكتب الشاعر كمن يُخاطب العالم من عزلة صافية:

إعلان

في ناي الراعي بيت

لفتاةٍ حين تمرُّ به تبطئُ في السير

وتكسرُ إبريقَ الماءِ

وحين تعودُ إلى المنزل

تلتهمُ المرآة

في الناي،

أصابعُ ظامئةٌ للحبْ

ما مرّت في بال الراعي امرأةٌ

إلا فكَّ بها أسرارَ الثوبْ

**

في ناي الراعي بوحٌ وكلامْ

وشرودٌ يوقظه منه

نباحُ الكلب على الأغنامْ

**

في ناي الراعي كلُّ الدنيا

إلا نايُ الراعي

تتصف لغته في هذا الديوان بالشفافية، تخفّ فيها الجملة الخطابية، وتعلو النبرة التأملية. هنا يبدأ الزيودي بتشييد شعر الهدوء بعد سنوات من شعر الهتاف، ويقترب من نبرة "الأنسنة" من حيث الحسّ الفلسفي الممزوج بالواقعية الريفية، وتظهر بنية لغوية ناعمة، فيها انكسار وتأمل، حتى ليبدو الزيودي شاعر الحنين.

غلاف ديوان "غيم على العالوك" (الجزيرة)
"غيم على العالوك".. وصيّة الشاعر ورؤيا الوداع

"غيم على العالوك" هو آخر دواوينه وأقربها إلى الروح. عنوانه وحده يختصر المسار كله، حيث الغيم رمز الرحمة والوداع والمطر، والعالوك قريته التي منها بدأ وإليها يعود. في هذا الديوان يكتب الزيودي كمن يتهيأ للمغادرة:

كُن راضيًا يا قلب

إن الرحلة اقتربت

فلا تجزع على أحد

فقد عشتُ الحياة جميلة

فيها بيوت، والبيوت فيها نوافذ

والنّوافذ لا تُطل على أحد.

وفي مقطع شعري آخر يقول:

أرجوك لا تأتي غدا أو بعد غدْ.

إن الحياة جميلةٌ

لكن علينا أن نودعها كتوديع الحبيبة باسمين

جميلة أيامنا،

وجميلة أحلامنا

أرجوك لا تأتي، اتّئدْ.

لا بد من يوم يومٍ يجيء

ولن تراني غاضبا متبرما

عشت الحياة كما يليق بمرّها وبمرّها

وكما يمرّ السهم من جسد الغزال مررتُ

وحدي كنت في بريّة الدنيا،

ولكنّ الرماة بلا عددْ

يُحاور الموت بهدوء وطمأنينة، ويصالح الأرض والزمن، متصالحا مع وطن لم يخذله ولم يخنه. تتحوّل لغته إلى ما يشبه الدعاء، والقصيدة إلى وصيّة للأجيال. ديوانه الأخير هو لحظة صفاء نهائية بين الشاعر والأرض.

العالوك ليست قرية فحسب، بل رمز الأصل والعودة. الغيم هنا استعارة مزدوجة للمطر وللموت معًا، للحياة التي تهطل ثم تتبدّد.

في هذا الديوان يتوحّد الزيودي مع المكان، فلا يعود يميّز بين الجسد والتراب، بين القصيدة والحياة. ويتحوّل الخطاب الشعري إلى تجربة صوفية فيها التسليم والسكينة، بعد رحلةٍ طويلة من الحنين والنشيد. لقد غادر الزيودي الدنيا وفي قلبه يقين أن الشعر يمكن أن يكون سيرة بلد في إنسان.

اللغة والبنية الجمالية في شعر الزيودي

يستند الشاعر الزيودي في بناء قصيدته إلى منظومة لغوية وجمالية تقوم على ثلاث ركائز أساسية متكاملة، وهي: الجزالة التراثية، والإيقاع الصافي، والصورة الواقعية. وتشكل هذه الركائز معا جسرا بين الفصحى الكلاسيكية والوجدان الشعبي، مما يُعيد الاعتبار للقصيدة بوصفها خطابًا وطنيا عميقا ومنفتحا على تجربة الإنسان.

تُعدّ الجزالة التراثية الركيزة الأولى في لغة الزيودي، حيث تعتمد على مفردات مأخوذة من المعجم العربي القديم. ومع ذلك، لا يقدم الشاعر هذه المفردات في سياق تقليدي جامد، بل يُخضعها لتوظيف حديث ومبتكر. هذا التوظيف يمنح اللغة طاقة جديدة ويجعلها قابلة للغناء، ليحقق بذلك توازنًا فريدا بين عراقة اللفظ وحداثة الأداء.

أما الركيزة الثانية، فهي الإيقاع الصافي، الذي يُعد جوهر الموسيقى الشعرية لديه. يتجلى هذا الإيقاع في اختياره المفضل لوزنين شعريين هما التفعيلة الكاملة أو البحر الكامل، والمتقارب. يمنح الزيودي هذين البحرين موسيقى واضحة ومُنضبطة تضبط إيقاع الإنشاد دون أن تطغى على المعنى أو تُفقده عمقه، بل تعمل على تعزيزه وتثبيته في الذاكرة السمعية.

تتمثل الركيزة الثالثة في الصورة الواقعية، وهي الصورة الملموسة التي تنبع من بيئة الشاعر وثقافته وتعبّر عن الواقع المعيش، لا الصورة الغريبة أو المصنوعة، حيث لا يلجأ الزيودي إلى الغرابة أو التعقيد في صوره الشعرية. على العكس، يعتمد على الصورة المحسوسة والمألوفة التي يجدها القارئ في بيئته المباشرة. فصوره مستمدة من عناصر واقعية وملموسة مثل: القهوة والمطر والتراب والخيمة والنخلة والغيم. تُستخدم هذه العناصر كمكونات أساسية لبناء العالم الأردني بكل طبقاته وتفاصيله، مما يرسخ الانتماء ويجعل قصيدته مرآة صادقة للبيئة والتجربة الوطنية والإنسانية.

إعلان

لقد تميز الأسلوب الشعري للزيودي بأنه جمع بين عمق التراث ومرونة الأداء، مما يجعله قريبا من وجدان الجمهور الواسع دون التضحية بالجزالة اللغوية. وتُعدّ لغة الزيودي جزلة وتراثية في مفرداتها، فهي تستند إلى معجم عربي أصيل وثري. ومع ذلك، فإن هذه الجزالة ليست عقبة أمام التواصل، بل إن الشاعر ينجح في توظيفها ببراعة لتصبح قابلة للإنشاد والتمثّل الشعبي. هذا المزيج يضمن للقصيدة قوة العبارة وسهولة التداول، ويجعلها رصينة ومقبولة في آن واحد.

واعتمد الشاعر على المجاز البدوي كمصدر أساسي لصوره ومفاهيمه، مستخدمًا عناصر مألوفة في البيئة المحلية لكنه يتجاوز المعنى الحرفي والوصفي لهذه العناصر، ليقوم بتحميلها رموزا وطنية وإنسانية عميقة.

إن الزيودي لا يكتب بلغة النخبة المعزولة التي قد لا تصل لعامة الناس، بل يختار لغة تقف ببراعة على تخوم الفصحى والتراث والبيئة المحلية. هذا الموقع الوسطي يسمح لشعره بأن يكون مفهومًا ومؤثرا لدى شريحة واسعة من القراء، محافظًا على متانة البنية اللغوية وفي الوقت ذاته قريبًا من النبض الشعبي.

ويتسم شعره بوجود إيقاع عربي كلاسيكي واضح، مما يضفي عليه رصانة موسيقية وأصالة وزنية. ورغم التزامه بهذه الأطر الكلاسيكية، فإن شعره يظل متجدّدًا في التصوير، حيث يمزج بين الصور التقليدية والأخرى المبتكرة التي تعكس تجربته الخاصة وتجربة عصره، ليجمع بذلك بين عراقة الوزن وحداثة الرؤية.

الخطاب والهوية في شعر الزيودي

أسّس الشاعر الزيودي نمطا فريدا ومتميزا من الخطاب الشعري العربي المعاصر، يمكن أن نسميه اسم "الخطاب الوطني الإنساني". ويتجاوز هذا الخطاب المفهوم التقليدي للسلطة أو الكيان السياسي، ليؤسس رؤية جديدة ترى الوطن بصفته جغرافيا وجدانية عميقة. إنها مساحة تتجسد فيها المشاعر والتاريخ المشترك، مما يجعل العلاقة بين الإنسان وأرضه علاقة روحية متجذرة لا علاقة سياسية جامدة.

وتتجلى الهوية الأردنية في شعره عبر شبكة متكاملة من العناصر التي لا تُستخدم مجرد زينة، بل كأدوات لبناء المعنى. يمكن تصنيف هذه العناصر إلى ثلاث فئات رئيسية، فمن الطبيعة يستحضر الشاعر مفردات البادية والوادي والجبل والمطر، وهي معالم تشكل الروح الجغرافية للبلاد. ومن القيم يرفع راية الكرم والنخوة والصبر والوفاء كأخلاقيات تمثل جوهر الإنسان العربي الأصيل. أما الرموز، فتضم الشيخ والراعي والقهوة والنخلة والغيم، وهي أيقونات شعبية تحمل دلالات ثقافية وتاريخية غنية.

يحتل الوطن موقع القلب في التجربة الشعرية لحبيب الزيودي (مواقع التواصل)

إن الهدف الأسمى من توظيف هذه الأركان الثلاثة يكمن في تشكيل معنى الإنسان العربي الذي يعيش حالة توازن دقيقة بين الأصالة المتمثلة في قيمه وتراثه، والحداثة التي يفرضها الواقع المعاصر. ولهذا، فإن الزيودي لا يكتفي بكتابة "قصيدة وطن" كمدح لكيان مجرد، بل يتعدى ذلك ليكتب عن الإنسان الذي صار وطنًا. ففي شعره، يصبح الإنسان بكل أبعاده ووجدانه هو المركز الحقيقي ومحور الوجود، وتغدو الهوية إنسانية بامتياز.

وبذلك يمثّل الزيودي في حقبة التسعينيات وما بعدها صوت التحوّل من الخطاب القومي الجمعي المؤدلج إلى خطاب الهوية المؤنسن، مما يجعل تجربته علامة على مرحلة عربية كاملة، لا أردنية فحسب، إذ شهد شعراء تلك المرحلة تحوّلات الشعر العربي ما بعد التسعينيات أو ما يمكن تسميته بجيل ما بعد الخطاب القومي.

الكتابة الوطنية والرموز الشعبية

يحتلّ الوطن موقع القلب في التجربة الشعرية لحبيب الزيودي، إذ يكتبه كائنا حيا ينبض بالكرامة والحنين والتاريخ. في قصائده الوطنية تتماهى صورة الوطن مع صورة الأب والأم، ومع الذاكرة الريفية والبدوية التي انحدر منها الشاعر. الوطن عنده هم الناس والأرض والثقافة، تلك التفاصيل الصغيرة التي تصنع المعنى العميق للانتماء.

وقد استطاع الزيودي أن يصوغ خطابا وطنيا يتجاوز الصيغ التقليدية التي سادت القصيدة العربية. فعندما كتب في مديح الملك، بدا شعره تعبيرا عن تصوّر رمزي للأردن بوصفه بيتا جامعا. كان يرى في الملك تجسيدا لرمز الوطن الواحد، وفي القصيدة الوطنية وسيلة لتوحيد الوجدان الشعبي، لا مجرد طقس احتفالي. وفي كثير من قصائده التي أُلقيت في المناسبات الرسمية يرفع الشاعر المديح إلى مرتبة الانتماء الجمعي، فينزع عن الخطاب الرسمي صيغته الجافة ويمنحه روحًا شعرية وإنسانية.

الزيودي في هذه المرحلة كان شاعر الدولة بقدر ما كان شاعر الناس، وهو ما يفسّر قدرته على الجمع بين النغمة الإنشادية الرفيعة والصدق الوجداني الذي يلامس القلوب. لقد كتب للوطن كما يكتب الابن عن بيت أبيه. وبهذا المعنى، شكّلت القصيدة الوطنية عند الزيودي جسرا بين الرسمي والشعبي، وبين الدولة والمجتمع، وهي التي ثبّتت مكانته في الوجدان الأردني بوصفه شاعر العائلة الوطنية الكبرى.

إعلان

ولم يكتفِ حبيب الزيودي في وطنياته بالحديث المباشر عن الأرض والملك والبادية، بل لجأ إلى بناء رموز بشرية تستبطن فكرة البطولة والنقاء. هذه الرموز شخصيات من لحم ودم، وأصبحت في شعره صورا شعرية مجسّدة للوجدان الجمعي، تمثّل الإنسان الأردني في قيمه وأخلاقه.

من بين هذه الرموز تبرز شخصية "حمدان الهواري" التي تظهر في قصائده الأولى، رفيقا شهيدا من أصدقاء شبابه الأول، لكنها تتحول تدريجيا إلى صوت الضمير الشعبي في شعره. حمدان عنده نموذج الرجل الأردني البسيط، الفارس النبيل، الذي يظل وفيًا للأرض حتى في العزلة والهزيمة.

أما الشيخ صايل الشهوان، أحد رموز الثورة الماجدية في البادية الأردنية ضد الاحتلال البريطاني البريطانيين، فيظهر في شعر الزيودي كرمزٍ للمقاومة والوفاء والبطولة الشعبية. ولا يتعامل الشاعر مع صايل بوصفه شخصية تاريخية جامدة، بل كرمز شعبي حي، ينهض بها المعنى الوطني من الجغرافيا إلى التاريخ. وفي استحضاره لصايل الشهوان يُعيد الزيودي صياغة العلاقة بين المجتمع والدولة الحديثة؛ فالثائر هنا ليس نقيض النظام بل روحه الأولى، رمز الشرف والكرامة التي صاغت هوية الأردن الحديثة.

وبهذه الرموز الإنسانية -حمدان وصايل الشهوان- يُضفي الزيودي على وطنياته بعدا ملحميا يجعل من القصيدة الوطنية حكاية بطولية متوارثة، حيث الوطن لا يُعرَّف بالخريطة، بل بالرجال الذين حملوا قيمه. ومن خلال هذه الرموز، يكتسب شعره صدقا شعبيا وعمقًا أخلاقيا يميّزه عن الخطابات الوطنية المصنوعة أو المنبرية.

الشعر بيت نهائي

من خلال هذه الرحلة الممتدة بين عامي 1986 و2012، يمكن تتبّع تحوّل حبيب الزيودي من شاعرٍ يحتفي بالجماعة إلى شاعرٍ يتأمل المصير، ومن صوتٍ سياسيّ رمزي إلى صوتٍ إنسانيّ فردي. لقد بنى مشروعه على أخلاق الشعر لا على شعاراته، وعلى اللغة كذاكرة جماعية.

يمكن تلخيص المشروع الشعري لحبيب الزيودي بأنه بحث عميق عن الهوية الأردنية متجذر في صميم اللغة العربية ذاتها. وهذا المشروع يتجاوز الأطر التقليدية للشعر السائد، إذ لم يكن الزيودي شاعرا قوميا تقليديا بالمفهوم الشعاراتي، بل كان شاعرا وطنيا عربيا صادقا يرى في العناصر الأساسية للوجود الإنساني -وهي الأرض والعائلة والكرامة- المعنى الحقيقي للانتماء والوجود.

وتتقاطع تجربة الزيودي الشعرية مع تجارب عدد من الشعراء العرب البارزين، مما يدل على عمق وعالمية خطابه الوطني الإنساني، فهو يلتقي مع عرار في جانب الفخر والبوح الصادق. حيث يتميز كلا الشاعرين بجرأة التعبير عن الذات والوطن بصدق لا يخالطه تكلّف، مع اعتزاز واضح بالهوية والتراث.

كما يتقاطع مع حيدر محمود في الانتماء والوجد الوطني الصافي، حيث يشترك الشاعران في تكريس شعرهما للتعبير عن حب الوطن الأردن بكل تفاصيله الجغرافية والبشرية، مع إحساس عالٍ بالمسؤولية تجاه قضايا الأمة.

كما نلمس تقاطعات مع شعراء عرب مثل بدر شاكر السياب وإبراهيم طوقان وحتى سميح القاسم، حيث يتقاطع الزيودي معهم في توظيف الوطن بوصفه قيمة إنسانية لا سياسية فقط. وهؤلاء جميعا يرفعون قضية الوطن من مجرد حدود جغرافية إلى فضاء إنساني شامل، حيث الكرامة والعدالة والوجود هي الأركان الأساسية للمشروع الشعري.

وبهذا، يرسّخ الزيودي مشروعًا يجمع بين الأصالة اللغوية والتعبير الوطني الصادق، جاعلاً من الشعر أداة لبحث الهوية في وجه التحديات. ويظلّ حبيب الزيودي أحد أهمّ من صاغوا ملامح الشعر الأردني الحديث، شاعرا حمل في قصيدته صورة البادية وهي تدخل التاريخ الحديث، وترك خلفه غيما دائما على العالوك.

يذكر أن الزيودي من مواليد عام 1963، ويصادف اليوم الذكرى الثالثة عشرة لوفاته. وقد حصل على بكالوريوس في اللغة العربية من الجامعة الأردنية عام 1987، والتحق عام 2003 بالجامعة الهاشمية في الزرقاء للحصول على شهادة الماجستير، عمل في القسم الثقافي في الإذاعة الأردنية في الفترة بين 1987 و1989، ثم في وزارة الثقافة حتى عام 1990، ثم في التلفزيون الأردني، وجريدة الرأي، وقد تولى إدارة بيت الشعر الأردني، وحصل على جائزة الدولة التشجيعية في الآداب في الشعر عام 1992.



إقرأ المزيد