الأشانتي.. مملكة الذهب والإيقاع الذي قاوم الاستعمار
الجزيرة.نت -

في قلب غابات غانا الخصبة، تواصل مملكة الأشانتي تجسيد حضارة أفريقية عريقة جمعت بين القوة السياسية والثراء الثقافي، وظلت صامدة رغم قرون من الصراع.

تعود جذور الأشانتي إلى شعب "الأكان" الذي استقر في مناطق غنية بالذهب خلال القرنين الـ15 والـ16، لكن التحول المفصلي جاء في أواخر القرن الـ17 حين وحّد القائد أوسي توتو القبائل بمساعدة الزعيم الروحي أوكومفو أنوكيه.

من كوماسي، العاصمة التاريخية، برز "العرش الذهبي" كرمز مقدس للمملكة، وتقول الأسطورة إنه نزل من السماء إلى حضن أوكومفو أنوكيه، ليجسّد روح الأمة الأشانتي وكرامتها. ولهذا يُمنع الجلوس عليه، ويُعرض فقط في المناسبات الكبرى.

عندما حاول البريطانيون الاستيلاء على العرش عام 1900، قادت الملكة آياسانتيوا مقاومة شرسة دفاعًا عن رمز السيادة، في واحدة من أبرز محطات النضال في تاريخ أفريقيا الحديث.

كرسي العرش لقبيلة الأشانتي Asante Golden Stool (الأرشيف الوطني في المملكة المتحدة)

فقد اعتبرت المطالب البريطانية بالهيمنة بتسليم "العرش الذهبي" استفزازًا غير مسبوق لكرامة الأمة.

وبينما التزم قادة الأشانتي الصمت في اجتماع حاسم، تقدّمت آياسانتيوا، بصفتها الحارسة الروحية للعرش، لتقلب الموقف بكلمات حاسمة دعت فيها إلى المقاومة، معلنة أن زمن التردد قد انتهى، وأن الدفاع عن رمز السيادة هو دفاع عن روح الشعب ذاته. "إذا لم يقف رجال الأشانتي ويدافعوا عن أمتهم، فسنفعل نحن النساء ذلك، سأدعو نساء الأشانتي وسنقاتل حتى آخر نفس".

بهذه الكلمات، أعلنت ميلاد ثورة العرش الذهبي، واحدة من أهم حركات المقاومة في التاريخ الأفريقي الحديث.

في معركة العرش الذهبي ضد البريطانيين، تغنى المقاتلون بأغنية "آياسانتيوا" والتي أصبحت نشيدا للبطولة النسائية والمقاومة الوطنية وأصبحت أسطورة موسيقية ما تزال تردد حتى اليوم في المدارس والاحتفالات الوطنية في غانا، تقول كلماتها:

"آياسانتيوا…

المرأة التي حاربت الرجال البيض،

خاضت معركة العرش الذهبي"

رغم أن الثورة انتهت بهزيمة الأشانتي واعتقال آياسانتيوا، فإن روحها أحيت المقاومة ضد الاستعمار، وكانت الشرارة التي ألهمت نضال غانا نحو الاستقلال بعد نصف قرن.

بعد استسلامها، نُفيت آياسانتيوا إلى جزيرة سيشيل في المحيط الهندي، حيث توفيت عام 1921 لكن ذكراها لم تمت، إذ تحولت إلى رمز قومي، وتم نقل رفاتها إلى غانا بعد الاستقلال لتُدفن في أرضها الأم، وسط احتفال وطني ضخم.

الطبول حافظة ذاكرة الأشانتي

في إقليم أشانتي بغانا، تتجاوز الموسيقى كونها فنًا لتصبح لغة نابضة تعبّر عن الذاكرة الجماعية وتاريخ الشعب، حيث تتحول الطبول إلى وسيلة تواصل ثقافي واجتماعي تنتقل من جيل إلى آخر.

إعلان

لم تكن الإيقاعات مجرد طقوس احتفالية، بل أداة مقاومة وتعبير سياسي في زمن الصراع، إذ استخدمت الطبول لنقل الرسائل بين المقاتلين، ولإشعال الحماسة في صفوف الشعب.

أما الأغاني، فكانت تُؤدى بروح جماعية تستنهض الهمم وتكرّس وحدة المجتمع وتماسكه، لتغدو الموسيقى صوتًا للنضال بقدر ما هي تعبير عن الهوية.

خريطة غانا (الجزيرة)

تتسم موسيقى الأشانتي بتعدد الإيقاعات وتداخلها في أنماط دقيقة، حيث لا يُعزف الطبل لمجرد الإيقاع، بل يؤدي وظيفة محددة تحمل معنى خاصًا في السياق الاجتماعي والسياسي.

فطبل "الأتومبان"، المعروف بـ"الطبل المتحدث"، يُستخدم لنقل رسائل لغوية مشفّرة بين أفراد المجتمع، بينما تُخصص طبول "الكيت" للبلاط الملكي وتُعزف حصريًا في المناسبات الرسمية.

أما طبل "فونتوم فروم"، فيُعد تجسيدًا لهيبة الدولة ورمزًا للسلطة.

ويؤكد كبار الموسيقيين التقليديين في كوماسي أن هذه الطبول ليست أدوات موسيقية فحسب، بل أعمدة في بناء الهوية الأشانتي.

"الطبل في ثقافتنا ليس مجرد صوت… إنه لسان الأجداد"

بهذا الفهم العميق، تتحول الموسيقى لدى الأشانتي إلى جسر حيّ يربط الماضي بالحاضر، إذ تتجاوز كونها طقسًا فنيًا للمتعة لتغدو وسيلة لحفظ الذاكرة الجماعية وصون الهوية الثقافية. فالعزف والغناء والرقص ليسوا مجرد أداء، بل فعل جماعي يُجسّد الانتماء، ويجعل من المجتمع كيانًا واحدًا ينبض بإيقاع الطبول كما ينبض القلب بالحياة.

من الإيقاع القبلي إلى النشيد الوطني

مع تنامي حركات التحرر الوطني في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، أصبحت موسيقى الأشانتي مصدرًا لإلهام الحركات القومية في غانا، حيث استلهم الموسيقيون المحليون إيقاعاتها لتطوير أنماط موسيقية جديدة مثل "الهايلايف" و"الأفروبويت"، التي تحولت لاحقًا إلى صوت الهوية الأفريقية الحديثة.

وعند إعلان استقلال غانا عام 1957، دوّت الطبول في شوارع كوماسي وأكرا احتفالًا بانتصار الروح الأشانتية على الاستعمار، وعودة الصوت الأفريقي إلى أرضه.

ومنذ ذلك الحين، لا يخلو احتفال ملكي في كوماسي من صدى الطبول القديمة، كتذكير دائم بأن الحرية بدأت بإيقاع، واستمرت بنغمة، وخلّدت تاريخًا لا يُنسى.

فيليب جيبيل كواشي (Philip Gbeho)، المولود عام 1904 والمتوفى عام 1976، كان موسيقيًا وملحنًا بارزًا وأستاذًا للموسيقى، وُلد في إقليم فولتا وتلقى تعليمه الموسيقي في كل من غانا والمملكة المتحدة.

عُرف كواشي بتأليفه للنشيد الوطني الغاني "God Bless Our Homeland Ghana" عام 1957، تزامنًا مع استقلال البلاد عن الاستعمار البريطاني.

وقد كان من أوائل من عملوا على إدماج الإيقاعات والمقامات الأفريقية في قالب موسيقي حديث يحمل طابعًا وطنيًا.

ويُعد كواشي من رواد تأسيس الهوية الموسيقية الوطنية في غانا بعد الاستقلال، إذ فاز عمله في مسابقة رسمية لاختيار النشيد الوطني، ليصبح صوته جزءًا من الذاكرة الجماعية للأمة الوليدة.

اللهم بارك وطننا غانا،
وارع شعبها بالأمان
اجعلهم شجعانًا وصادقين،
لخدمة الحق والحق وحده

يا رب، قوِّم قادتنا،
حافظًا إياهم من سوء الحكم

السُّلم الموسيقي والهوية الصوتية لدى الأشانتي

ترتكز الموسيقى الأشانتية على السلم الخماسي، الذي يتكوّن من 5 نغمات أساسية، خلافًا للسلم السباعي الأكثر شيوعًا عالميًا. يمنح هذا التكوين الموسيقي طابعًا لحنيًا بسيطًا، لكنه يفيض بالإحساس والتعبير.

إعلان

ويُوظف "السلم الخماسي الكبير" في الأغاني الاحتفالية ذات الطابع الجماعي، بينما يُستخدم "الخماسي الصغير" في الطقوس الروحية والتأملية، ليعكس عمق التجربة الدينية والوجدانية لدى شعب الأشانتي.

ينبع التمازج بين اللحن والمعنى في موسيقى الأشانتي من الطبيعة النغمية للغة "توي" (Twi)، حيث تحاكي الإيقاعات نطق الكلمات، ما يفسّر الدور الحيوي للطبول الناطقة في إيصال الرسائل وتشكيل الوعي الجمعي.

وقد أسهم عدد من الموسيقيين في نقل هذا التراث إلى الساحة العالمية، أبرزهم كوو نيمو، أحد رموز الغناء التقليدي، إلى جانب أماكي ديده ونانا أتشامبونغ، رواد موسيقى "الهايلايف"، فضلًا عن أسماء معاصرة أعادت تقديم روح الأشانتي في قالب حديث يجمع بين الأصالة والإيقاعات العالمية.

ليست مملكة الأشانتي مجرد صفحة من التاريخ الأفريقي، بل شهادة حيّة على كيف تتحول الموسيقى إلى هوية وسلاح وصوت للكرامة. فمن العرش الذهبي إلى الطبل المتكلم، ومن ساحات المقاومة إلى أنغام النشيد، تظل الأشانتي قصة شعب جعل من الإيقاع وطنًا، ومن الإيمان ثقافة لا تموت.



إقرأ المزيد