الجزيرة.نت - 11/17/2025 7:14:28 PM - GMT (+3 )
في تحول جيوسياسي مذهل، رفعت الولايات المتحدة، في 29 أكتوبر/تشرين الأول، العقوبات فجأة عن زعيم صرب البوسنة ومنكر الإبادة الجماعية، ميلوراد دوديك- الحليف المعروف للكرملين، والذي طالما قوض سيادة البوسنة والهرسك.
هذا القرار، الذي يناقض سنوات من السياسة الأميركية الثابتة، يتزامن بشكل لافت مع بدء تعامل مباشر بين روسيا، وكيان صرب البوسنة (جمهورية صرب البوسنة).
لقد كانت روسيا، ولسنوات، تنظر إلى بلغراد باعتبارها الممثل الوحيد لجميع الصرب في المنطقة، غير أنها مؤخرا وجهت ضربة قوية للسلطة الصربية من خلال الاعتراف بدوديك بوصفه الممثل الشرعي لصرب البوسنة.
انقلاب غير مبرررفعت الولايات المتحدة العقوبات فجأة عن دوديك وشبكته، في تراجع مفاجئ وغير مفسَر لسياسة أميركية طويلة الأمد. لسنوات، استهدفته واشنطن لمحاولاته زعزعة استقرار البوسنة، وإنكاره للإبادة الجماعية، وسعيه للانفصال. إن رفع اسمه من قائمة العقوبات يبدو وكأنه مباركة لإنكار إبادة البوسنة، ويفتح الباب على مصراعيه لتفكك البلاد.
هذه الخطوة تفضح مفارقة صارخة في السياسة الخارجية الأميركية. فدوديك أحد أكثر حلفاء الكرملين صراحة في أوروبا، يحتفي علنا بعلاقاته مع موسكو، ويجاهر بدعمه لمصالحها. ورغم ذلك، تُبقي الولايات المتحدة على عقوبات صارمة ضد كثير من الأشخاص والكيانات لمجرد صلات أضعف بروسيا.
تبرير القرار بأنه نتيجة لـ"لوبي ناجح" قاده دوديك لا يصمد أمام التدقيق. فقد بلغت تقديرات إنفاقه على جماعات الضغط في الولايات المتحدة ضعفين أو ثلاثة أضعاف مبلغ الثلاثين مليون دولار الموثق في عام 2017. ومع ذلك، تبقى هذه المبالغ زهيدة مقارنة بما تنفقه دول وجماعات ضغط كبرى تفشل باستمرار في تحقيق مثل هذه النتائج الدبلوماسية الباهرة.
ثمة تفسير آخر لهذا التحول السياسي الأميركي يتعلق بثروات البوسنة المعدنية، ولا سيما الليثيوم. ففي 21 مايو/أيار 2025، صرح دوديك علنا بأنه يعرض الموارد المعدنية لكيان صرب البوسنة على الولايات المتحدة مقابل اعترافها بسيادة جمهورية صرب البوسنة.
إعلان
لكن هذا التفسير يشوبه خلل منطقي: فإذا كانت الولايات المتحدة مهتمة بالليثيوم فعلا، فإن الإبقاء على العقوبات كان سيمنحها قدرة أكبر على التحكم بالموارد، دون الحاجة لمنح دوديك أي اعتراف سياسي. إن ضعف هذا التبرير يشير إلى وجود اعتبارات جيوسياسية أعمق غير معلنة، ويثير تساؤلات خطيرة حول الثمن الحقيقي لهذا التراجع الأميركي المفاجئ.
موسكو تهمش بلغرادلعدة سنوات، كانت صربيا تنأى بنفسها تدريجيا عن روسيا وتتجه نحو الغرب. ففي 29 أغسطس/آب 2024، أعلن الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش عن صفقة بقيمة 3 مليارات دولار لشراء 12 طائرة "رافال" من فرنسا، مما شكل تحولا كبيرا نحو تحالفات أمنية غربية.
وفي مؤتمر صحفي مشترك، وصف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الصفقة بأنها "تاريخية"، مشيدا بـ"الشجاعة الإستراتيجية" لصربيا، ومؤكدا مستقبلها الأوروبي.
لم يمر هذا دون أن تلاحظه موسكو، التي اتهمت في مايو/أيار 2025 بلغراد بأنها "طعنتها في الظهر" من خلال بيع أسلحة لأوكرانيا. وفي يوليو/تموز، أدان الكرملين نية صربيا الانضمام إلى العقوبات الغربية على روسيا.
وفي اليوم السابق لرفع العقوبات عنه، لم يكن دوديك يقترب من واشنطن، بل كان في مينسك يحتضن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف. لقد أعلنت موسكو، من خلال لقائها بدوديك عشية رفع العقوبات الأميركية، عن إستراتيجية جديدة في البلقان تقوم على إقصاء صربيا عمدا.
في سبتمبر/أيلول، وزير الخارجية الروسي وصف دوديك بأنه "الرئيس المنتخب شرعيا" لجمهورية صرب البوسنة. واليوم، يُعرف الموقع الرسمي لوزارة الخارجية الروسية دوديك بأنه "زعيم الصرب البوسنيين في البوسنة والهرسك"، وهي تسمية جديدة تحمل أبعادا إستراتيجية عدة:
- أولا، إنها تضعف سيادة البوسنة عبر إعطاء دوديك تفويضا وطنيا وليس إقليميا فقط.
- ثانيا، تتحدى طموح صربيا القومي الذي يجسده مفهوم "العالم الصربي" (Srpskisvet)، بوصفها الراعي الأعلى لكل الصرب، لتطرح موسكو نفسها بدلا منها كمرجعية عليا في الشأن الصربي.
يُشبه مشروع "العالم الصربي" نظيره الروسي المعروف بـ "العالم الروسي" (Ruski mir)، فكلاهما يسعى لتوحيد المكونات العرقية واللغوية في هوية ثقافية عابرة للحدود؛ لتبرير التوسع السياسي والتدخل في الدول المجاورة بحجة حماية الأقليات.
وجاءت أقوى رسالة لهذا التحول من دوديك نفسه، الذي صرح بوضوح أن بلغراد لا سلطة لها على جمهورية صرب البوسنة. ورد فوتشيتش مستهجنا: "في الليلة الماضية، رأيت أن بانيا لوكا تقول إنه لا أحد من بلغراد سيصدر لهم الأوامر".
لقد دأبت صربيا، لسنوات، على تقديم نفسها كراعٍ أبوي لجميع الصرب، وكانت جمهورية صرب البوسنة تتحرك ضمن فلكها السياسي. لكن بتصريح دوديك هذا، انكسرت هذه المعادلة، وصار الكيان ذو الغالبية الصربية تابعا لراعٍ جديد.
إن هذه الخطوة شقت علنا الصف بين دوديك وفوتشيتش، وقلصت من سلطة بلغراد. وهي إشارة واضحة على أن روسيا باتت تتعامل مباشرة مع الانفصاليين الصرب في البوسنة، متجاهلة الحكومة الصربية.
وبالنسبة لفوتشيتش، الذي كان يحاول التوفيق بين أوروبا وروسيا، فإن هذا أسوأ سيناريو ممكن: نفوذه لم يعد مطلوبا، وروسيا باتت تعمل من بانيا لوكا بدلا من بلغراد، ما قلل كثيرا من أهمية صربيا الجيوسياسية.
روسيا تضم قلب أوروبا المريضإن قرار الولايات المتحدة برفع العقوبات عن دوديك قد سمح لموسكو فعليا بضم جمهورية صرب البوسنة إلى فضائها السياسي، إن لم يكن الجغرافي. لقد انتهى زمن النفوذ غير المباشر، وأصبحت جمهورية صرب البوسنة تُدار مباشرة من الكرملين، في تحول جذري لموازين القوى الأوروبية.
إعلان
كما أن الوجود العسكري الروسي في البلقان آخذ في التوسع. فبينما تحتفظ موسكو بقواعد غير رسمية في صربيا، من المرجح الآن أن تُنشئ قاعدة في بانيا لوكا، العاصمة الفعلية لكيان صرب البوسنة.
البوسنة، التي تقع في قلب أوروبا، تشبه القلب فعلا في شكلها الجغرافي. ولثلاثين عاما، سنحت للاتحاد الأوروبي فرصة علاج هذا القلب المريض.
لكنه فشل في ذلك، لأنه في جوهره، مصاب بالعنصرية: الإسلاموفوبيا والروسوفوبيا. والآن، اتضح ثمن هذا الحقد؛ فقد أصبح نصف قلب أوروبا -أي نصف البوسنة- إقليما روسيا فعليا، تُطلق منه الصواريخ بكفاءة أكبر من كالينينغراد.
رقعة الشطرنج الكبرى: تفاهم ضمني بين واشنطن وموسكو؟إن رفع العقوبات الأميركية عن دوديك فجأة، تلاه مباشرة عناقه الإستراتيجي مع لافروف، لا يبدو فشلا أميركيا، بل تحركا محسوبا في رقعة شطرنج القوى الكبرى.
لقد كانت ضربة لافروف بإضفاء الشرعية على دوديك على حساب بلغراد رسالة قوية إلى صربيا بأن دورها التاريخي كراعٍ لصرب البوسنة قد انتهى.
وبهذا التحالف الجديد، تُثبت موسكو أن بيدها مفاتيح السلطة في جمهورية صرب البوسنة، وتُذكر صربيا بمن يتحكم فعليا بولاءات أبناء جلدتها.
هذا التحرك يستغل التناقض العميق في الوضع الصربي: الأمة ممزقة بين تطلعاتها الأوروبية، وارتباطاتها العميقة ثقافيا ودينيا وتاريخيا بروسيا. وقد زادت خطوة لافروف من إحكام القبضة الروسية، دافعة بلغراد نحو التبعية.
ويفتح هذا الباب أمام أكثر النظريات إزعاجا: أن الرضوخ الأميركي هو جزء من صفقة ضمنية بين القوى الكبرى. توقيت القرار وتناقضه يشيران إلى أنه ليس تراجعا، بل صفقة إستراتيجية.
وربما تكون واشنطن قد تخلت عمدا عن نفوذها في البوسنة، وقبلت بتوسع النفوذ الروسي في البلقان، مقابل تنازل من موسكو في مكان آخر -ربما في أوكرانيا، أو الشرق الأوسط- أو أي ساحة صراع أخرى. يتماشى هذا مع نمط تاريخي ساخر: كثيرا ما تتخلى القوى الكبرى عن التزاماتها المحلية لصالح صفقات سرية كبرى.
السؤال الكبير والتداعياتإن رفع العقوبات الأميركية بشكل مفاجئ، وتحول دوديك فورا نحو موسكو، يترك سؤالا مرعبا بلا إجابة: ما الذي كسبته واشنطن مقابل أن تهدي روسيا فعليا نصف البوسنة؟
إن هذه الصفقة الغامضة تضحي بعقود من السياسة الأميركية المبنية على المبادئ في البلقان، مقابل ثمن جيوسياسي غير معلوم، ما يقوض مصداقية واشنطن، ويهدد اتفاق "دايتون" الهش.
أما التداعيات فهي واضحة: انفصاليون أكثر جرأة، قارة أوروبية أقل استقرارا، ورسالة خطيرة مفادها أن القيم الديمقراطية التي دُفِع ثمنها غاليا، باتت مجرد أوراق تُستخدم في لعبة النفوذ الكبرى، ويُضحى بالحلفاء من أجل انتصارات الخصوم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
إقرأ المزيد


