لغز "الاختفاء الكبير" على منصة "إكس": أين ذهب آلاف المتابعين فجأة؟
إيلاف -

إيلاف من دبي: في الأسابيع الماضية، لاحظ مستخدمون وصحافيون ومؤثرون في المنطقة العربية تراجعاً مفاجئاً في أعداد المتابعين على "إكس"، وصل عند بعض الحسابات إلى آلاف خلال ساعات. الظاهرة التي رصدتْها تقارير عربية – بينها تقرير محدود الوصف في "الشرق الأوسط" – لم تكن حدثاً عابراً، ولا خللاً تقنياً مؤقتاً، بل مؤشراً على تحوّل أعمق يجري داخل المنصة التي كانت يوماً ساحة عامة مفتوحة، فأصبحت اليوم فضاءً تتحرك خوارزمياته من دون أن تترك أثراً واضحاً على السطح.

فبينما اكتفت "إكس" بالتفسير التقليدي نفسه: "تنظيف الحسابات الوهمية وغير النشطة"، بدت الوقائع، كما يرويها المستخدمون والخبراء، أوسع وأعمق من أن تُعلَّق على شماعة “السبام”.

المنصة أعلنت في أكثر من مناسبة – عبر حساب "X Safety" – أنها تعمل على حذف الحسابات "المزعجة" و"البوتات"، وأن مكافحة التلاعب بالمحتوى أولوية منذ استحواذ إيلون ماسك عليها عام 2022. غير أن خبراء تحدثوا إلى وسائل إعلام دولية أشاروا إلى أن هذه الحملات غالباً ما تصيب حسابات حقيقية "ضعيفة النشاط" أو "غير متوافقة مع المعايير الجديدة" التي تفرضها الخوارزمية من دون إعلان واضح عنها.

هذا ما يؤكده أيضاً الدكتور حسن مصطفى، أستاذ التسويق الرقمي والذكاء الاصطناعي في جامعة روتشستر للتكنولوجيا بدبي، الذي يرى أن "ما يجري ليس حملة تنظيف تقليدية، بل نتيجة سلسلة تغييرات بنيوية في طريقة عرض المحتوى وتصنيف الحسابات". ويشرح أن تغيير ماسك طريقة التعامل مع الروابط – كما وثّقت "الواشنطن بوست" حين كشفت حذف عناوين الأخبار من الروابط – أدّى إلى تراجع واضح في انتشار المحتوى الإخباري، بما في ذلك حسابات المؤسسات الإعلامية الكبيرة، ما أثر على تفاعل الجمهور، وبالتالي على "قيمة" الحساب في نظر الخوارزمية.

ويضيف مصطفى أنّ تصريحات ماسك المتكررة حول أن الروابط "لا تستحق مساحة كبيرة" وأن المحتوى الطويل المباشر أفضل، أعادت ترتيب أولويات التوزيع على "إكس". هذا التحوّل لم يُخفّض التفاعل فقط، بل خلق دائرة خفية: حين ينخفض الوصول، يصنَّف المتابعون أنفسهم على أنهم "غير نشطين"، ومع أول حملة تنظيف، يتساقط جزء منهم من عدّاد الحساب.

البعد الثاني، كما يشرحه لـ"الشرق الأوسط" الخبير في تحليل بيانات السوشيال ميديا مهران كيالي، يتعلق بطبيعة المنصة نفسها بعد استحواذ ماسك: "إكس لم تعد منصّة تواصل اجتماعي خالصة، بل مشروع خدمات متشابك، من المدفوعات الرقمية إلى الفيديو الطويل إلى أدوات الذكاء الاصطناعي. هذا التحوّل غيّر سلوك المستخدمين، وقصّر مدة بقائهم، وأخرج جزءاً من الجمهور إلى منصات أسرع وأكثر مباشرة".
ويشير إلى أنّ نمو منصات الفيديو القصير، وتراجع الاهتمام بالمحتوى النصّي، إضافة إلى القيود الحكومية على أنواع معينة من المحتوى، كلها عوامل جعلت مستخدمين كثيرين في المنطقة "مجرد أرقام غير نشطة"، ما يجعلهم هدفاً سهلاً لأي موجة حذف.

هذه القراءة تجد ما يدعمها في تقارير عالمية. فـ"تك كرانش" أفادت بأن نشاط الحسابات المزيفة "لم يتراجع فعلياً" رغم حملات التنظيف، وأن حسابات جديدة تحمل العلامة الزرقاء ظهرت رغم فرض رسوم على التوثيق، في مفارقة كشفت خللاً في صميم النظام. وفي الوقت نفسه، أظهر تقرير "رويترز" حول اتجاهات الإعلام الرقمي أنّ إحالات منصّات التواصل إلى المواقع الإخبارية تراجعت جماعياً، بما في ذلك "إكس"، ما يعكس تحوّل الجمهور نفسه إلى أنماط استهلاك مختلفة.

لكن العنصر الأكثر حساسية في تفسير اختفاء المتابعين هو التحول الخوارزمي الذي قادته الشركة باتجاه الاعتماد على نموذج "Grok"، الذكاء الاصطناعي الذي يطوّره فريق xAI. النموذج لا يعرض آلية عمله، ولا يوضح كيف يصنّف المحتوى، ولا يكشف الأوزان التي يمنحها للمنشورات أو الحسابات. التحليل المستند إلى الخبراء يشير إلى أن Grok يعيد رسم خريطة الظهور على أساس معايير "تفاعلية – سلوكية – زمنية" لا يمكن للمستخدمين التنبؤ بها.
وبما أن الخوارزمية تعيد تقييم الحساب بشكل متكرر، فإن أي انخفاض في التفاعل قد يُترجم تلقائياً إلى "تراجع رتبة"، ومعه يدخل جزء من المتابعين في منطقة "ضعف النشاط"، مما يجعل حذفهم أمراً محتملاً.

ويأتي هذا في سياق دولي مضطرب، حيث تخضع "إكس" لتحقيقات رسمية من المفوضية الأوروبية بموجب قانون الخدمات الرقمية، تتعلق بـ"عدم الشفافية في آليات التوصية" و"تعطيل وصول الباحثين إلى البيانات". هذه الضغوط التنظيمية تجعل المنصة أكثر حساسية تجاه الحسابات غير النشطة، وأكثر ميلاً إلى تطبيق عمليات حذف واسعة للحفاظ على مظهر "النظافة"، ولو على حساب حسابات حقيقية.

ولا يمكن إغفال العامل المرتبط بسلوك المستخدمين أنفسهم. تقرير Pew Research – أحد أهم المصادر العالمية لقياس تفاعل الجمهور – أظهر أن 60% من مستخدمي تويتر الأميركيين توقفوا عن استخدام المنصة لفترات طويلة خلال العام الذي تلا استحواذ ماسك، وأن ربع المستخدمين تقريباً قالوا إنهم "غير مرجح" أن يستمروا فيها خلال عام واحد. هذه الاتجاهات لا تبقى محصورة في أميركا؛ فالانكماش في الاستخدام ينسحب على منطقتنا، ويجعل من حسابات كثيرة "أسماء بلا حضور"، وبالتالي عرضة للاختفاء من قوائم المتابعين.

من هنا، يبدو المشهد العام كتداخل ثلاثة عناصر: خوارزمية تعيد تعريف "من يستحق أن يُرى"، جمهور يعيد توزيع وقته واهتمامه، ومنصة تعيد بناء هويتها الاقتصادية والتجارية. النتيجة هي ما يراه المستخدمون على السطح: تراجع مفاجئ، صامت، ومن دون تفسير، في أعداد المتابعين.

اختفاء المتابعين ليس رقماً يتراجع فقط. هو انعكاس لتحول المنصة نفسها، ولعلاقتها بالجمهور، وللخوارزمية التي لم تعد بوابةً محايدة، بل "محرراً خفيّاً" يقرّر من يبقى ومن يغادر. وفي غياب الشفافية، يبقى المستخدم تحت رحمة نظام لا يكشف أوراقه، ويعيد تشكيل جمهوره من دون أن يخبره لماذا أو كيف.



إقرأ المزيد