الجزيرة.نت - 11/25/2025 8:01:04 PM - GMT (+3 )
Published On 25/11/2025
|آخر تحديث: 19:39 (توقيت مكة)
شارِكْ
يعد يورغوس لانثيموس أحد أكثر الأصوات السينمائية تفردًا في العقدين الأخيرين؛ مخرجًا لا يقدم عوالم فيلمية بسيطة أو يسهل تفسيرها، بل يصنع سينما تربك المتفرج وتجبره على فتح آفاقه ومحاولة فك شفرات العمل.
وذلك عبر أسلوب يقوم على مزيج من الكوميديا السوداء والعنف النفسي الذي يتحول أحيانًا إلى عنف حقيقي، وشخصيات تتحرك كما لو أنها خارج الزمن في عوالم مغلقة تخضع لقوانين غريبة تشبه الكوابيس أكثر من الواقع.
ويُعرض الآن في دور السينما حول العالم أحدث أفلام يورغوس لانثيموس السينمائية، فيلم "بوغونيا" (Bugonia)، وهو النسخة الناطقة بالإنجليزية من الفيلم الكوري الجنوبي الشهير "أنقذ الكوكب الأخضر!" (!Save the Green Planet) الصادر عام 2003 للمخرج جانغ جون هوان.
يأتي العمل كإنتاج مشترك بين أيرلندا وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة، وتشارك في بطولته مجموعة من الأسماء البارزة، من بينها إيما ستون، جيسي بليمنز، إيدان دلبس، ستافروس هالكيس، وأليشيا سيلفرستون.
الرأسمالية في ثوب فضائي
يرسم "بوغونيا" مقابلة بين عالمي أبطاله من اللقطات الأولى؛ فشتان ما بين حياة ميشيل فولر (إيما ستون) وتيدي جاتز (جيسي بليمنز). الأولى تستيقظ في غرفة حديثة في فيلا فارهة لتقوم بروتينها الصباحي الذي يتضمن طعامًا محسوب القيم الغذائية والسعرات، ثم تقوم بتمارين اليوغا قبل أن تتمرن على الدفاع عن النفس مع مدرب متخصص، بالإضافة إلى العناية ببشرتها وهي تتابع بريدها الإلكتروني.
بينما يتبع تيدي روتينًا مشابهًا وإن كان أكثر بساطة ودون تفاصيل معقدة، فهو يتناول إفطارًا متكامل العناصر الغذائية يعتمد على الأطعمة الكاملة، ثم يتمرن مع ابن عمه في بهو المنزل المتهالك الذي ورثه من أمه بتمارين هي خليط من التقوية واليوغا، ليبدو كل منهما كوجهين لعملة واحدة: الأولى يغلفها بريق لامع من الثراء والرأسمالية، والثاني أكثر بدائية.
إعلان
تجمع بين الشخصيتين نقطة لقاء أخرى بالإضافة إلى تشابه وتناقض روتينهما الصباحي؛ فكلاهما ينتمي للمؤسسة نفسها، فالأولى رئيسة شركة دواء شهيرة للغاية، والثاني عامل بسيط في الشركة نفسها. كلاهما في فضائه الخاص رغم أنهما يعملان تحت السقف ذاته، ثم تلتقي طرقهما بصورة عنيفة، عندما يختطف تيدي ميشيل ويحتجزها في قبو منزله لأغرب مبرر.
يؤمن تيدي أن الحياة على الأرض تتدهور تدريجيا نتيجة لغزو فضائي، وتتسع شواهد هذا الدمار، بداية من مرض والدته والفقر الذي يعم مجتمعه إلى موت النحل والمزروعات. وتقوده دراساته الخاصة إلى أن ميشيل هي كائن فضائي متنكر في هيئة بشرية، لذلك يختطفها ويحلق شعرها الذي يعتقد أنه وسيلة تواصلها مع كوكبها الخاص، ويبدأ في تعذيبها لانتزاع اعتراف بحقيقتها.
يختلف "بوغونيا" عن أفلام لانثيموس الأخرى التي يحتار المتفرج في فك رموزها وفهم شفراتها؛ فهو يمكن قراءته ككتاب مفتوح، غير أن ذلك فخ مقصود من المخرج، الذي ما إن تستسلم لقراءتك الواضحة للفيلم حتى تجد أن هناك مستوى آخر من الحبكة يجعلك تعود للخلف لتقرأه من جديد.
يعتقد المتفرج لأول وهلة أن الفيلم ببساطة حول سيطرة الرأسماليين على مقادير الأمور في الوقت الحالي، وكيف لوثوا البيئة وأفقروا البسطاء، وأن الفضائيين يرمزون لهؤلاء الأثرياء اللامبالين، غير أن الفيلم يقدم ما هو أبعد من مجرد رمز مباشر كهذا.
الحريق أسفل دخان نظرية المؤامرة
يدفع الفيلم متفرجيه منذ البداية إلى الاستخفاف بتيدي؛ فهو رجل مهووس بنظريات المؤامرة التي تنتشر على الإنترنت، ينجرف وراء هاجس غريب يتعلق بالغزو الفضائي، ويستغل ابن عمه المصاب بالتوحد لتنفيذ خطته. خطة تبدو في ظاهرها ساذجة ومثيرة للضحك، خاصة حين يبدأ المشاهد في تفكيك المنطق الذي تستند إليه.
يقدّم الفيلم عالما عبثيا من منظور أشخاص يُنظر إليهم على أنهم "مجانين" أو فاقدو المصداقية أمام المواطن العادي، الذي يظن أنه يفهم جيدا كيف تُدار الأمور. هذا المواطن العادي يتابع يوميا كيف تعبث الرأسمالية بأدق تفاصيل حياته -من تلوث طعامه إلى تدمير الغابات التي يعتمد عليها للتنفس- لكنه لا يرى في ذلك سوى نتائج طبيعية لتطور العالم.
في الطبقة الثانية من الحبكة، يطرح الفيلم سؤالا جوهريا: هل تحت دخان نظرية المؤامرة نار حقيقية؟ فالهواجس التي يسخر منها البعض قد تحمل في جوهرها ذرة من الحقيقة. مثال ذلك الخوف المبالغ فيه من الهواتف المحمولة أو الإنترنت؛ مخاوف تبدو مضحكة لأول وهلة.
لكنها تستند إلى أساس واقعي بعد فضائح عدة كشفت ثغرات خطيرة في شركات التكنولوجيا الكبرى -مثل شركة ميتا- والتي أتاحت بيانات المستخدمين لأطراف أخرى. لقد أثبتت البيانات مرارًا أن رسائل المستخدمين وسلوكهم الرقمي يُستغلان في توجيه الإعلانات وصناعة التأثير.
تيدي في الفيلم مقتنع بأن موت النحل سببه "الفضائيون"، ومن بينهم ميشيل التي اختطفها. ورغم أن تفسيره حرفيًا خاطئ، فإن الرمز واضح: ميشيل تمثل الرأسمالية الحديثة. وإن لم يكن "الفضائيون" هم السبب المباشر لموت النحل، فإن الطبقة الاقتصادية التي تنتمي إليها ميشيل مسؤولة بالفعل عن التدهور البيئي الناتج عن التلوث الصناعي المتواصل منذ الثورة الصناعية. بذلك، تصبح نظرية تيدي، رغم هوسها وغرابتها، محمولة على نواة حقيقة يصعب تجاهلها.
يحمل عنوان "بوغونيا" دلالة أسطورية عميقة تعود إلى المعتقدات الإغريقية القديمة، حيث كان يُعتقد أن النحل يمكن أن يولد من جثة ثور ميت، عملية سُمّيت قديمًا بـ"بوغونيا". ارتبط هذا التصور بفكرة الخلق من الفساد، والحياة التي تُستخلص قسرا من الموت.
إعلان
استدعاء لانثيموس لهذا المفهوم ليس تلاعبا لغويا، بل مفتاحا لقراءة الفيلم بأسره: كيف يمكن أن يولد نظام اجتماعي جديد من انهيار نظام قديم؟ وكيف تعيد الجماعة تشكيل نفسها ضمن بنية اجتماعية تشبه خلية النحل، تنظيم صارم، وولاء مطلق، وعمل داخل منظومة مغلقة؟
العنوان يفتح أبوابًا رمزية أخرى: إذا كان النحل يولد من جثة ثور، فمن هو "الثور" في سياق الفيلم؟ من يُستنزف؟ ومن يدفع ثمن نشوء عالم جديد؟ هكذا تتحول فكرة "بوغونيا" إلى استعارة عن الاستغلال وإعادة الخلق، وعن البحث الدائم عن شكل جديد للسلطة.
شكل قائم على توازن هش بين الحياة والموت، الفرد والجماعة، الحرية والخضوع. وتأتي نهاية الفيلم لتعمّق هذا الغموض، تاركة المشاهد أمام عمل متعدد الطبقات يستدعي إعادة المشاهدة والفهم من جديد.
إقرأ المزيد


