الجزيرة.نت - 11/26/2025 3:46:39 PM - GMT (+3 )
Published On 26/11/2025
|آخر تحديث: 15:32 (توقيت مكة)
شارِكْ
في عالمنا السريع وحياتنا الصاخبة المملوءة بالمشتتات، قد يميل كثير من الناس إلى الرغبة في الانعزال والوحدة ولو مؤقتا، بحثا عن الهدوء أو عن مساحة شخصية خالية من التوقعات والمقارنات.
هذا الميل إلى الانعزال لا ينبع دائما من الضعف، بل أحيانا ينبع من إرهاق عاطفي وتعب ذهني مزمن يجعل الفرد يختار الصمت والعزلة وسيلة للدفاع عن نفسه من التوتر المستمر وضجيج التواصل الدائم.
ومع أن هذه الرغبة قد تبدأ كطريقة مشروعة لاستعادة التوازن الداخلي، فإنها قد تتحول لدى البعض إلى اضطراب نفسي قائم على الانسحاب والانقطاع عن المجتمع والرغبة الدائمة في الانعزال، في ما بات يُعرف بظاهرة "هيكيكوموري".
ظاهرة العزلة الاجتماعية "هيكيكوموري"ظاهرة "هيكيكوموري" (Hikikomori) تُعرَف بوصفها حالة اجتماعية ونفسية ظهرت في العقود الأخيرة في اليابان، ثم سرعان ما تحولت إلى ظاهرة لها حالات مماثلة في بلدان أخرى من العالم.
والمقصود بها حالة من "الانغلاق المدمر للشخص داخل المنزل، وفقدان الرغبة أو القدرة على المشاركة في الحياة المدرسية أو العملية والاجتماعية لمدد طويلة، عادة 6 أشهر أو أكثر، مما يخلق مشكلات متراكبة على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع".
ومع ذلك، بدأت "هيكيكوموري" كظاهرة ثقافية في اليابان، حيث يبقى الناس معزولين ومنعزلين ويقيمون في منازل آبائهم. وكان هؤلاء الأفراد، ومعظمهم من الشباب، غير قادرين على الذهاب إلى العمل أو المدرسة، أو يرفضون ذلك لأشهر أو حتى لسنوات طويلة قد تمتد عقودا.
وقد صاغ الطبيب النفسي الياباني سايتو تاماكي هذا المصطلح ووُصف في كتابه "هيكيكوموري: مراهقة بلا نهاية" الصادر عام 1998. وهي تعني حرفيا في مقطعها الأول "هيكي": الانطواء أو الانسحاب، و"كوموري" التي تعني الانغلاق أو البقاء في الداخل. وهو مشابه للمفهوم الغربي المتمثل في "الفشل في الانطلاق – Failure to launch".
إعلان
وقد وجدت دراسة أجريت عام 2010 في اليابان أن 1.2% من السكان اليابانيين الذين تراوح أعمارهم بين 20 و49 عاما أفادوا بتعرضهم لها. ومنذ ظهورها، ناقش علماء النفس ما إذا كان ينبغي تصنيف "هيكيكوموري" كاضطراب نفسي أم متلازمة ثقافية. اشتبه علماء النفس في البداية في أن الاضطراب نما نتيجة ظروف اجتماعية وثقافية خاصة باليابان، مثل نظام التعليم الياباني أو الظروف الاقتصادية. ومع ذلك، فقد وُثّقت حالات "هيكيكوموري" منذ ذلك الحين في العديد من البلدان ذات الاختلافات الثقافية الواسعة، بما في ذلك الهند وكوريا الجنوبية ونيجيريا والولايات المتحدة وإسبانيا وكندا، وغيرها.
يهرب الفرد المصاب بمتلازمة "هيكيكوموري" عاطفيا وينسحب من العلاقات الشخصية، ثم ما يلبث أن ينفصل تدريجيا بشكل تام عن العالم المادي وينغمس بالكامل في العالم الافتراضي.
ومع ذلك، لا تُعد متلازمة "هيكيكوموري" اضطرابا في الصحة النفسية، ولم تُدرج في الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية والعقلية. كذلك لا تتوافق أعراض "هيكيكوموري" بدقة مع أي اضطراب نفسي مُحدد، مثل الاكتئاب أو القلق أو الرهاب الاجتماعي.
ويرجع ذلك إلى أن الفرد المصاب بالمتلازمة قد يظل على اتصال بالآخرين عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو الإنترنت، كما لا يكون المصاب بالضرورة انطوائيا أو خجولا، بل إن هناك بعض الأدلة التي تشير إلى وجود علاقة محتملة بين هذه الظاهرة والاستخدام القهري للتكنولوجيا الرقمية.
وبالنسبة للأسباب، يمكن أن تؤثر أي ضغوط على الشخص وتدفعه إلى الدخول في هذه المتلازمة، بما في ذلك الضغط الدراسي، وتوقعات الوالدين، والخوف من الفشل، أو المتطلبات الاجتماعية وضغوطات العمل. كما يمكن أن تلعب ديناميكيات الأسرة المختلة، على سبيل المثال، دورا في الانسحاب الاجتماعي، وتحديدا بين الأجيال الشابة من المصابين بهذا الانعزال، خاصة إذا تعرض الفرد للإساءة أو سوء المعاملة أو الصدمة في الطفولة.
اضطرابات نفسية تعزز فرص الإصابةقد تتقاطع بعض حالات المتلازمة مع اضطرابات أخرى مثل طيف التوحد، واضطرابات المزاج، وإدمان الألعاب الإلكترونية، إضافة إلى بعض أنماط الشخصية التي قد تسهم في تفاقم العزلة.
على سبيل المثال، تُظهر الدراسات أن الرجال والنساء المصابين بالـ"هيكيكوموري" يسجلون درجات أعلى على مقاييس الشخصية التجنبية، وتشير بعض التقارير إلى أن اضطراب الشخصية التجنبية يُعد من الاضطرابات المصاحبة الشائعة لهذه المتلازمة. كما يرتبط اضطراب القلق الاجتماعي بالـ"هيكيكوموري" في عدد من الحالات. ومع ذلك، قد يعاني بعض الأفراد من انسحاب اجتماعي شديد من دون أن يكون لديهم أي اضطراب نفسي مُشخّص.
تشير التقديرات الحالية إلى أن نحو 1.5 مليون ياباني -أي ما يزيد قليلا على 1% من السكان- يمكن تصنيفهم ضمن حالات الـ"هيكيكوموري"، كما سجلت ظواهر مشابهة في دول عديدة في أنحاء العالم. ورغم اتساع نطاقها، لا يزال الاتفاق حول ماهية هذه المتلازمة وأسبابها محدودا، مما يجعل إيجاد علاج واضح لها مهمة معقدة.
إعلان
ومع ذلك، يؤكد خبراء الصحة النفسية في اليابان أن الخروج من حالة الـ"هيكيكوموري" لا يمكن أن يحدث من دون شبكة دعم متماسكة وعلاج متخصص. ويعد العمل على إعادة تنظيم العلاقة بين المريض ووالديه الخطوة الأولى نحو التعافي، خاصة أن كثيرا من المصابين يعتمدون على والديهم بوصفهما نافذتهم الوحيدة على العالم خارج الإنترنت. ولهذا، يجري أيضا تزويد الآباء والأمهات بإستراتيجيات تساعدهم على التواصل مع أبنائهم بطريقة أكثر صحة وفاعلية.
وعندما يصل الشخص المنعزل إلى مرحلة تسمح له بالحضور إلى العيادة، يمكن البدء في سلسلة من العلاجات تشمل العلاج السلوكي المعرفي المتخصص (CBT)، ومجموعات الدعم والمساعدة الذاتية، وبرامج تدريجية تشجع على التفاعل الاجتماعي والاندماج في المجتمع الأوسع.
وبذلك، يعتمد علاج متلازمة "هيكيكوموري" عموما على العلاج النفسي بدلا من الأدوية، على الرغم من استخدام الأدوية لعلاج الأمراض النفسية المصاحبة للحالة وفقا للحدّة والحالة المصاحبة.
قد يكون العلاج فرديا أو جماعيا أو عائليا، وغالبا ما يتبع اختصاصيو علم النفس أنواعا متعددة من العلاج في وقت واحد، مع سلسلة من التغييرات في نمط الحياة وممارسة الرياضة لتعزيز الصحة النفسية العامة، والتمهيد لدمج الشخص في المجتمع تدريجيا.
إقرأ المزيد


