طنين أحجار "نبع الفيجة" يروي قصة عطش دمشق
الجزيرة.نت -

عين الفيجة– حجرا وراء حجر ونحن نرمي أبعد غور في نبع الفيجة الشهير الذي يغذي مدينة دمشق بالماء الشروب بمعاضدة صنوه نهر بردى، ولكن لا مجيب -في أغلب الأحيان- إلا طنين الحجارة.

يروي ذلك الطنين قصة مأساة دمشق، منبع الماء والخير العميم ومستقرهما على مدى العصور، وقد عصفت بمنابعها المائية غوائل الدهر، الطبيعية منها وغير الطبيعية، كالكوارث، وربما جرائم الأنظمة الدموية.

رمينا أبعد غور في المنبع فلم نسمع إلا طنين اصطدام الحجارة بالحجارة (الجزيرة)

يتردد صدى ذلك الطنين عطشا في حارات دمشق وغوطيتها الشهيرتين بالماء والخضرة والخير الوافر، ويكشف عن جانب مهم من الجفاف الخطير الذي يضرب سوريا اليوم، والذي لم يسبق له مثيل منذ عام 1956.

اقرأ أيضا list of 2 itemsend of list

رافقنا باعة صهاريج المياه في أحياء دمشق وريفها، وتحدثنا للمواطنين العطشى، وحاورنا المسؤولين والفنيين، وزرنا الرعاة في البوادي للوقوف على معاناتهم الحقيقية في توفير الكلأ والسقيا لمواشيهم، وباعة الخضار والخبز وتأثير أزمة الجفاف على الأسعار، ووقفنا على نهر بردى في أجزاء كثيرة من دمشق وقد تحول إلى مكب للنفايات.

ملتقى تجمّع المياه القادمة من نبع الفيجة ومنابع بردى مدفوعة بعملية الضخ عن طريق مولدات (الجزيرة)

ورصدنا حالة القرية الوادعة الغافية بين سلسلة جبال عالية اتخذها جنود النظام البائد مقانص للسكان، ودحرجوا عليهم الحمم من قننها العالية، ودمروا بيوتها بالبراميل المتفجرة، وقصفوها بالطائرات، وأحالوا أغلب بيوتها إلى ركام، ثم صادروها في النهاية لصالح "المُلك العام".

وعين الفيجة بلدة تقع غرب دمشق في وادي بردى بين السلاسل الجبلية، وتبعد عن دمشق نحو 22 كيلومترا، ومن سفوح جبالها يتدفق نبع الفيجة الذي يزود مدينة دمشق بحاجتها الأساسية من مياه الشرب.

بدت لنا قاعة التخزين الكبيرة -التي تشبه مسرحا رومانيا- قاعا صفصفا، ويعلل ذلك الفني المشرف على المكان بالقول إنه بما أن مستوى المياه لا يصل الآن إلا لمتر مكعب في الثانية بدون الضخ فإنهم يقومون حاليا بعملية الضخ عن طريق مولدات لدفع الماء من باطن النبع للوصول إلى 1.5 متر بالثانية، وهو ما لا يكفي إطلاقا -مع ذلك- لتغذية مدينة دمشق.

إعلان

ويضيف أنه بمساعدة رديف آخر هو نبع بردى الذي "ندفع الماء منه أيضا بمضخات ليتعاضدا معا لوصول المياه إلى 3 أمتار مكعبة بالثانية، ومن هنا تنزل المياه منسابة إلى مدينة دمشق"، وقد وقفنا على نقطة تجميع مياه النبعين قبل انطلاقها إلى مصارفها.

ويشير الفني إلى أن المدينة بحاجة إلى 8 أمتار مكعبة بالثانية، أي ما يعادل 500 متر مكعب باليوم "ونحن حاليا نعطيها 250 إلى 270 ألف متر مكعب".

البلدة تعرضت للقصف بالبراميل ومدفعية الهاون والدواليب المتفجرة القادمة من قنن الجبال (الجزيرة)
زلازل وقصف

وبشأن مدى ارتباط الموضوع بما تعرّض له المكان من قصف، يرى الفني أن الوضع في هذه السنة غير طبيعي، ويرجح أنه ربما يكون مرتبطا بالزلازل والهزات الأرضية، ولا يستبعد مراقبون أن ما تعرّض له المكان من ضرب وقصف يمكن أن يكون أثر على فتحات ومسارب مغذية لحوض النبع.

وبجوار النبع ومن فوق قطعة أرضية لم يعد يعرف حدودها كان يقيم فيها بيتا من 4 طوابق تحول لرماد حاورنا عمدة القرية السابق نجيب ناصر الدين ذا الـ76 ربيعا الذي روى كيف تعرضت قريته للقصف بالبراميل ومدفعية الهاون و"الدواليب المتفجرة".

ويوضح "كانوا يحشون دواليب السيارات الكبيرة بالمتفجرات ويزتوها علينا (يرمونها) من أعلى الجبل"، وكان القناصة من رؤوس الجبال يستهدفون الناس.

عمدة القرية السابق نجيب ناصر الدين يشير إلى موقع بيته السابق ذي الطوابق الأربعة وقد أصبح أثرا بعد عين (الجزيرة)
قتل وتهجير

ويقول إن من لم يمت من سكان القرية -التي كان يقطنها نحو 8 آلاف نسمة- فر إلى أصقاع سوريا، وهو ما حدا بالنظام -وفق العمدة ومعلم القرية السابق- إلى إصدار قانون في عام 2018 بمصادرة أراضي البلدة "واستملاكها من أجل حفنة من التجار والمسؤولين لإقامة متنزهات ومشاريع سياحية خاصة بهم على أراضيها، ولكن خاب أملهم وانتصر الشعب وعادت البلدة لأهلها".

لكن ما يحز في نفس ناصر الدين أن الحكومة السورية الجديدة لم تلغ بعد قرار المصادرة "وما زالت تعمل حتى الآن بالقوانين التي سنها النظام البائد"، وهو ما يحول بين أغلب سكان القرية والعودة إليها.

أحمد حسن درويش: دمشق وريفها يشهدان أسوأ حالة هطول مطري منذ عام 1956 (الجزيرة)
المؤشرات الحكومية

وبشأن تقييم الوضع الحالي للجفاف مقارنة بالسنوات الماضية والمؤشرات الحكومية، يقول مدير عام مؤسسة مياه الشرب في دمشق وريفها أحمد حسن درويش إن "الموسم 2024-2025 شهد أسوأ حالة هطول مطري تعرضت له المنطقة في دمشق وريفها منذ عام 1956 حسب الإحصائيات المتوفرة لدى مؤسسة مياه الشرب، حيث بلغ معدل هطول الأمطار على حوض دمشق 24% من معدل الهطول السنوي، في حين بلغ هطول الأمطار على حوض الفيجة 33% من معدل الهطول السنوي منذ العام 1956".

ويضيف أن الأحواض التي تعتمد عليها الينابيع الأساسية نبع الفيجة أو نبع بردى أو حتى حوض دمشق آو آبار المدينة هي أحواض غير متجددة تتأثر مباشرة بالهطولات المطرية.

ويشير المسؤول الحكومي إلى أن الآبار في مدينة دمشق انخفضت غزارتها من 55 إلى 25 مترا مكعبا في الثانية، بسبب انخفاض كمية الأمطار المتساقطة على الحوض.

نقطة تعبئة للصهاريج في منطقة الهامة بالغوطة الغربية لدمشق (الجزيرة)
تقنين

وأثر الجفاف بشكل واضح على حياة المواطنين -وفق المسؤول الحكومي- فيما يتعلق بمياه الشرب والزراعة معا، ويقول إن آبارا جفت نهائيا، وأخرى انخفضت مناسيب المياه فيها بشكل كبير، وأخرى ازداد تعكرها فأصبحت غير صالحة للشرب.

إعلان

ووفق درويش، فإن حصة الفرد انخفضت من 100 لتر في اليوم إلى 30 أو 40 لترا حسب المنطقة، وهو ما أثر سلبا على المواطنين "مما اضطر مؤسسة المياه لأول مرة إلى وضع جدول تقنين: يوما قطع ويوم ثالث تأتي فيه المياه لمدة ساعات".

نهر بردى تحول في مناطق عديدة من دمشق إلى مكب للنفايات (الجزيرة)

وللوقوف على ما يعانيه المواطنون مباشرة، زرنا نقطة تعبئة للصهاريج في منطقة الهامة بالغوطة الغربية لدمشق، ورافقنا السائق نذير رضوان كركير إلى حي الجادات في قدسيا ومشينا خلفه عن بعد -حذرا- في منحدرات ومنعرجات خطيرة، وقد خُيّل إلي أحيانا أن سيارتنا تسير فيها بشكل عمودي، خصوصا في حالة النزول.

وذكر لي المسؤول عن بيع المياه أنها مخصصة للاستعمال المنزلي وليس للشرب، ولكن الناس يشربونها هنا "لأنها مقطوعة عن العالم".

تعبئة البراميل فوق السطوح العالية تتم بطرق بدائية وتستغرق الكثير من الوقت والجهد (الجزيرة)
تصعيد الماء

وعملية التعبئة لا تبدو سهلة: يصعد السائق فوق العمارة ويرمي حبلا للأسفل يشد به خرطوم المياه، ثم يسحب من أعلى حتى يصل إلى فوهة البرميل، ثم تعطى الإشارة لمساعد السائق في الأسفل ليقوم بعملية دفع المياه عن طريق مضخة آلية.

اكتملت العملية إذن، والمياه بدأت تصعد إلى بيت المهندس إبراهيم الياسين (50 عاما) في الجادة الرابعة في قدسيا، وعليه الآن أن يدفع لتعبئة 5 براميل 100 ألف ليرة سورية (8.5 دولارات)، علما أن متوسط الدخل الشهري في سوريا اليوم من أدنى المستويات في العالم ولا يتجاوز رغم الزيادات "الكبيرة" منذ انتصار الثورة نحو 85 دولارا.

ويلفت الياسين إلى ما يواجهه في ظل هذه الضائقة المالية من صعوبات، حيث يتوجب عليه أيضا شراء الماء الصالح للشرب بمعدل 15 ألف ليرة (1.2 دولار) لكل لتر.

ويشكو من أن مياه الشبكة لا تصل إلى المنطقة إلا بمعدل ساعتين في يومين فقط في كل أسبوع، أما منزله هو "فلا يصله الماء إطلاقا نظرا لارتفاع المكان واهتراء الشبكة".

ولا يختلف وضع الياسين كثيرا عن حالة جاريه حمزة أبو زيد وغياث إسلام اللذين ذكرا أن الماء يأتيهما أحيانا مرتين في الأسبوع لمدة ساعتين.

وثقنا معاناة الناس في جلب المياه وما ينفقونه في سبيل ذلك من مال ووقت (الجزيرة)
أسباب تقنية وسرقة الجيش

على أن ثمة أسبابا أخرى لا علاقة لها بالجفاف بحسب مدير عام مؤسسة مياه الشرب في دمشق وريفها "وإنما هي تقنية مرتبطة بخروج عدد كبير من المضخات والمولدات والمحطات واللوحات والكابلات من الخدمة، بسبب السرقة والتلف والإهمال منذ بداية الثورة".

وأوضح أن أكثر من 1300 مصدر مائي خرجت من الخدمة لهذه الأسباب، وأن القسم الكبير منها تعرّض للدمار بنسبة 100% أحيانا بسبب القصف، وأن جيش النظام السابق وبعض أجهزته الأمنية احترفت سرقة الكابلات.

من محاولات سحب الخرطوم إلى الأعلى لربطه بفوهة البرميل (الجزيرة)

وفي ظل موجة الجفاف الحادة انخفض مستوى إنتاج البلاد من القمح والمحاصيل الأخرى إلى مستويات كبيرة، مما أدى إلى ارتفاع أسعار الخبز التجاري (غير المدعوم) مؤخرا حتى بعد سقوط النظام وارتفاع أسعار الخضار بشكل أثر على حياة المواطنين.

مأساة مضاعفة

لكن مأساة الرعاة -بسبب تفشي الجفاف- مضاعفة بسبب احتياجهم للكلأ في بيئة قاحلة، وللماء لأنفسهم ولدوابهم، ولارتفاع أسعار الأعلاف بشكل لافت.

ويقول محمد زريق العماري -الذي التقيناه في أرض جرداء في مسهرة بمحافظة القنيطرة، والذي يمتلك 900 رأس من الغنم، ومن البقر عشرات- إنه ينفق 250 ألف ليرة (نحو 21 دولارا) لجلب صهريج واحد يسع 5 آلاف لتر لا يسد حاجته إلا ليومين فقط.

محمد زريق العماري التقيناه في أرض جرداء بمحافظة القنيطرة ورى لنا ما يقاسيه في سبيل توفير الماء والكلأ (الجزيرة)

ويقوله ابنه جاسم العماري إنهم يشترون أردأ أنواع التبن (قش القمح) بمعدل 150 دولارا للطن "وهو سعر غال جدا" كما يقول، وإنهم يضطرون إلى بيع المزيد منها لسقايتها وإطعامها، مع أن سعر الرأس لا يزيد على 70-100 دولار.

جاسم العماري: نشتري أردأ أنواع التبن لمواشينا بأغلى الأسعار (الجزيرة)

ويشكو الرجلان من أن المناطق الخصبة في القنيطرة احتلتها إسرائيل، وباتت تمنع الرعاة من الوصول إليها، وإنها صادرت ماشية العديد من الرعاة.

إعلان

وللقنيطرة وما تمارسه إسرائيل فيها من بطش واختطاف وترويع للمواطنين قصة أخرى تالية.



إقرأ المزيد