جامعات غزة بلا تمويل والطلاب يواجهون ارتفاع الرسوم
الجزيرة.نت -

غزة- منذ طفولتها، كان الجميع في العائلة والحي ينادي ميس حمدان بـ"الدكتورة ميس". لم يكن ذلك لقبا مبالغا فيه، بل انعكاس لطفلة لا ترضى إلا بالدرجات الكاملة. ومع مرور السنوات، ورغم تجربة "حرب غزة" القاسية، ظل التفوق رفيقها حتى دخلت امتحانات "الثانوية العامة" بحلم واحد: أن تصبح طبيبة.

وجاء يوم إعلان النتائج ليشكّل تعويضا صغيرا عن عامين طويلين من الرعب وسنوات من الجد والاجتهاد، فقد حصلت ميس على 98.6% في الفرع العلمي، وهو رقم حمل صرخات الفرح ودموع الفخر في عيون والديها.

فرحة فإحباط وخيبة أمل

لكن أيام الفرح القصيرة ما لبثت أن تحولت إلى كآبة ثقيلة. فمع بدء التسجيل في الجامعات، اكتشفت أن الطريق نحو حلمها القديم "كلية الطب" يكاد يكون مغلقا، إذ تبلغ كلفة ساعة دراسة الطب في غزة نحو 140 دولارا، في حين تصل رسوم السنة الدراسية إلى سبعة آلاف دولار، وهذا مبلغ يفوق قدرة أسرتها التي خرجت من الحرب منهكة ومثقلة بالجراح والخسائر.

طلاب ينتظرون دورهم في التسجيل مع صعوبات في ظل ارتفاع الرسوم الدراسية (موقع الجامعة الإسلامية على فيسبوك)

هذا الإحباط ليس حال ميس وحدها، بل شعور يعيشه آلاف الطلبة المتفوقين في غزة الذين خرجوا من تحت القصف بأعلى الدرجات ثم وجدوا مستقبلهم معلقا بارتفاع الرسوم وغياب المنح الحقيقية.

شبح الانسحاب يهدد الطلبة

ولا تقتصر المعاناة على الطلبة الجدد؛ فهناك فئة كاملة قطعت نصف الطريق أو أكثر نحو التخرج، لكنها اليوم مهددة بالتوقف عن الدراسة.

ويمثل هذه الفئة محمد الغازي، الطالب في السنة الخامسة بكلية الطب في الجامعة الإسلامية بغزة إذ يقول، إن رحلته الدراسية تحولت من مسار نحو الحلم إلى سباق يومي مع الضغط المالي.

ويشير الغازي إلى أن كلفة دراسة الطب بلغت مستوى لا تستطيع أي أسرة في غزة تحمله، "7 آلاف دولار في السنة فقط رسوم، غير الكتب والمواصلات والمستلزمات، وهذا يفوق قدرة أي عائلة بغزة بعد الحرب".

إعلان

ويؤكد أن معظم زملائه -من مختلف الكليات- يعيشون المعاناة نفسها، وأن شبح الانسحاب يلاحق الطلاب عاما بعد آخر بسبب غياب المنح الكافية.

ويضيف الغازي أن الانسحاب من كلية الطب لأسباب مالية أصبح ظاهرة ملموسة، "كنا 240 طالبا وطالبة.. الآن بقينا فقط 190، وهذا بسبب مشكلة الرسوم غالبا".

ويشير إلى أن المنح الدراسية نادرة في المجال الطبي، لأن كلفة تدريس طالب واحد في الطب تعادل تدريس خمسة طلاب أو أكثر في كليات أخرى، وهو ما يدفع المؤسسات والمانحين إلى دعم تخصصات غير طبية.

ولا يقف النزف عند الانسحاب، فكثير من الخريجين تُحجز شهاداتهم لعدم دفع الرسوم، مما يحرمهم من فرص العمل. وينهي الغازي حديثه معترفا بخوف يومي يراود الطلاب من التوقف "لأسباب مالية".

الجامعات بالكاد تقف على قدميها

وفي المقابل، تواجه الجامعات في غزة أزمة لا تقل حدّة، فغالبية المؤسسات الجامعية في القطاع غير ربحية وتعتمد بشكل شبه كامل على رسوم الطلاب كمصدر دخل رئيسي، دون أي تمويل ثابت آخر.

وبحسب مصادر جامعية، فإن الرسوم لا تغطي سوى جزء محدود من التكاليف التشغيلية، خصوصا أن العديد من الجامعات كانت تعاني من عجز مالي حتى قبل الحرب.

جامعات غزة تكبدت خسائر فادحة حيث دمّر الاحتلال غالبية مبانيها وتحتاج إلى دعم واسع لاستئناف عملها (الجزيرة)

ومع الحرب الأخيرة تفاقمت الأزمة بشكل غير مسبوق، إذ تعرضت معظم البنى التحتية الجامعية لدمار واسع، وتوقفت المشاريع الممولة خارجيا، ولم يعد هناك أي دعم يساند هذه المؤسسات في التشغيل أو إعادة البناء.

ورغم ذلك، تقول إدارات الجامعات إنها قدمت رزما واسعة من المنح، خصوصا للطلاب الجدد. وفي هذا الصدد، يوضح الدكتور صائب العويني مساعد نائب رئيس الجامعة الإسلامية للشؤون الإدارية، أن الجامعة أعفت الطلبة الجدد من رسوم التسجيل وقدمت منحة كاملة لهم للفصل الأول -عدا كلية الطب- لضمان جدية حجز المقعد.

أما الطلبة القدامى، فقررت الجامعة تقسيط الرسوم وتخفيضها إلى النصف لجميع الطلبة، و25% للحالات الاجتماعية.

ويضيف العويني أن الجامعة تكاد تعمل بالحد الأدنى بعد أن بقي لديها 4 مبانٍ فقط من أصل 11، وهي شبه مدمرة وتفتقر إلى التجهيزات.

ويشير إلى أن رسوم الطلاب هي مصدر التمويل الوحيد حاليا، محذرا من أن "الوضع المالي خطر للغاية وأن استمرار عمل الجامعات غير ممكن دون توفير الحد الأدنى من التكاليف التشغيلية والرواتب".

ويوضح العوني أن ترميم المباني المتبقية يحتاج نحو مليوني دولار، وأن تشغيل مولد كهربائي واحد لمبنى الإدارة يحتاج ألف شيكل يوميا (300 دولار)، ويتضاعف هذا الرقم مع توسع الدراسة الوجاهية.

ويضيف أن دفع رواتب العاملين يمثل تحديا كبيرا، إذ يحصل العاملون على نصف مستحقاتهم فقط. ورغم ذلك، يؤكد العويني إصرار الجامعة على استمرار العملية التعليمية، داعيا "المجتمع الدولي والمؤسسات الشريكة والدول الصديقة" إلى دعم قطاع التعليم في غزة.

جدير بالذكر أن غزة كان بها قبل الحرب التي اندلعت في أكتوبر/تشرين الأول 2023، 18 مؤسسة أكاديمية تخدم نحو 87 ألف طالب.

في زمن الحرب صار التعليم رفاهية

يرى الخبير الاقتصادي أحمد أبو قمر أن أزمة الرسوم الجامعية ليست جديدة، بل كانت قائمة قبل الحرب، إذ كانت الرسوم مرتفعة مقارنة بدخل المواطنين، ولا يوجد نموذج للتعليم الجامعي المجاني.

إعلان

ويقول إن الأزمة تفاقمت اليوم بعد أن تجاوزت معدلات الفقر والبطالة 90%، مما ينذر بـ"عزوف واسع عن الالتحاق بالجامعات"، لأن "التعليم يصبح رفاهية" في ظل أولويات أساسية كالمأوى والماء والطعام والحطب.

قبل الحرب كان في قطاع غزة 18 أكاديمية بين جامعة وكلية تخدم نحو 87 ألف طالب (الجزيرة)

ويشير أبو قمر إلى أن الجامعات نفسها تعاني منذ سنوات من أزمة مالية عميقة تتمثل في ارتفاع التكاليف التشغيلية، وعدم القدرة على دفع رواتب الأكاديميين والعاملين، إضافة إلى تكاليف التطوير، بينما تعتمد بشكل شبه كامل على رسوم الطلاب. ويرى أن هذا يشكل "خللا في منظومة تمويل التعليم الجامعي" ينعكس مباشرة على قدرة الطلبة على الاستمرار.

ويضيف أن المنح المقدمة الآن تقتصر على الفصل الأول فقط، وأن الطالب غالبا لن يستطيع دفع رسوم الفصل الثاني، بل قد لا يمتلك ثمن المواصلات.

ويُذكر أن هذا الخلل امتد ليشل الجامعات نفسها، مستشهدا بجامعة خاصة أعلنت بداية الحرب عجزها عن دفع أي رواتب ورفع يدها عن التزاماتها.

حلول مقترحة

ويقدم أبو قمر مجموعة من الحلول لإنقاذ العملية التعليمية في غزة:

  • إعادة تنظيم الجامعات و"غربلتها" إداريا وماليا، ووضع نظام موحد يوازن بين الاستثمار في التعليم وقدرة الطلاب على الدفع، بحيث تُدار الرسوم بطريقة تحقق دخلا كافيا دون أن تتحول إلى عبء خانق.
  • زيادة المنح الخارجية واستقطاب دعم مالي مخصص لتغطية الرسوم الجامعية، مع ضمان توزيعه بعدالة ودون محاباة.
  • إطلاق حملات تبرعات فردية للطلاب لا للجامعات، لضمان استمرارهم وعدم انقطاعهم عن الدراسة.

ويختتم أبو قمر بأن مستقبل التعليم في غزة مهدد ما لم "يُعالج الخلل البنيوي" وتتوفر مصادر تمويل تدعم الطالب والجامعة معا، مؤكدًا أن ديمومة العملية التعليمية أصبحت مصلحة وطنية تتطلب تدخلا عاجلا.



إقرأ المزيد