الجزيرة.نت - 12/23/2025 1:36:18 PM - GMT (+3 )
في مرحلة تتسم بإعادة تعريف قواعد الاقتصاد الدولي، تعود أسئلة التكامل العربي إلى الواجهة، لا بوصفها حنينا إلى مشاريع مؤجلة، بل كاستجابة واقعية لتحولات عميقة تعيد رسم خرائط الإنتاج وسلاسل القيمة.
فبين تصاعد النزعات الحمائية في الاقتصادات المتقدمة، واضطراب سلاسل الإمداد العابرة للقارات، واتساع الاعتماد على التكتلات الإقليمية الأقرب جغرافيا والأكثر أمانا إستراتيجيا، يجد العالم العربي نفسه أمام فرصة تاريخية نادرة لإعادة تموضعه الصناعي ضمن النظام الاقتصادي العالمي.
لم يكن التكامل الصناعي العربي غائبا عن الخطاب التنموي العربي، لكنه ظل لسنوات طويلة أسير المعادلات السياسية، وتفاوت الهياكل الاقتصادية، وضعف الأطر التنفيذية.
غير أن السياق الراهن يختلف جذريا: هناك دول عربية قطعت شوطا ملموسا في تنويع اقتصاداتها، وأخرى خرجت تدريجيا من أزمات سياسية واقتصادية حادة، وثالثة تبحث عن شراكات جديدة تقلل من الاعتماد على مراكز الإنتاج التقليدية.
في هذا المشهد المتحول، لم يعد العمل الفردي خيارا منخفض التكلفة، بل أصبح التعاون الصناعي المنظم خيارا إستراتيجيا لا غنى عنه.
يواجه التكامل الصناعي العربي تحديات هيكلية عميقة. فالتباين الكبير في السياسات الصناعية والتجارية والاستثمارية، وغياب إطار تشريعي موحد بجدول زمني واضح، يحدان من بناء سلاسل قيمة عابرة للحدود
ضمن هذا السياق، شكل الاجتماع الاستثنائي للجمعية العامة للمنظمة العربية للتنمية الصناعية والتقييس والتعدين (أيدسمو)- الذي عقد في الرياض بتاريخ 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، بمشاركة وزراء الصناعة وممثلي الدول العربية على هامش القمة العالمية للصناعة والمؤتمر العام لمنظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية (اليونيدو)- محطة مفصلية في مسار العمل الصناعي العربي المشترك.
فقد خُصص الاجتماع لتبني إستراتيجية التكامل الصناعي العربي 2025-2035 بصورة استرشادية، تمهيدا لرفعها إلى المجلس الاقتصادي والاجتماعي بجامعة الدول العربية، ومن ثم عرضها على القمة العربية لاعتمادها النهائي.
إعلان
وأكد الوزراء المشاركون أن الإستراتيجية تمثل فرصة عملية لتحويل العمل العربي المشترك من أطره النظرية إلى مشاريع صناعية واستثمارات فعلية، قائمة على بناء صناعات عربية متكاملة عبر سلاسل قيمة مترابطة تستفيد من المزايا النسبية لكل دولة، بما يسهم في تعزيز التجارة البينية ورفع تنافسية المنتجات العربية في الأسواق الإقليمية والدولية.
تعد إستراتيجية التكامل الصناعي العربي 2025-2035 أول محاولة عربية شاملة لرسم خريطة صناعية تكاملية تستند إلى بيانات دقيقة، وبرامج تنفيذية قابلة للقياس، وأطر حوكمة واضحة.
فهي لا تراهن على الخطاب السياسي، بل على معطيات اقتصادية صلبة تكمن في أسواق إقليمية واسعة، وموارد طبيعية كبيرة، وقدرات صناعية متفاوتة لكنها مكملة، وسكان يتجاوز عددهم 450 مليون نسمة، يشكل الشباب نسبتهم الكبرى. والأهم أن التحولات العالمية جعلت من غياب التنسيق الصناعي تكلفة متزايدة، ومن التكامل خيارا دفاعيا وتنمويا في آن واحد.
الأثر المتوقع: من الانعزال إلى الإنتاج المشتركيمثل التكامل الصناعي الركيزة العملية الأهم لمسار التكامل الاقتصادي العربي. فهو ينقل التعاون من مستواه العام- التجاري والمالي والاستثماري- إلى شبكات إنتاج مترابطة تقوم على توزيع الأدوار الصناعية وفق المزايا النسبية والتنافسية لكل دولة.
ومن خلال توجيه الاستثمارات نحو صناعات مشتركة، وتكامل سلاسل القيمة، وتوحيد المواصفات الصناعية، وتسهيل تدفق المواد الخام والمنتجات نصف المصنعة، يسهم التكامل الصناعي في خفض التكاليف الإنتاجية، وزيادة الكفاءة، وتعزيز القدرة التنافسية للمنتجات العربية.
كما يفتح هذا المسار المجال أمام توسع التجارة البينية، وخلق فرص عمل نوعية، وتعزيز الاعتماد المتبادل بين الاقتصادات العربية، وهو شرط أساسي لاستدامة أي مشروع تكامل اقتصادي.
ومع تطور البنية التحتية المشتركة- من موانئ وطرق وسكك حديد ومناطق صناعية- وتقارب الأطر التشريعية والاستثمارية، تتعزز فرص بناء قاعدة صناعية عربية متجانسة تمهد لقيام سوق صناعية عربية موحدة. وفي المقابل، فإن استمرار ضعف التنسيق الصناعي يعني بقاء التجزئة الاقتصادية وتآكل فرص بناء اقتصاد عربي قوي ومترابط.
سياق تاريخي متعرجمنذ تأسيس جامعة الدول العربية عام 1945، بدأ الحلم العربي بالتكامل يتشكل في ظل مرحلة التحرر الوطني وبناء الصناعات الأولى، حيث ساد آنذاك منطق الاكتفاء الوطني، فأنشأت الدول مصانعها الأساسية بمعزل عن غيرها.
ومع تطور الوعي الاقتصادي، برزت محاولات أكثر تنظيما، تمثلت في اتفاقية الوحدة الاقتصادية العربية عام 1957، وتأسيس مجلس الوحدة الاقتصادية العربية عام 1964، وإطلاق السوق العربية المشتركة عام 1965، وسط تفاؤل بإمكانية بناء قاعدة صناعية عربية مشتركة.
ومع الطفرة النفطية في السبعينيات، توفرت موارد مالية مولت مشاريع صناعية كبرى في المعادن والبتروكيماويات، وتأسست منظمات عربية متخصصة أبرزها المنظمة العربية للتنمية الصناعية والتعدين.
غير أن هذا المسار تعرض لانتكاسات حادة في الثمانينيات والتسعينيات بفعل أزمات الديون، وسياسات تحرير التجارة، والخصخصة، والانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، ما أدى إلى تفكك العديد من المشاريع الصناعية المشتركة.
إعلان
حاولت الدول العربية استعادة الزخم مطلع الألفية عبر إستراتيجية التنمية الصناعية العربية (2005-2015) التي أقرت في قمة الجزائر عام 2005، لكنها اصطدمت بالأزمة المالية العالمية 2008، وتباطُؤ تنفيذها.
وفي العقد الأخير، أعادت التحولات الدولية- من صعود الحمائية، وتقليص سلاسل الإمداد، وظهور تحالفات كـ"البريكس"، وإطلاق مبادرات عربية نوعية مثل تحالف الشراكة الصناعية التكاملية ومشاريع الطاقة النظيفة- إحياء فكرة التكامل الصناعي بوصفها ضرورة اقتصادية لا خيارا سياسيا.
تحديات بنيوية قائمةرغم الزخم المتجدد، يواجه التكامل الصناعي العربي تحديات هيكلية عميقة. فالتباين الكبير في السياسات الصناعية والتجارية والاستثمارية، وغياب إطار تشريعي موحد بجدول زمني واضح، يحدان من بناء سلاسل قيمة عابرة للحدود.
كما تؤدي الحواجز الجمركية وغير الجمركية، واختلاف الهياكل الضريبية والأجور، وضعف البنية التحتية للنقل واللوجيستيات، وغياب قواعد بيانات مشتركة، إلى رفع تكاليف الإنتاج وتقليل جدوى المشاريع المشتركة.
ويضاف إلى ذلك محدودية التمويل العربي المشترك وتشتت المؤسسات المالية، ما يدفع العديد من المبادرات للاعتماد على التمويل الخارجي، في بيئة تتأثر بتقلبات أسعار الصرف والتضخم.
وتتعمق التحديات مع تشابه الهياكل الإنتاجية وضعف التنويع، بما يحول العلاقة بين الدول من تكامل إلى تنافس، فضلا عن اختلاف الأنظمة والتشريعات، وتباين دور القطاع الخاص، وتأثير الضغوط الخارجية والاتفاقيات التجارية مع كتل غير عربية.
واقع صناعي بإمكانات كبيرة وفجوات واضحةيمتلك العالم العربي مقومات صناعية معتبرة. فهو يمتد على مساحة 13.2 مليون كيلومتر مربع (9.6% من مساحة العالم)، ويضم أكثر من 450 مليون نسمة (5.7% من سكان العالم)، مع قاعدة شبابية واسعة.
ووفق التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 2023، بلغ الناتج المحلي الإجمالي العربي نحو 3.37 تريليونات دولار، ساهمت الصناعات الاستخراجية بنسبة 25.4% (856.2 مليار دولار)، مقابل 11.7% للصناعات التحويلية (393.7 مليار دولار)، ما يعكس فجوة هيكلية بين استخراج الموارد وتعظيم قيمتها المضافة.
ويعتمد القطاع الصناعي على مزيج من الصناعات الاستخراجية: (النفط، الغاز، الفوسفات، البوتاس، الحديد) والصناعات التحويلية: (نفطية مكررة، والبتروكيماويات، الصناعات الغذائية، المعدنية).
وتستفيد الصناعات العربية من اتفاقيات تجارية متعددة، وبنية تحتية صناعية متنامية تشمل مناطق صناعية وموانئ وشبكات نقل، ما يتيح فرصا حقيقية لرفع الكفاءة، وتعزيز الصادرات والتحول نحو صناعات أكثر استدامة.
توزيع الصناعات التحويلة العربيةوتستفيد الصناعات العربية كذلك من عدد من الاتفاقيات التجارية الإقليمية والدولية التي تتيح دخول المنتجات الصناعية إلى الأسواق الخارجية بقيود جمركية محدودة، الأمر الذي يدعم نمو الصادرات ورفع القدرة التنافسية.
كما يحظى القطاع بدعم بنية تحتية صناعية متنامية تشمل المناطق الصناعية المتخصصة، والموانئ الحديثة، وشبكات النقل والمواصلات، التي تسهم في تسهيل حركة المواد الخام والمنتجات الصناعية والتعدينية داخل الدول العربية وخارجها، بما يعزز كفاءة الإنتاج ويخفض تكاليف التصنيع والتوزيع.
إستراتيجية التكامل الصناعي العربيتمتد إستراتيجية التكامل الصناعي العربي لعشر سنوات (2025-2035)، وتهدف إلى بناء إطار تنفيذي متدرج قائم على الشراكات الصناعية، وتسهيل الاستثمارات المشتركة، وتعزيز دور القطاع الخاص.
وتتمثل رؤيتها في إنشاء صناعات عربية متكاملة بسلاسل قيمة مترابطة تحقق الاستدامة، عبر مسارات تشمل رفع القيمة المضافة، وتطوير المهارات، وتحقيق الاكتفاء النسبي، وزيادة التنافسية والصادرات، وتعميق استخدام التكنولوجيا الحديثة.
وتستهدف الإستراتيجية رفع القيمة المضافة للصناعات التحويلية بمشاريع تساهم بـ35.4 مليار دولار سنويا لتصل القيمة المضافة في مجملها إلى نحو 730 مليار دولار سنويا بحلول 2035، وتوفير أكثر من 400 ألف وظيفة معظمها ذات مهارات عالية، وزيادة نسبة الواردات العربية من المنتجات الصناعية ذات المنشأ العربي من 14.5% في 2022 إلى 24.5% في 2035، مع تركيز خاص على المنتجات الصناعية المرتبطة بالأمن الغذائي والدوائي والمائي والاقتصادي.
البرامج والمشاريعفي الإطار التنفيذي لإستراتيجية التكامل الصناعي العربي، جرى تصميم الإستراتيجية حول ثمانية برامج رئيسية مترابطة، يضم كل منها حزمة من المشاريع التفصيلية التي روعي في إعدادها أن تكون عملية، قابلة للقياس، وقابلة للتنفيذ على المستويين: الوطني، والإقليمي، وذلك على النحو الآتي:
إعلان
برنامج تعزيز العمل العربي المشترك في التنمية الصناعية المشتركة
يشكل هذا البرنامج الأساس الذي تقوم عليه منظومة التكامل الصناعي العربي، إذ يركز على تنسيق الجهود بين الحكومات، والمنظمات العربية المتخصصة، والاتحادات الصناعية، والقطاع الخاص، بما يضمن تكامل السياسات الصناعية، واستمرارية الإنتاج في أوقات الأزمات، وتعزيز السيادة الاقتصادية، إلى جانب إنشاء منصات عربية لتبادل الخبرات ونقل وتوطين التكنولوجيا.
برنامج توفير الاستثمار والتمويل الصناعي
يستهدف البرنامج معالجة فجوات التمويل التي تواجه المشاريع الصناعية العربية المشتركة، من خلال تطوير أدوات تمويل حديثة، وإنشاء صناديق استثمار متخصصة، وتوفير آليات ضمان، مع التركيز على تمويل الصناعات الإستراتيجية والصناعات الناشئة، ولا سيما في مجالات الطاقة المتجددة والصناعات التحويلية والبنية التحتية الصناعية والبحث والتطوير.
برنامج توفير وتأهيل الكفاءات البشرية
يهدف هذا البرنامج إلى سد الفجوات في سوق العمل الصناعي العربي عبر مشاريع تدريب وتأهيل متقدمة، وبناء أطر إقليمية موحدة لتنمية المهارات، وتعزيز الاعتراف المتبادل بالمؤهلات المهنية، بما يضمن توجيه الموارد البشرية بكفاءة نحو القطاعات الصناعية ذات الأولوية والاحتياج الفعلي.
برنامج رفع تنافسية المنتجات العربية
يركز البرنامج على تحسين جودة المنتجات الصناعية العربية، وخفض تكاليف الإنتاج، وتعزيز النفاذ إلى الأسواق، بما يسهم في بناء سوق صناعية عربية أكثر تكاملا، ويرفع القدرة التنافسية للمنتجات العربية في الأسواق الإقليمية والدولية.
برنامج الاستدامة الصناعية
يتضمن هذا البرنامج مشاريع لإدماج مفاهيم التصنيع الأخضر والاقتصاد الدائري في الصناعة العربية، من خلال تحسين كفاءة استخدام الطاقة والمياه، وتدوير النفايات الصناعية، وتقليل الانبعاثات، مع العمل على توحيد السياسات والمواصفات البيئية العربية، ودعم الابتكار في مجالات التصنيع المستدام.
برنامج تعزيز استخدام التقنيات الصناعية الحديثة
يهدف البرنامج إلى تسريع تبني تقنيات الثورة الصناعية الرابعة، مثل الذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء، والطباعة ثلاثية الأبعاد، والأتمتة، عبر مشاريع للتحول الرقمي، وتوطين التكنولوجيا، وتطوير حلول تقنية ترفع الإنتاجية، وتحسن الجودة، وتعزز القدرة التنافسية للصناعة العربية.
برنامج البنية التحتية الصناعية المشتركة
يشمل هذا البرنامج مشاريع إستراتيجية لربط الموانئ، وإنشاء شبكات سكك حديدية عابرة للحدود، وتطوير تجمعات ومناطق صناعية مشتركة، وبناء منظومات لوجيستية حديثة، بما يسهم في تحسين التكامل بين الدول العربية، وخفض تكاليف النقل والتخزين، ورفع كفاءة سلاسل الإمداد والإنتاج.
برنامج تكوين شراكات صناعية عربية إستراتيجية
يركز البرنامج على تحديد وتطوير سلاسل القيمة العربية، وتوزيع الأدوار الصناعية وفق المزايا النسبية لكل دولة، من خلال إنشاء مصانع ومشاريع مشتركة، ودمج أنشطة البحث والتطوير، ونقل الخبرات والمعرفة، بما يسرع إنتاج صناعات عربية ذات قيمة مضافة عالية وقابلة للمنافسة عالميا.
التكامل الصناعي على مستوى الأقاليم: منطق "البداية القريبة" قبل التكامل الشاملفي ظل التفاوت الواضح بين الدول العربية في الموارد الطبيعية، والبنية التحتية، والقدرات الاقتصادية، يبرز التقسيم الإقليمي بوصفه أداة عملية لتقريب فكرة التكامل من أرض الواقع. فنهج "التجمعات الإقليمية المتجانسة" لا يقدم وصفة نظرية بقدر ما يقدم مسارا قابلا للتنفيذ والقياس: فهو تخطيط صناعي أكثر واقعية، يستند إلى استغلال المزايا النسبية لكل دولة، وخفض كلفة النقل واللوجيستيات، وربط حلقات الإنتاج في سلاسل أقصر وأكثر انسيابا، بما يسمح بإطلاق إستراتيجيات مرحلية تتدرج في البناء بدل أن تتعثر في الطموح الشامل.
وانطلاقا من هذا المنطق، جرى تصنيف الدول العربية ضمن خمس مجموعات صناعية إقليمية رئيسية: دول المشرق العربي، ودول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، ودول الجنوب العربي، ودول وادي النيل العربية، ودول اتحاد المغرب العربي.
ويمنح هذا التقسيم صانع القرار "عدسة تنفيذية" توجه عبرها السياسات الصناعية وفق الخصائص الجغرافية والاقتصادية لكل مجموعة، مع تعزيز التعاون في مجالات الصناعات التحويلية، والطاقة، والخدمات اللوجيستية، والصناعات القائمة على الموارد الطبيعية.
والغاية هنا ليست رسم خرائط جديدة بقدر ما هي بناء منظومة تكامل صناعي عربي أكثر تماسكا واستدامة، قادرة على تعظيم القيمة المضافة داخل الإقليم العربي بدل تسربها خارجه.
وتتضح جدوى هذا النهج حين ينظر إليه من زاوية التنفيذ: أن يبدأ التكامل من داخل كل مجموعة إقليمية، حيث تتقارب الجغرافيا وتتشابك المصالح وتتراجع كلفة التنسيق، ثم يتوسع تدريجيا عبر التكامل بين المجموعات.
إعلان
ويقوي هذا المسار ما يشهده الواقع العربي من نماذج تعاون قائمة؛ أبرزها تجربة مجلس التعاون لدول الخليج العربية في العمل الصناعي المشترك، فضلا عن اتفاقيات ومبادرات تعاون ثنائية وثلاثية بين دول متجاورة ضمن اتحاد المغرب العربي، ودول وادي النيل، وبعض دول المشرق العربي. وبمعنى آخر: حين تتقدم "الدوائر القريبة" أولا، يصبح الانتقال إلى الدائرة العربية الأوسع خطوة طبيعية لا قفزة محفوفة بالرهان.
أهمية الحوكمة: الحلقة الأضعف في التنفيذتدرك الإستراتيجية أن جودة البرامج وحدها لا تكفي ما لم تسندها منظومة حوكمة تحسن تحويل الأفكار إلى عمل منظم. لذلك يقوم إطار التنفيذ على تكليف جهة رئيسية لقيادة كل مشروع، مدعومة بجهات مساندة ذات صلة، مع تشكيل فرق عمل متخصصة تعمل وفق أفضل ممارسات إدارة المشاريع الحديثة.
ويشمل ذلك وضع أهداف واضحة، وخطط تنفيذ مفصلة، وإدارة المخاطر، والمتابعة الدورية للتقدم، بما يضمن تنسيقا فعالا بين الأطراف، والتزاما بالجداول الزمنية والميزانيات، وتحقيقا للأهداف بكفاءة ووضوح مسؤوليات.
وتتكامل منظومة الحوكمة عبر مسارين مكملين: الرقابة والتقييم. فالرقابة تمارَس بصورة دورية ومنهجية لقياس الأداء وتحليل المؤشرات ورصد التحديات واقتراح الإجراءات التصحيحية للمشاريع، بما يعزز الشفافية والمساءلة ويدعم القرار، عبر تقارير ربع سنوية ترفع إلى المجلس التنفيذي للمنظمة العربية للتنمية الصناعية والتقييس والتعدين.
أما التقييم فينفذ بشكل مستقل ونصف سنوي على مستوى المجلس الاقتصادي والاجتماعي العربي التابع لجامعة الدول العربية، ويركز على قياس المخرجات والأثر الفعلي للإستراتيجية، وتحليل أسباب النجاح أو القصور، وإعادة ضبط المسار عند الحاجة لضمان استدامة الأثر.
وفي سياق التنفيذ، تلفت الإستراتيجية إلى واقع لا يجوز تجاهله: أن بعض الدول العربية تعيش ظروفا استثنائية، مثل عدم الاستقرار السياسي أو النزاعات أو الاحتلال، كما هو الحال بالنسبة لفلسطين.
هذه الأوضاع تفرض قيودا حقيقية على القدرة التنفيذية بالوتيرة ذاتها التي تمضي بها الدول المستقرة، لكنها في الوقت نفسه تجعل هذه الدول من أكثر الأطراف حاجة إلى ثمار التكامل الصناعي لتعزيز الصمود ودعم التنمية. ومن ثم تتجه الإستراتيجية إلى اعتماد معاملة مرنة لهذه الحالات في مراحل التنفيذ والرقابة والتقييم، تراعي الواقع دون أن تقصيها عن مسار التعاون العربي، مع التفكير في أدوات مبتكرة مثل المناطق اللوجيستية المشتركة، وبرامج دعم الممكنات الصناعية التي تنفذ عبر أطر إقليمية، بما يخفف الأعباء التنظيمية والمالية في المدى القصير، ويحافظ على إدماجها في المسار العام.
الخاتمة: ما بين حدود الممكن.. وضرورة التقدملن تغير إستراتيجية واحدة مسار الصناعة العربية بين ليلة وضحاها، ولن تختزل التحديات البنيوية المتراكمة في حلول سريعة خلال عقد واحد. غير أن ما يميز هذه الإستراتيجية عن كثير من المحاولات السابقة هو أنها تقدم إطارا عربيا واضحا ومتفقا عليه للتكامل الصناعي، يتجاوز منطق الشعارات العامة إلى منطق البرامج والمشاريع القابلة للقياس.
وفي هذا الإطار تلوح ثلاث نقلات نوعية محتملة: الانتقال من خطاب التكامل إلى هندسة عملية بمشاريع محددة وأهداف رقمية واضحة، ثم إعادة توظيف المصالح الوطنية من كونها سببا للتعارض إلى محرك للتكامل عبر سلاسل قيمة مشتركة تحقق منفعة متبادلة، وأخيرا ترسيخ ثقافة جديدة للعمل الصناعي العربي المشترك تقوم على البيانات والمساءلة والتدرج في التنفيذ بدل الاكتفاء بالخطابات الإنشائية.
وإذا بقيت التساؤلات حول درجة التزام الدول العربية بالتنفيذ تساؤلات مشروعة، فإن المصالح الوطنية والاقتصادية الكامنة في هذه الإستراتيجية تبقى في نهاية المطاف العامل الأقدر على تحفيز التعاون وتحويل النوايا إلى أفعال. فحين تتقاطع الجدوى الاقتصادية مع الأهداف التنموية، يصبح تحويل النصوص إلى مشاريع، والمشاريع إلى نتائج ملموسة، خيارا عقلانيا تفرضه المصلحة، لا مجرد التزام سياسي.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
إقرأ المزيد


