اللوجستيات تتصدر محركات النمو في الاقتصاد السعودي
جريدة الرياض -

نادراً ما يلتفت أحد إلى الرحلة الكاملة للسلعة قبل أن تصل إلى يد المستهلك، حكاية تبدأ في مستودع، تمرّ بمركز لوجستي، وتعبر طريقًا بريًا أو ميناءً أو منفذًا جويًا، لتنتهي عند باب المنزل أو رف المتجر، هذه القصة الصامتة التي لا تظهر في واجهات الاقتصاد، تكشف عنها بوضوح إحصاءات التخزين والخدمات اللوجستية لعام 2024، وتضعها في سياقها الأوسع ضمن الاستراتيجية الوطنية للنقل والخدمات اللوجستية، باعتبارها أحد أهم محركات التحول الاقتصادي في المملكة العربية السعودية.

في قلب رؤية السعودية 2030، جاءت الاستراتيجية الوطنية للنقل والخدمات اللوجستية لتعيد تعريف هذا القطاع، لا بوصفه نشاطًا مساندًا، بل شريانًا اقتصاديًا رئيسا، الرؤية ركزت على تحويل المملكة إلى مركز لوجستي عالمي يربط القارات الثلاث، ويرفع كفاءة سلاسل الإمداد، ويعزز تنافسية الاقتصاد الوطني، لكن الأرقام لا الشعارات هي ما تكشف حجم التحول الحقيقي، خلال أربع سنوات فقط اتسعت الخريطة اللوجستية للمملكة بشكل لافت من 6 مراكز إلى 23 مركزًا لوجستيًا مفعّلًا تنتشر على مساحة تتجاوز 34.6 مليون متر مربع، في مشهد يعكس استثمارًا كثيفًا في بنية تحتية لم تعد تقتصر على التخزين، بل تحولت إلى منظومات متكاملة لإدارة التدفقات والحركة. ولم يكن هذا التوسع عشوائيًا، إذ تصدرت منطقة مكة المكرمة من حيث المساحات، في انعكاس طبيعي لدورها الذي يجمع بين الكثافة السكانية، والمكانة الدينية، والنشاط التجاري، والتدفقات الموسمية والدائمة للسلع.

المدن الصناعية

خلف هذه الأرقام، يظهر تحول نوعي في طريقة التفكير باللوجستيات، المدن الصناعية جاءت في صدارة أنواع المراكز اللوجستية، مما يعكس اندماج التصنيع مع التخزين والتوزيع ضمن سلسلة واحدة متصلة، تلتها مراكز التوزيع الداخلية التي تخدم الأسواق المحلية المتنامية، ثم المراكز المرتبطة بالموانئ، التي تؤدي دور الجسر بين الداخل السعودي والأسواق العالمية، هذا التوزيع يؤكد أن المملكة لا تراكم المساحات عبثًا، بل تبني منظومة متكاملة تتوزع فيها الأدوار بوعي اقتصادي.

وعلى مستوى التخزين، تكشف الإحصاءات عن شبكة واسعة تضم أكثر من 12 ألف مستودع تجاري مرخص، بمساحة تقارب 22 مليون متر مربع، وتتصدر منطقة الرياض هذا المشهد، ليس فقط بوصفها عاصمة إدارية، بل مركزًا لإدارة سلاسل الإمداد واتخاذ القرار، أكثر من نصف هذه المساحات مخصصة للمستودعات التجارية، في دلالة واضحة على توسع قطاعي الجملة والتجزئة، وزيادة الاعتماد على التخزين المنظم لضمان استمرارية تدفق السلع، في المقابل تلعب المستودعات الإنشائية دورًا مكمّلًا يخدم قطاع البناء والمشروعات الكبرى، التي تشكل بدورها أحد محركات الطلب اللوجستي.

وحين تنتقل القصة من التخزين إلى الحركة، يفرض النقل البحري نفسه بقوة، مئات الملايين من الأطنان عبرت الموانئ السعودية خلال عام واحد، مؤكدة أن البحر لا يزال الطريق الأوسع للتجارة الدولية، هذا الحجم يعكس الموقع الاستراتيجي للمملكة وقدرتها على أن تكون نقطة وصل بين الشرق والغرب، إلى جانب ذلك، يواصل النقل البري أداء دور محوري في ربط المناطق الداخلية بالمنافذ، وفي حركة التجارة الإقليمية، بينما تحافظ السكك الحديدية والنقل الجوي على حضور نوعي يخدم الشحنات ذات الحساسية الزمنية أو الطبيعة الخاصة.

في تفاصيل الحياة اليومية، يظهر وجه آخر لهذا التحول. مئات الملايين من طلبات التوصيل نُفذت خلال عام واحد، ما يعكس كيف أصبحت الخدمات اللوجستية جزءًا من الروتين اليومي للأفراد، ورغم تسجيل تراجع نسبي في عدد الطلبات مقارنة بالعام السابق، إلا أن هذا التراجع يعكس نضج السوق أكثر مما يشير إلى انكماش، بعد سنوات من النمو المتسارع، بدأ القطاع يبحث عن التوازن والاستدامة، ويتجلى ذلك في تحسن متوسط زمن التوصيل، الذي يتراوح بين 35 و45 دقيقة، وارتفاع عدد السائقين السعوديين النشطين، بما يحمله من أثر اجتماعي واقتصادي مباشر.

وعند نقاط العبور، حيث تتقاطع التجارة مع التنظيم، يبرز نشاط التخليص الجمركي كعنصر حاسم في كفاءة السلاسل اللوجستية، الزيادة في عدد التراخيص السارية، خصوصًا في المنافذ البحرية، تعكس بيئة تنظيمية أكثر جاهزية، وقدرة أعلى على مواكبة أحجام الشحن المتزايدة، فكل تسهيل في إجراءات التخليص يعني تقليص زمن الانتظار، وخفض التكاليف، وتسريع دورة رأس المال، وهي عناصر تصنع فارقًا حقيقيًا في تنافسية الاقتصاد.

ولا تكتمل الصورة دون التوقف عند قطاع الطرود والخدمات البريدية، الذي سجل نموًا واضحًا في عدد الشحنات، مع تحسن ملموس في الالتزام بمواعيد التوصيل. هذا القطاع لم يعد خدمة تقليدية، بل أصبح ركيزة أساسية للتجارة الإلكترونية، وواجهة تعكس مستوى الجاهزية اللوجستية، وقدرة البنية التحتية على تلبية توقعات المستهلك المتزايدة.

في مجملها، ترسم إحصاءات التخزين والخدمات اللوجستية لعام 2024، حين تُقرأ في ضوء الاستراتيجية الوطنية للنقل والخدمات اللوجستية، صورة لاقتصاد يتحرك بسلاسة من الخلف. اقتصاد تُدار فيه المستودعات بذكاء، وتتخصص فيه المراكز، وتعبر فيه الشحنات البر والبحر والجو بكفاءة أعلى، إنها قصة تقول بوضوح إن اللوجستيات في المملكة لم تعد نشاطًا مساندًا، بل أصبحت لغة يومية للاقتصاد، تترجم الرؤية إلى حركة، والطموح إلى واقع ملموس.



إقرأ المزيد