الأشياء و تشكلاتها فى الرواية العربية
وكالة أخبار المرأة -
الشخصية ( الرؤية الخارجية ). انظر : تودوروف : الأدب والدلالة ، ترجمة : د. محمد نديم خشفة ، مركز الإنماء الحضارى ، حلب ، ط1 1996، ص 77وما بعدها . - ميشال بوتور : بحوث فى الرواية الجديدة ، ترجمة : فريد أنطونيوس ، منشورات عويدات ، بيروت ، ط3، 1986، ص65. - نعمات البحيرى : أشجار قليلة عند المنحنى ، دار الهلال 2000 ص41. - السابق نفسه . - السابق ص42-43. - السابق ص 41-42. - السابق ص102. -السابق ص101. - السابق نفسه . - بسؤاله عن الطبيعة المرجعية لهذه المدينة ، أصر المؤلف على عدم الإفصاح عنها ، مما يفهم منه علاقتها بمدينة ذات واقع متعين ، وتلعب الأشياء ذات الطبيعة المغايرة دورا كبيرا فى رسم صورة مغايرة للمدينة وتحويلها إلى مكان ممعن فى الخيال . - يتخذ السارد – وكذا الشخصية المروى عنها – واحدا من أوضاع ثلاثة تعبر عن رؤيتها المكان وعلاقتها به : • زائر : يدخل المكان للمرة الأولى ، ومن ثم يختبر الأشياء لإدراكها . • عائد : يمتلك خبرة سابقة بالمكان قبل غيابه عنه حينا . • مقيم : تتعدد خبراته بالمكان والأشياء . انظر : د. مصطفى الضبع : رواية الفلاح/ فلاح الرواية ، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1998 ص250وما بعدها . - جمال الغيطانى : شطح المدينة ، دار الهلال ، 1990، ص 8. - انظر : ميشال بوتور : بحوث فى الرواية الجديدة ، مرجع سابق ص63. - منتصر القفاش : تصريح بالغياب ص37 . - عبد الرحمن الشرقاوي : الأرض ، مكتبة غريب ، ص67. - السابق ص24 . - السابق ص47. - السابق ص60 . - يحيى خلف : تفاح المجانين ص37. - السابق ص49 . - السابق ص49. - السابق ص50. - ص81. - ص43. - عبد الحكيم قاسم : أيام الإنسان السبعة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1988 ص7 . - السابق ص19. - السابق ص 20 . - السابق نفسه . - السابق نفسه . - إسماعيل فهد إسماعيل : المستنقعات الضوئية ، دار العودة – بيروت ط1، 1971 ص35 . - السابق ص23 . - السابق ص39 . - السابق ص32. - السابق ص47 . - السابق ص58. - السابق ص75 . - السابق ص9. - السابق ص10. - السابق ص12. - السابق ص15. - فصلنا القول فى هذا الجانب عبر دراستين سابقتين : - رواية الفلاح : وطرحنا فيها المقارنة بين القرية الشمالية (الدلتا) والقرية الجنوبية (الصعيد) فيما يضمان من أشياء ودلالتها ودورها فى النص الروائى ص158 وما بعدها . - استراتيجية المكان : وقاربنا فيها الأمكنة الروائية وحركة الأشياء فى القرية والمدينة والمقهى والجسد الإنسانى ص182 وما بعدها . - يبدو ذلك واضحا فى الأعمال التاريخية التى تعود إلى فترات التاريخ القديمة وهناك أعمال كثيرة قاربت هذه المنطقة منها : - ليالى ألف ليلة : نجيب محفوظ . - الزينى بركات : جمال الغيطانى . - نوار اللوز - تغريبة صالح بن عامر الزوفرى . واسينى الأعرج . كما يبدو واضحا فى المقابل فى الأعمال التى تتجه للمستقبل والمتعارف عليها بروايات الخيال العلمى ومنها : - السيد من حقل السبانخ: صبرى موسى . - ابن النجوم : نهاد شريف . إذ تبدو الروايات طارحة أشياءها التى تبدو منبتة الصلة بأشياء الحاضر. - محمد الراوى : تل القلزم ، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، القاهرة ، 1998، ص 11. - نعنى رواية المستقبل أو رواية الخيال العلمى التى تخلق أشياءها الخاصة بها ، أشياء ذات طبيعة مميزة تتناسب مع طبيعتها ، ويتشابه هذا النوع مع حكايات ألف ليلة وليلة ، والأخبار العجيبة قديماً فى اعتمادهما على خلق أشيائهما الخاصة لأغراض فنية ( سنتوقف عند ذلك لا حقا ) . - صلاح الدين يوجاه : الشئ بين الوظيفة والرمز المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ، بيروت ط 1 – 1993 صـ 15 . - ألان روب جرييه : نحو رواية جديدة ، ترجمة : مصطفى إبراهيم مصطفى ، دار المعارف،القاهرة ، د. ت صـ 69 . - نجيب محفوظ : قصر الشوق ، مكتبة مصر صـ 123 . - د. سيزا أحمد قاسم : بناء الرواية ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة 1984 صـ 100 - تمثل قوانين النص التخييلية منطقا خاصا به يختلف كثيراً عن منطق الواقع ، وإشكالية تلقى نصوصنا الأدبية عامة والروائية خاصة أننا ندخل النصوص بمنطقنا نحن الذى قد لا يتوافق مع منطق النص الذى يمثل عالما أقيم بقوة الخيال ( وإن ارتبط أو تشابه مع الواقع ) ولا يكون دخوله صحيحا إلا باستخدام قدر مكافئ من القوة نفسها ،قوة الخيال ؛ و القارئ العربى فى دخوله النص الروائى بمنطقة وقوانينه ( هو / يشبه من يعيش فى بلد غير بلده ويرغب أن يعيش بقانونه هو لا بقانون البلد الذى يعيش فيه لذلك تواجه الرواية العربية الكثير من مشكلات التلقى بين أبناء العربية فقد تطورت الرواية العربية وتبوأت مكانتها فى إطار الرواية العالمية وأصبحت قادرة على المنافسة وبات لها كتابها القادرون على ضخ دماء جديدة فى عروقها ، ورغم ذلك تبقى أحد أهم مشكلات الرواية العربية فى المتلقى وفيما يدور حول الرواية من مشكلات مما يعيق عملية التلقى الجاد والمثمر . - المجاز هنا بمعناه البسيط فى البلاغة استخدام اللفظ فى غير ما وضع له العلاقة ( المشابهة – غير المشابهة ) مع وجود قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلى . والقرينة هنا وجود الشئ فى النص الروائى ، فى نص يعتمد أساسا على المجاز ويقترب من الكناية بالصورة التى تجعل منه نصا كنائيا فى المقام الأول وهو الطابع الغالب على السرد عموما . - انظر : د. حميد لحمدانى : أسلو بته الرواية : مدخل نظرى منشورات دراسات : سال ، الدار البيضاء ط1 1989 صـ 55 وما بعدها . - أ . ف . تشيتشرين : الأفكار والأسلوب ، ترجمة : د . حياة شرارة دار الشئون الثقافية ، بغداد ، د . ت صـ 54 . - مصطفى ذكرى : هراء متاهة قوطية ، شرقيات – القاهرة ط 1 1997 صـ 9 – 10 . - جمال الغيطانى : دنا فتدلى ، دفاتر التدوين ( الدفتر الثانى ) ، مركز الحضارة العربية ، القاهرة 1998 صـ 192 . - حسن بحرواى : بنية الشكل الروائى ، المركز الثقافى العربى بيروت ، ط 1 1990 صـ 32. - د . سيزا قاسم : بناء الرواية ، مرجع سابق صــ 79 – 80 . - صلاح الدين بوجاه : النخاس ، دار الجنوب للنشر – تونس صـ 21 . - خالد إسماعيل : عقد الحزون ، دار الأحمدى للنشر القاهرة 1999 صـ 73 . - السابق صــ 78 . - السابق صــ 78 . - النخاس صــ 77 . - صلاح والى : نقيق الضفادع ، الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة 1988 صــ 24 . - السابق نفسه . - السابق صــ 38 . - السابق صــ 54 . - العلاقة المحلية : إطلاق المحل مع إرادة الحال فيه . - انظر دراستنا : القطار فى الأدب : الحبل السرى بين الشمال والجنوب ، أخبار الأدب . العدد 271 ، 20 / 9 / 1998 . والنصوص التى نعنيها الرواية بشكل عام ، والنصوص التى ينتمى أصحابها إلى جنوب مصر ( الصعيد ) إذ لا يوجد كاتب ينتمى لهذه المنطقة إلا وظهر القطار فى أعماله بصورة كبيرة يستوى فى ذلك الشعراء والقصاصون والروائيون ، وقد أفرد الروائى جمال الغيطانى كتابه " دنا فتدلى " دفاتر التدوين الدفتر الثانى لتدوين رحلاته بالقطار فى مصر ، وخارجها ويمثل الكتاب نصا تقوم الفاعلية الأولى فيه للقطار يقول : القطارات الأنثوية ، أنوثة القطارات الترابط ، التواصل ، التوابع القيام ، الوصول ، العبور للمركبات ، للبشر ، أى صلة كامنة ، زاخرة أيهما يتحقق بالآخر " صـ 8 . ويقصر السفر والرحيل على القطار ذى الطقوس الخاصة ذات الطعم الخاص لدى الإنسان : سفرى بالقطارات ، الرحيل عندى ما يتم بالقطار ، لا بالعربات ، ولا الطائرات ، ولا السفن ، الكبير منها والصغير ، مرأى العربات المحاذية للأرصفة ، من محطة إلى أخرى ، قادم ، صاعد ، مفارق ، هابط معا لا أبلغ المعنى الذى لم أُوفق فى التعبير عنه حتى الآن إلا بتمام قصدى ، القطار . " صـ9 . - يحيى حقى : قنديل أم هاشم ، دار المعرف ، القاهرة ، ط5 ، 1984 صـ45 . - السابق صـ46 . - جمال الغيطانى : هاتف المغيب ، دار الهلال ، القاهرة ، 1992 صـ 33 ، 34 - السابق صـ68 . - د. شاكر عبد الحميد : الحلم والرمز والأسطورة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1998 صـ 122 – 123 . - خيرى عبد الجواد : مسالك الأحبة ، مركز الحضارة العربية ، القاهرة ط 1، 1998صــ 26 - السابق نفسه . - د. صلاح الدين بوجاه . الشئ بين الوظيفة والرمز ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ، بيروت ط 1 1993 صــ59 . - الحكايتان من ألف ليلة وليلة . - ألف ليلة وليلة : حكاية التاجر الجنى ، الليلة الأولى . - رولات بارت : النقد البنيوى للحكاية ، ترجمة : أنطوان أبو زيد منشورات عويدات ، بيروت ط 1 1988 صـ 106 – 107 . - تقوم فكرة الاستدعاء فى التشبيه عبر المشبه به بوصفه قطبا مرتبطا بالمشبه والاثنان معا يكونان علاقة يسعى المتلقى لإدراك القطب الأول ( المشبه) عبر المشبه به الذى يستدعيه التشبيه لنطاق إدراك المتلقى ،ويعد الاستدعاء ركنا أساسيا فى التشبيه يتم عبر آليتين : - استدعاء كلى : يتم بإقامة التشبيه نفسه ، واستدعاء خمسة عناصر : " الطرفين ليحصل والوجه ليجمع والغرض ليصح والأحوال ليحسن والأداة لتوصل " انظر : شرف الدين الطيبى : التبيان فى علم المعانى والبديع ، تحقيق : د. هانى عطية ، مكتبة النهضة العربية ، ط1 1987، ص 180. - استدعاء جزئى : يعرف من النظر للمشبه به ، حيث يواجه المتلقى بنوعين منه : 1- قريب يقع عند أطراف مداركه ، كأن يكون المشبه به مما يقع فى المحيط القريب للمتلقى ( الشمس ، والنجوم والجبل والبحر ، وغيرها . 2- بعيد يجد المتلقى نفسه مدفوعا للبحث عن معرفته لوقوعه خارج نطاق المحيط القريب ، كأن يكون المشبه به نموذجا بشريا تاريخيا ، بعيد زمانا أو مكانا . - سحر توفيق ، طعم الزيتون ، المجلس الأعلى للثقافة . القاهرة 2000 صـ 9 - إدريس على : انفجار جمجمة ، المجلس الأعلى للثقافة ، القاهرة 1997 صــ140 - حكاية الملك يونان والحكيم رويان ، الليلة الرابعة من ليالى ألف ليلة وليلة . - عبد الفتاح كيليطو : العين والإبرة، ترجمة : مصطفى النحال ،دار شرقيات، القاهرة ط 1 1995 ص 46، وانظر: إشارته إلى الكتاب الغريق وتحليله الممتع للحكايتين : (الكتاب القاتل والكتاب الغريق ) ص 41 وما بعدها . - صلاح الدين بوجاه : التاج والخنجر والجسد : دار سعاد الصباح ، القاهرة ، ط1 1992 ص 18. - سيد الوكيل : فوق الحياة قليلا ، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، القاهرة ، 1997. - منتصر القفاش : أن ترى الآن ، دار شرقيات للنشر والتوزيع ، القاهرة ، 2002. - أحمد دهمان : الحزام ، دار الساقى ، بيروت ، 2001. - أن ترى الآن ، ص 115. - السابق ص 117. - فوق الحياة قليلا ص 94. - الحزام ، ص 21. - السابق نفسه ." border="0" data-original-height="300" data-original- height="304" loading="lazy" src="https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEgeBpT04VYgUAGJ4FwKAqpWww-MhfCEMC2KSB3Qq-HicSD-iuDnC5c7Ql8XRaDcWmIQqY_XQfZ49dR0Sj4qeoKUqQWUBxU2vGR91F6oyYqCS_QrfpUENCpQpmGxjNOY7dJ6DNMTGF83Cj348IdBaYcCh9gWRr90nR7E_oVtD4Lz94uSBapnapArHJbLCLm-/w640-h304-rw/%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%88%D8%A7%D9%8A%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B4%D8%A3%D8%A9_%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AD%D9%88%D9%84.webp" title="د. مصطفى الضبع مقـــــــدمة فى لغتنا العربية لا نكاد نجد لفظا يمكنه – تعبيريا- أن يحل محل الألفاظ معظمها، وأن يقوم بدورها قدر ما يفعله لفظ الشيء مفردا أو جمعا ، وربما كان لفظ ( الأشياء) أكثر قدرة على التعبير عن الأشياء المتآلفة أو غير المتآلفة ، ومن السهل أن نستخدم المفردتين للتعبير عن عناصر معروفة للمتلقى أو غير واضحة تماما أو يكتنفها جانب من الغموض ، عندها نقول هى (أشياء). وهذه الأشياء لا تكتفى بوجودها الواقعى الذى قد لا يعيرها البعض فيه أدنى فاعلية فتأخذ فى تحقيق هذه الفاعلية عبر النص الإبداعى حيث كل الأشياء لابد أن تكون دالة وفاعلة. والسؤال المركب الذى يطرح نفسه : مامدى هذه الفاعلية ؟ وإلى أى حد يكون للأشياء هذه الأهمية فى سياق النص ؟ . وهل يمكن دخول النص عبر مفاتيحه الشيئية ؟. مع محاولة هذه الدراسة أن تجيب عن هذه الأسئلة ، فإنها تعترف – بداية- بأن النص الروائى العربى قد شكل جغرافيته من أشياء بنى عليها معناه ودلالاته للدرجة التى لا تستطيع هذه الدراسة أن تدعى لنفسها القدرة على الإحاطة بها أو التوصل لكل تقنياتها . إنها دراسة حاولت أن تنصت لصوت الأشياء فى الرواية العربية ، مستنطقة إياها ، ناظرة إليها بوصفها تقنية وليست موضوعا نصيا . وقد جاءت الدراسة فى : مقدمة : تعرض لموضوعها . مهاد نظرى : يؤسس لفكرتها. المبحث الأول : الدال والمدلول :ويتوقف فى المنطقة المتنازع عليها وفيها ، منطقة التخييل وعلاقة النصين: الشعرى والنثرى ، وتقنيات ظهور الأشياء فى النص السردى ، ومنطق الروائى ، والقارئ الأول ، وكيف يحكمان ظهور الأشياء فى النص السردى. المبحث الثانى : الأشياء ومستويات الرؤية : ويجيب عن السؤال: من يرى؟ وكيف تؤثر زاوية الرؤية فى تلقى أشياء النص ؟. المبحث الثالث : المستويات الوظيفية للأشياء :ويقارب المستويات الوظيفية الثلاثة التى تتدرج خلالها أدوار الأشياء ووظائفها: الحقيقى . المجازى . السحرى . المبحث الرابع : أشياء النص ، نص الأشياء ، ويقارب الأشياء فى النص السردى القديم مقارنة بالأشياء فى النص الحديث ، وكيف تحول الأمر من حالة الأشياء الخاصة بالنص إلى النص الخاص بالأشياء . مهاد نظرى منذ خطواته الأولى فى الحياة ، الإنسان فى علاقة دائمة بالأشياء ، للحد الذى يمكن التعبير عنه بالقول :إن الحياة الإنسانية ما هى إلا حركة الإنسان المرتبطة بهذه الأشياء ، فى تعبيرها عن حالاته المختلفة ، والمغايرة للحظات حياته ، وفى قدرتها على أن تكون عناصر تملأ فراغ يومه، وتشكل جغرافية حياته ، يحملها وتحمله ، يشكل بها عالميه: الخاص والعام ،يتبادلها مع الآخرين فتكون علامة رابطة بينه وبينهم ، تعبر عن ثقافته وبيئته ، وبالجملة تبدأ حياته و تنتهى دون أن تنتهى هذه العلاقة ؛ فموته ليس معناه موتها ، إنه يتركها دليلا على وجوده الذى كان ، علامة دالة عليه تحمل ذكراه لمن فارقهم . إن حياة الإنسان حضور حقيقى وممتد للأشياء فى علاقتها به ، خالقة نظاما جديدا للمكان المشترك بينهما ، و عندها " يصبح المكان شيئا أكثر من مجرد فراغ يهيم فيه الإنسان على وجهه وتتناثر فيه هنا وهناك أشياء تهدده ،وأخرى تشبع شهوته . أجل فإن المكان ليصبح بمثابة مشهد كلى شامل ، أو منظر مسيج محدد المعالم تنتظم فى داخله جمهرة من مظاهر النشاط الفاعل والقابل التى يستغرق فيها الإنسان " ( ). يتعامل الإنسان مع الأشياء( لغة ) بوصفها مسلمات تعورف عليها ، و لا تحتاج قوتها الدلالية إلى تحديد أو توضيح ، و لسان العرب يكتفى بالقول: "و الشىء ، معلوم قال سيبويه حين أراد أن يجعل المذكر أصلا للمؤنث ألا ترى أن الشيء مذكر وهو يقع على كل ما أخبر عنه" ( ) . ويقترب الجرجانى من صيغة أكثر دلالة للفظ ، يملأ ما تركه لسان العرب من فراغ : "الشيء في اللغة هو ما يصح أن يعلم ويخبر عنه عند سيبويه وقيل الشيء عبارة عن الوجود وهو اسم لجميع المكونات عرضا كان أو جوهرا ويصح أن يعلم ويخبر عنه وفي الاصطلاح هو الموجود الثابت المتحقق في الخارج " ( ) . و يكتسب اللفظ عموميته من زاويتين : الأولى : استعماله للتعبير عن المادى والمعنوى: والقرآن الكريم حين يستخدمه فى صيغة الجمع يؤكد هذا الاستعمال، فى المواضع الأربعة التى ورد فيها ، قال تعالى : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ " ( ) . وقال " وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ "( ). وقال" وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ " ( ). "وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ"( ). وقد جاءت أطروحات المفسرين كاشفة، عن هذا المعنى ، قال ابن كثير : وقوله "ولا تبخسوا الناس أشياءهم" أي لا تنقصوهم أموالهم. و ورد فى الجلالين : (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) لا تنقصوهم من حقهم شيئا . ولم يبتعد استخدام الحديث الشريف للفظ عن هذا الإطار نفسه : "حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا كَهْمَسٌ عَنْ سَيَّارٍ رَجُلٍ مِنْ فَزَارَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ بُهَيْسَةَ عَنْ أَبِيهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَهُ فَدَخَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَمِيصِهِ وَقَدْ قَالَ عُثْمَانُ فَالْتَزَمَهُ فَقَالَ مَا الشَّيْءُ الَّذِي لا يَحِلُّ مَنْعُهُ فَقَالَ الْمِلْحُ وَالْمَاءُ قَالَ مَا الشَّيْءُ الَّذِي لا يَحِلُّ مَنْعُهُ قَالَ إِنْ تَفْعَلِ الْخَيْرَ خَيْرٌ لَكَ قَالَ مَا الشَّيْءُ الَّذِي لا يَحِلُّ مَنْعُهُ قَالَ إِنْ تَفْعَلِ الْخَيْرَ خَيْرٌ لَكَ وَانْتَهَى إِلَى الْمِلْحِ وَالْمَاءِ قِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ تَقُولُ بِهِ فَأَوْمَأَ بِرَأْسِهِ "( ) الثانية : أن عموميته ليست أمرا يتوقف عند الاستعمال اللغوى ، المتداول ، وإنما يتعداه للاستعمال المعرفى العام ؛ فاللفظ مستعمل فى كل العلوم ، داخل فى كل المعارف ، يستخدمه اللغوى، والمؤرخ ، والفيزيائى، والأديب، والفلكى، والفيلسوف وغيرهم ، ورد فى كشف الظنون: " فاللازم من كون الشيء غاية لنفسه أن يكون وجوده الذهني علة لوجوده الخارجي ولا محذور فيه وأما غاية العلوم الآلية فهو حصول العمل سواء كان ذلك العمل مقصودا بالذات أو لأمر آخر يكون غاية أخيرة لتلك العلوم" ( ). وجاء فى الحدود الأنيقة : "الإقرار لغة : الإثبات من قر الشيء أي ثبت"( ) . مما يؤكد انتفاء التحديد الصارم أو شبه الصارم للفظ ،مما يفسح المجال لإثارة الأسئلة حول المفهوم نفسه : " ما هو ذلك الشىء الذى اختزلنا فى سبيله المكان إلى أقصى مداه ، ومع ذلك لا نصل إليه ولا يصل إلينا ؟( ) لقد بات اللفظ - لكثرة التداول – يكاد يستعصى على التحديد مما جعل الدكتور عبد الغفار مكاوى يتساءل : " وما هو الشىء ؟ سؤال بسيط يوشك ألا يسأله غير البلهاء ؟ ولكن لعل الإنسان فى تاريخه الطويل قد أهمل فى السؤال عن حقيقة الشىء" ( ). وفىالآن نفسه يطرح الدكتور عبد الغفار مكاوى تعددا شيئيا يعد صياغة جديدة للسؤال عن الشيئ : " الحجر على الطريق شىء ، وكومة التراب فى الحقل . الجرة شىء والنبع فى الصحراء . ولكن ما حال اللبن فى الجرة والماء فى النبع ؟ هذان أيضا شيئان ، كما أن السحب فى السماء أشياء ، وأوراق الخريف فى مهب الريح ، وشجرة الصبار على الدرب المهجور ، بل لعل من حقها أن تكون أشياء " ( ) ويكاد هذا المفهوم يتناسب مع واقع يطلق اللفظ على الكثير من الموجودات: المادى منها والمعنوى مما يجعل منه علامة قادرة على حمل الكثير من المعانى والدلالات التى تخدم الكثير من العلوم والمعارف، إذ يشير إلى غيره أكثر من إشارته لنفسه أو لمعنى داخله يعمل العلم الحديث على الإشارة إليه، ففى الوقت الذى كان الشيء فيه قابلا لأن يحل – على المستوى اللغوى – محل الكثير من الألفاظ نجحت الفلسفة – إلى حد كبير - فى تحديد مفهوم الشىء ناقلة إياه من واقع عام إلى حيز خاص : " فالأشياء فى ذاتها والأشياء التى تظهر للعيان ، وكل ما هو موجود على الإطلاق ،يعرف فى لغة الفلسفة بالشىء " ( ) و الدكتور عبد الغفار مكاوى لايقنع – علميا – بذلك ، فالأمر من وجهة نظره يتطلب كثيرا من التحديد إذ ليس من الممكن أن نسمى الله شيئا أو أن ندعو الفلاح والعامل والمعلم والغزال والقطة و الجراد أشياء لذا يعمد إلى مفهوم أكثر تحديدا يتناسب مع قوانين العلم والمنطق : " والأقرب للمعقول أن نسمى كل ما تجرد عن الحياة – سواء فى الطبيعة أو فى محيط الاستعمال – باسم الشىء ، كأن يكون كتلة من الصخر ، أو قطعة من الخشب ، أو كومة من التراب . وهكذا نكون قد خرجنا من المملكة الواسعة التى سمينا فيها كل موجود باسم الشىء " ( ). المبحث الأول التفاهم فى منطقة متنازع عليها / فيها . تعلى النظريات النقدية الحديثة دور المتلقى الذى يمتلك من القدرات ما يجعله يحسن التفاهم مع المبدع عبر منطقة تفاهم تنوزع - وما يزال – عليها، ونعنى النص أو المساحة التى تنازعت النظريات على أيهما يسودها : المبدع الذى رفعت النظريات القديمة من راياته على النص بوصفه صاحب الحق الأول فى المملكة( النصية )، أم المتلقى الذى تجعله نظرية التلقى الأب الروحى للنص ،و منطقة التنازع وإن حملت نتاجا معنويا / تخييليا، فإنها تمثل وسيطا يعد بدوره الأداة / المساحة التى يبث فيها المبدع مجموعة الإشارات، والأدلة، والموجهات التى يستثمرها المتلقى فى ممارسة دوره المنتظر ، وهى مساحة ورقية ( فضاء نصى ) تعد مسرح اللقاء الذى يدخله المبدع والمتلقى متتابعين ، يجتمعا ن فى المكان ولا يجمعهما الزمان، يتأثر كل منهما فيه بالآخر وإن ظهر تأثير أحدهما متفوقا، والمبدع مسئول - بقوة تخيله - عن تشكيل هذا الفضاء مستثمرا قوة العلامات المشكلة خيال المتلقى عندها نحن أمام قوة خيالين أو قوتين من الخيال إحداهما باث مؤثر، والأخرى مستقبل متأثر ( ). وعملية التخييل بوصفها رابطا بين الاثنين تعتمد على مجموعة من العلاقات اللغوية التى يكون التخييل رابطا فيها بين الكلمات والأشياء بوصفهما عنصريه . وفى هذا الجانب اعتمد الرومانسيون قوة الخيال بوصفها عنصراً للإدراك ووسيلة لتغيير البشر والحياة للأفضل : " عرف الرومانسيون أن وظيفتهم هى الخلق ، وأن يغيروا عن طريق هذا الخلق نفس الإنسان الواعية المدركة جميعها ، حتى يوقظوا خياله على الحقيقة التى تقع وراء المألوف من الأشياء ، حتى يرفعوه من رتابة العادة المميتة إلى الوعى بالأبعاد التى لا تقاس والأعماق التى لا تدرك وأن يبينوا له أن العقل وحده لا يكفى " ( ). عند ما تتكشف أهمية الخيال يصبح من الضرورة أن نتجه وجهة أخرى تتأسس عليها ، مضيفة إليها تلك العلامات التى يتشكل عبرها فى صيغة الالتقاء بين المرسل ( المبدع ) والمستقبل المتلقى ، تلك الصيغة التى تأتى فى مجملها مشكّلة من علامات لها ظاهر وباطن ، علامات لغوية تحيل إلى مفردات تمثل الهيكل الأساسى الذى يقيمه المرسل لمستقبله ، مستمدين تعريف فراى للتخييل الذى يؤكد هذا الهيكل : " التخييل Fiction الأدب الذى كون أساس التقديم فيه الكلمة المطبوعة أو المكتوبة ، مثل الروايات والمقالات " ( ). والمستوى الأول للعلاقة اللغوية يمثل مستوى مباشراً تعمل فيه الكلمة على ضخ دماء منشطة لخيال المتلقى ، تمهد لاستيعابه أكبر قدر من العلاقات ، والتفاصيل ، والصيغ للنص المطروح فى المساحة بين المرسل والمستقبل ، أما المستوى الثانى فغير مباشر يستفيد من المستوى السابق . ففى المستوى الأول تحيل الكلمة إلى معناها المؤسس على مرجعيتها وخاصة فى السرد ( من حيث إسنادها للراوى أو الشخصية أو كونها مروية بضمير الغائب أو المخاطب أو المتكلم)، والراوى عندما يقول : " وذات مساء جلست الأسرة حول المدفأة المطلية فى بهو المعيشة . كان شهر طوبة يستوى على عرشه الثلجى والرذاذ لم ينقطع منذ الصباح الباكر . ونظر سليمان إلى ابنيه الرقيقين المتلفعين بالعباءة المخملية المنزلية " ( ) فإننا أمام نوعين من العلامات : 1- علامة متحررة : وسمتها أن المتلقى لا يتوقف عندها متخيلا صيغتها الشكلية أو هيئتها ( مساء – جلست – الأسرة – لم ينقطع – الصباح الباكر – نظر )، فهى علامات لا يحتاج المتلقى إلى تمثلها وتخيل هيئة حدوثها ، فلا يهم شكل الجلوس أو النظر فى هذا السياق ، وهى علامات تتحرك بحرية عبر الزمن يمكن للراوئيين أن يستخدموها فى أى زمن موظفين إياها ، وتكاد تأخذ شكل الروابط ، أو العناصر الرابطة لهيكل النص . 2- علامة مقيِِّدة : تلك العلامات التى لا يستطيع الراوى استخدامها للإشارة إلى كل الأزمنة أو الأمكنة والمتلقى إذا ما أمعن فيها النظر قد يكتشف مخالفة لواقع النص ومن ثم يرتفع مؤشر الدلالة المنبنى على قوة الأسئلة المثارة ،و( المدفأة المطلية بالفضة ، العرش الثلجى – العباءة المخملية المنزلية ) لا تصلح لكل الأزمنة الواقعية أو السردية، والنص الذى تدور أحداثه فى بيئة غريب عليها أن تشهد مثل هذا المناخ يكون من المثير للتساؤل حلولها بهذه الصورة . إن حداً من الحرية فى الاستخدام يجعل هذه العلامات تتحرك فى إطار النصوص مما يضعنا أمام علامات / أشياء لها فعل النص، ولها قوة الدال ونشاطه ولها من قبل قوة العلامة اللغوية التى تشترك فيها مع غيرها مما سبق الإشارة إليه . وعلى الرغم من أن العلامات اللغوية المتحررة قد تحيل إلى فعل عادى فإنها تظل متحررة فى استظهارها للمعنى غير المقيد للمتلقى بخلاف العلامات التى تحيل للأشياء فى كشفها عن ثقافة ما، وخروجها عن حالة نفسية تكون قادرة على التعبير عنها . العلامات / الأشياء هنا تمثل محددات للصورة المتخيلة التى يبثها النص الذى يمكن الحكم عليه من خلال طبيعته الشيئية وحركة هذه الأشياء فيه،أو تكرار الشئ الواحد أو تجاور الأشياء المتعددة كلها تمثل استظهاراً لهذه الصورة . وفى مقاربتنا للنص الإبداعى نتابع مستويين للعلامة اللغوية : الأول: الدال: مستوى اللفظ بوصفه علامة لغوية تمثل مفردة خطابية ( تتخاطب بها الجماعة البشرية ) و تمثل قوة للتخاطب من قبل هذه الجماعة . الثانى: المدلول: مستوى اللفظ بوصفه مدلولاً ينطبق عليه الدال ( أو يطلق عليه الدال بوصفه علاقة لغوية متعارف عليها ) ونعنى به الجوامد حسب تعريف الدكتور عبد الغفار مكاوى . أولا :الدال يأخذ اللفظ طابعاً لغويا صرفا ؛ ينحو فيه نحو اللغة التى هى رموز اصطلاحية للتعامل وإقامة العلاقات بين أفراد الجماعة البشرية ؛ ولفظ الشيء بهذه الصفة يمثل علاقة لغوية متعددة الدلالات ، يجدر لمن يريد تأملها أن يراجع نتاج الثقافة العربية عبر القرآن ( راجع الآيات التى أشرنا إليها سابقا ) ، والحديث ، والشعر، والنثر فلا يصعب عليه أن يتوصل إلى استقرار مفهوم اللفظ الذى تتعدد دلالاته للدرجة التى يشعر المتلقى عندها أن ثمة إبهاما فى اللفظ يتراوح بين نتاج وآخر ولكنه يظل قادراً على التماسك . والصعوبة الحقيقية تكمن فى تتبع اللفظ فى نتاج الثقافة العربية متعددة الجوانب حيث تتعدد الدلالات بين الشعر والنثر ، بين نصوص المتصوفة ونصوص السرد ، بين لغة الخطاب اليومى ولغة النص الإبداعى . ومقاربتنا الشعر العربى تكشف عن قدرة اللفظ على الإفصاح عن أسلوب خاص وقوانين فنية شديدة الخصوصية مما يؤكد ما طرحناه سابقا من تساؤل عن كون الشيء يمثل مفتاحا لقراءة النص وتأويله . و يمكننا عبر تتبع المفردة فى سياقها الأدبى أن نتوصل إلى نتائج لها أهميتها فى ذلك، فمن الملاحظ أن استخدام العربية للفظتى ( الشيء – الأشياء ) مقارنة بين الشعر والسرد يكشف عن أن الشعر يستخدم المفردتين بالصيغة الصريحة ، يقول الأمام الشافعى : غنى بلا مال عن الناس كلهم وليس الغنى إلا عن الشئ لا به ويقول أبو العلاء المعرى : تشابهت الأشياء أصلا وصورة وربك لم يُسمع له بشبيه . إحصائيا تزيد مفردة الشئ على الثلاثمائة مرة ، وأعلى معدل لتكرارها يأتى هكذا : ( ) أبو العتاهية : سبع عشرة مرة البحترى : ثلاث عشرة مرة . أبو العلاء المعرى : عشر مرات . وأعلى معدل لتكرار ( الأشياء ) عند أبى العلاء المعرى ، حيث تتردد ستا وعشرين مرة . شعريا تحتفظ المفردتان بالإشارة للمادى والمعنوى مع الإحالة للمعنى الإيحائي الذى يناسب لغة الشعر ، فالشعر يختزل الكثير من المعانى والدلالات فى المفردة التى تعد بمثابة الوعاء الذى يمكن للشاعر أن يعتمد عليه فى سوق المعنى المراد ، أو بث القيمة الدلالية " فى ذهن متلقيه" . والملاحظة التى لا يمكن تجاوزها فى السياق الشعرى أن معظم استخدامات الشعراء للمفردة ( إفرادا وجمعا) تأتى فى سياق الحكمة ( لا حظ أن على رأس قائمة الشعراء أبا العتاهية ( الشيء )، وأبا العلاء ( الأشياء ) وهما الشاعران المعروفان بالحكمة والخبرة بالأيام، والإنسان ). ثانيا: المدلول إذا كان الشعر يستخدم المفردة ( الشئ/ الأشياء ) بالصورة الإيحائية بوصفها دالاً أو علامة لغوية مع احتفاظه بالحق فى استخدام المفردة بوصفها مدلولاً ، فمغايرة للشعر يتعامل السرد مع الشىء بوصفه مدلولا /عنصرا من عناصر الفضاء السردى الذى يتشكل من الأشياء التى " تعد نسيجا أساسيا فى جغرافيته ، تشبه البشر فى كونها تحمل أسماءها التى تمثل علامات فارقة لها عن غيرها ؛ فلكل مكان أشياؤه ولكل شىء اسمه " ( ). فى السرد تلعب الأشياء ( الجوامد ) مجموعة من الأدوار نتوقف قبل مقاربتها عند مجموعة من البدهيات : 1- مغايرة طرائق ظهور الأشياء وتقنيات هذا الظهور فى النص السردى عنها فى النص القديم ، فالنص القديم يقدم أشياء القصة فى الوقت الذى يقدم فيه النص الجديد قصة الأشياء . 2- أن وظيفة الأشياء فى الحديث تختلف عن الاستخدام القديم ، وأن مقاربة الأشياء سرديا إنما تأتى عبر الإجابة عن مجموعة من الأسئلة التى تحاول الإحاطة بالموضوع : أ‌- كيف تظهر الأشياء فى النص السردى ؟. ب‌- ما العوامل المؤثرة فى ظهورها هذا ؟ . ت‌- ما المستويات الوظيفية لهذه الأشياء؟. الشيء تقنيات الظهور من أين يمكن لمتلقى النص السردى أن يتابع أشياء السرد؟ . تعد العتبات النصية أولى العناصر السردية التى يمكن عندها أن نتعامل مع أشياء النص السردى ، حيث تتسلل أشياء النص لتتبوأ مكان الصدارة على غلاف الرواية: 1- العتبـــــــــــــــات ( بعد النص ، قبل القراءة ) بعد كتابة النص تنضاف إليه صيغتان تخضعان لمنطقين مختلفين ، تؤثران على عملية التلقى ، وتعدان آخر ما يدخل سياق النص وأول ما يتلقاه القارىء: 1- ( العنوان – الإهداء) ويخضعان لمنطق الروائى. 2- ( لوحة الغلاف ) وتخضع لمنطق القارئ الأول. 1- منطق الروائى منطق الروائى يظهر عبر ( العنوان – الإهداء ) اللذين يمثلان نصا لا ينفصل عن المتن نفسه ، و المكون الشيئى يعد واحداً من مكونات قوة ماثلة فى الشيء جعلته يحتل مكانه فى العتبة الأولى التى تكون أولى العناصر التى يطالعها القارئ ولا يغُفل تأثيرها عليه فى التلقى، وعندما يحل الشيء فى العنوان يأخذ إحدى صيغتين : 1- الإفراد . 2- التركيب . الحالة الأولى ، حالة الإفراد يبرز الشيء مفرداً صيغة ومعنى ، وقد ظهر ذلك فى كثير من النصوص : ( المرايا ) و (الطريق )و( الكرنك) : نجيب محفوظ (الحجاب ) : حسن نجمى . (الحبل ) : إسماعيل فهد إسماعيل ( الدائرة ) : نجدى إبراهيم . (الخباء ) : ميرال الطحاوى . ( المسلة) : نبيل سليمان . – ( الولاعة ) ( الياطر ) : حنا مينه. ( الصنم) : أشرف الخمايسى . ( الجبل ) : فتحى غانم . ( الأسوار ) : محمد جبريل . ( الشمندورة ) : محمد خليل قاسم . ( الأنهار) و ( الوكر) و ( الوشم ) : عبد الرحمن الربيعى ( الخيوط ) : وليد أبو بكر (الرغيف ) : توفيق يوسف عواد . ( التلال) : هانى الراهب ( السفينة ) : جبرا إبراهيم جبرا ( الديزل ) : ثانى السويدى . (الحزام ) : أحمد دهمان . هنا يبرز العنوان الشيئ بوصفه مدخلا مسيطرا على المتلقى الأول واضعا تصوراً ذهنيا عنده مما يجعله مدفوعا للربط بين النصين:العنوان بوصفه مبتدأ والنص المتن بوصفه خبراً ( ) . والتصور القبلى ( قبل قراءة النص ) قد يحيل المتلقى إلى مالاً تحيله القراءة الكلية ، فعنوان كالجبل يحيله التصور الذهنى قبل القراءة إلى العنصر المكانى المعروف، وقد يمنحه معنى الصمود والتحمل ،وقد يختلف المعنى – وهذا ما يحدث غالبا- بعد القراءة كأن يكون الجبل علما أو صفة لإنسان ، أو معنى كليا للنص ، والعنوان بهذه الصورة يمثل المبتدأ / المعرفة الذى يصح الابتداء به ، و(المبتدأ) العنوان بهذه الصورة ليس فى حاجة لغير النص / المتن ليبث فيه دلالته، و ليمنحه قيمته فى السياق السردى ،ولا ينشغل المتلقى به قبل القراءة التى تحيله العنوان إليها بصورة مباشرة . يضاف لذلك ملاحظة أن العناوين الشيئية المفردة تلزم فى معظمها وضع المعرفة وصيغة المفرد عدداً إلا القليل منها ( من بين عشرين عنوانا سبق الإشارة إليها ينفرد عنوانان بصيغة الجمع ( الأنهار – الأسوار ) ، فالشيء بهذه الوضعية يقدم نفسه – مبدئيا – مكتفيا بدلالته الأولى ، ومستدعيا تراثا للفظه يتواصل معه المتلقى، وهو ما يتكشف مع بعض العناوين الشيئية ( الوكر – الوشم – الولاعة ) وغيرها مما يستدعى فكرا مسبقا يحركه العنوان نحو ساحة التلقى ويكون مسيطرا على المتلقى بوصفه معرفة قبلية للدرجة التى تفرض نفسها بطريقة قد تسىء للنص فتحمله مالا يحتمل، وتقحم عليه مالا يقول أو ينتوى أن يقول ( ) ، وقد يحرك المتلقى إلى منطقة محاولة المعرفة التى قد لا يقدمها النص ، فعنوان كالشمندورة ، أو الياطر يثير القارئ غير المتكئ على معرفة سابقة بها إلى محاولة المعرفة قبل النص أو المبادرة بالدخول فى النص بحثا عن معرفة بالعنوان ، وهو يكشف عن آلية للتلقى يمكن تسميتها بمحاولة المعرفة السابقة للقراءة حيث يسعى المتلقى الذى أثاره العنوان إلى التعرف على ما يطرحه ولم تسعفه معرفته إلى إدراكه ( ) فيلجأ أحيانا إلى المعجم ليتزود بالمعرفة التى تنقصه ، وهنا يبرز أهمية دور الوظيفة البينية للناقد ( القائمة على العمل الوسيط بين المبدع والقارئ ) فى محاولته تقديم الجانب المعرفى بالنص وكاشفا عن الثقافة التى حركت النص لمنطقة الشيء الغامض فأظهرته معتزة به ، طارحة إياه بوصفه علامة على خيال روائى يمثل صوتا واعيا، ملما بهذه الثقافة . الشيء ههنا يمثل لدى المتلقى بؤرة للأحداث / النص السردى، إذ يتخيله - بداية – محوراً يدور حوله النص أو تتحرك حوله الأحداث جميعها ، والنص قد يفعل ذلك ولكنها ليست القاعدة التى تنطبق على النصوص جميعها أو ليست القاعدة الملزمة لكل الروائيين، ففى الوقت الذى تتحرك فيه الشمندورة حركة متكررة ، تعاود الظهور كل حين ، ويكون ظهورها منصوصا عليه، لا نكاد نلحظ الحجاب ( بوصفه شيئا ) فى تفاصيل رواية "الحجاب " لحسن نجمى ( ) . الحالة الثانية : حالة التركيب حيث يأتى الشيء فى حالة مركبة ينضاف فيها إلى أو ينضاف إليه عناصر أخرى تمثل لوازم أو صفات له أو عناصر تخيلية يطرحها النص ليقيم منها دلالات جديدة ، وتتعدد الأشكال الموضحة لهذه الحالة ولكن تنتظمها صيغتان أساسيتان، يتفرع منهما صيغ أخرى : الأولى : الشئ سابق على : أ‌- صيغة زمنية : حيث العنوان يطرح شيئا مضافا إلى فاصلة زمنية مثل : - (ثلج الصيف) :نبيل سليمان . - ( شبابيك منتصف الليل) :إبراهيم درغوثى( ) والعنوان بهذه الصورة يطرح معنى مجازيا ينطلق من العلاقة غير الواقعية ( التى لا تتوافق مع منطق الواقع، وإنما تصنع منطقها المجازى الخاص ) ، فالعلاقة بين الثلج والصيف أو بين الشبابيك والليل علاقة تبدو متناقضة إن لم يتدخل الخيال لحسمها بواسطة المجازالخاص للسياق لفض الاشتباك بين ما هو منطقى وما يبدو غير ذلك ، لقد كسر ثلج الصيف رتابة الواقع وأحدث خللا فى المألوف مما يجعلنا نستشعر أن حدث اقتران الثلج بالصيف كان المحرك لإبداع النص من البداية والرواية تصرح بذلك منذ البداية : " إن الركود لا يعنى سوى الموت . وكان لابد للثلج أن يهمى ، لأنه قانون طبيعى ، ولم نسيطر عليه . وقد دارت فصول وسنون ، لم نكحل عينينا طوالها ببياض الثلج . ومنذ عدة سنوات هطل فى الصيف . ضجت السماء بغضب رهيب ، وغاصت الهامات وكان ثمة مسافرون كثر . . . ومشاق . . . وهموم " ( ) وأيا ما كانت دلالة الثلج فإنه قد فرض قانونه وأحدث هذا التغيير الذى يختلف المراقبون حوله سلبا وإيجابا . ولكن إحداث الخلل ينقلنا إلى توازن جديد مؤسس على هذا التغيير . وفى "شبابيك منتصف الليل" ، يقدم الروائى فاتحة لنصه تطرح مجازية هذه الشبابيك : " فتحت شباكا يطل على قلبى فماذا رأيت ؟ ....... ليلا ! وماذا رأيت ؟ ...... ليلا ! وماذا رأيت ؟ ......رأيت ليلا أيضا – " ( ) فعلى الرغم من أن الرؤية تبدو متجهة للداخل، داخل النفس الإنسانية ، فإنها لا تنفصل عن خلل ينتظم العالم الخارجى ، يجعل من شبابيك الظلام محمية أكثر منها مكشوفة ، ومبهمة أكثر منها موضحة ، باسطة لمعنى يمكن إدراكه بسهولة ، وبعد هذا الطرح لا تظهر المفردة فى بقية الرواية مما يجعل المتلقى محتفظا بالمدرك المجازى محاولا تفسيره بما يلائم الواقع النصى . ب – صيغة مكانية : وفيها تنضاف الأشياء لعلاقة مكانية يبدو الشيء منسلخا منها ومقدما عليها رغم انسباكه معها فى سبيكة المضاف والمضاف إليه . مما يقوىالإيحاء بأن المضاف يفضى للمضاف إليه الذى يعد أصلا له، ومن هذه الصيغ : - (زقاق المدق ) : نجيب محفوظ . - ( نهر السماء) : فتحى إمبابى . - ( تل القلزم ) : محمد الراوى . - ( نجوم أريحا ) : ليانة بدر . والصيغة ههنا تقدم دلالة تكاد تكون متعددة مع ما تطرحه الصيغة من توحد، فالإضافة تطرح أثرا مكانيا يبدو فيه المضاف أصغر من المضاف إليه، ولكن التقدم فى النطق يجعل للمضاف أهميته للفرع على الأصل ، وفى هذه الصيغة يكاد المعنى المجازى يختفى بحلول علامات تمثل أو تعد أثراً من آثار المكان التى يختزلها الأثر فأصبح بؤرة لهذا العالم، وما زقاق المدق إلا رؤية مصغرة – على مستوى المساحة – لعالم كبير نجح الروائى فى تحريك تفاصيله للوصول إلى رؤية شبه شاملة لعالم كبير، يسعى الروائى إلى اختزاله فى هذه المساحة المكانية القادرة – بما تضم من تفاصيل – على أن تمثل العالم الذى اجتزأت فيه خير تمثيل، وهو ما يؤثر على الشخصيات مثلا فتحول إلى نماذج ليست مرئية خارج هذه المساحة . جـ – صيغة فاعلة : وفيها يكون الشيء مضافا إلى إحدى الشخصيات الروائية مما يشعرنا بخصوصية الشئ فى علاقته الحميمة بفرد / ذات قد تمثل العالم أو تشير إليه رامزة له ، ولكنها تظل هى نفسها ،ويحتفظ المتلقى بها متفردة بغير ما تشير إليه ، فاستمتاع المتلقى بشخصية روائية ينجح الروائى فى تحريكها أمامه يجعله يرى الشخصية دون ما تطرحه من دلالة ، أو ما تشير إليه من كونها نموذجا لغيرها ( ) . ومن هذه الصيغ : -( قنديل أم هاشم ) : يحي حقى . - (خطط الغيطانى) : جمال الغيطانى . - (حارة الأشراف ) : سمير ندا . - (جبل ناعسة ) : مصطفى نصر . -( تفاح المجانين) : يحيى يخلف . الشيء يحيل إلى ذات / ذوات يكاد ينعدم المعنى المجازى فى الطرح الأول مما يبث إيهاما فنيا بواقع ما حقيقى ، وفى الغالب يكون الروائى رابطا نصه بواقع مستلهما نموذجا بشريا له مرجعيته شديدة الواقعية ( لاحظ خطط الغيطانى )، ولا يفوتنا الإحالة التاريخية التى قد تطرحها هذه الصيغة عندما تضعنا أمام ذات لها تاريخها وتراثها السابق ( فلا يصلح أن يقدم الروائى تاريخا لطفل ليس له هذا التاريخ ، وعندما فعل سليم بركات ذلك فى روايته " فقهاء الظلام " فقد طرح نموذجا عجائبيا ناسب هذه الصيغة ) ، حيث يبدو أننا أمام شخصية يمتلئ تاريخها بما يستحق أن يحكى ، وبما يجعله قادراً على طرح مادة قابلة لأن تكون تراثا لهذه الذات ، والتراث ههنا لا يكون مرئيا مدركا ، و إلا ما قاربه الروائى وإنما هو تراث مُكتشف مباغت ( أو عليه أن يكون هكذا أو يبدو هكذا للمتلقى ) ليس ظاهراً وإنما هو سبر لأغوار الذات وكشفها بالكتابة . يقول السارد فى خطط الغيطانى : لننأ عن الظاهر ، ولنتدل على مهل فى أغوار الباطن لنذكر بما جرى من طيران الحديد ، وسماع اللامسموع ؛ ورؤية اللامرئى ، وانتشار الربا ، وتحريم الحلال ، وتحليل الحرام ، وتفشى العمولات الربوية ، وكثرة الوجوه الأجنبية ، وقلب معانى الأخيار ، رب ، ألق السكينة فى روحى ، قو صبرى وثبت إيمانى ، فى مواجهة الرزايا ، الطف بنا يا مولانا فيما جرت به المقادير " ( ) . جـ : صيغة شيئية : وفيها ينضاف الشيء لشيء آخر أو لحدث آخر ، ويكون بصورة المضاف أو الشبيه بالمضاف فى صيغة تعويضية عن حالة الإضافة للمادى أو للمعنوى ومنها : - (خرائط للموج) : سهام بيومى . - (تصريح بالغياب) : منتصر القفاش . وفيها تبدو علاقة التلازم الجديد بين مفردتين قد تبدوان بعيدتين إلى حين ،حيث الشيء الأول قد بات خاصا وملازما للثانى ، وفى خرائط للموج يظل الشيء الأول طارحا معنى حقيقيا إلى أن ننتهى للثانى فيحدث الانزياح إلى المعنى المجازى مما يطرح ثبات الثانى وحركة الأول الذى سعى أو سُعى به للارتباط بالثانى المفتقر إليه ، ومن ثم لا يفوتنا الرابطة الحرفية التى تستقر بين الشيئين ( حرف الجر ) تلك المحدثة للارتباط والفارضة سطوتها فى التقريب أو الإبعاد بين المفردتين واللام فى العنوان الأول أحدث تقاربا واضحا بين الخرائط والموج مع ملاحظة جمع الأول وإفراد الثانى ، خلاف الصيغة السابقة التى قد يحدث فيها العكس . وفى تصريح بالغياب ينبنى التلازم على حرف الباء الدال على الملازمة ، وفعل التصريح دائما يتعدى بهذا الحرف ( ) مما يجعل الغياب مرهونا بحضور التصريح ، كما يجعل الغياب عن الثكنات العسكرية حضورا للذات فى مكان خارجها ، هنا يكون الغياب محمودا ، مطلوبا ؛ مسعيا إليه . د . صيغة وصفية ، أو حدثية : وفيها يسبق الشيء صيغة تعد وصفا له تضيف إليه بعدا مؤثراً فى تلقيه ومنها : - (الخبز الحافى) : محمد شكرى . - (التوت المر) : محمد العروسى المطوى . - (الضوء الهارب ) : محمد برادة . - (الجزيرة البيضاء ) : يوسف أبو رية والصفة تمارس امتداداً للشئ قادراً على بث الحياة أو بعث الدلالة فى الأشياء على هذه الصورة الظاهرة ، فالصفة فى مقارنتها بالحال تُعد أكثر ثباتا بحساب الزمن ، ولأن المبدع يسعى إلى اقتناص اللحظة للتعمق فيها فإنه يجعل من أشيائه شيئا ثابتا لإدراكه من ناحية ، ومن ناحية أخرى للتأكيد على أن ماهو غير إيجابى ( وهذا ما يحدث فى عالم الكتابة بشكل عام ) ثابت مستقر مما يجعل الكاتب يدعو لاستيعابه سعيا لتغييره أو التوقف عنده لرأب الصدع ( صدع النص ) المتأثر أو المشير إلى صدع الواقع والخلل الحادث فيه ، المحفز للمبدع على محاولة تجاوزه . ومن هذه الصيغة أيضا الموصوف النحوى التابع لنكرة ويأخذ وضعيتين : * نكرة تتبعها جملة : -( عربة تجرها خيول ) :حسين عبد الرحيم . ( ) أو شبه جملة : -( حجرة فوق سطح ) : جار النبى الحلو . ( ) * نكرة تتبعها صفة نكرة أيضا : -( سكر مر) : محمود عوض عبد العال . -( نوافذ زرقاء ) : ابتهال سالم. - (حجر دافئ) : رضوى عاشور. *أو تضم الصيغتين معا : - (أشجار قليلة عند المنحنى ) : نعمات البحيرى -(دكة خشبية تسع اثنين بالكاد ) : شحاتة العريان ( ) وإضافة إلى ما تمنحه الصفة من استقرار زمنى ، فإن التصريح بهذه الصفات يعمل على تفخيم الشئ الموصوف وتفعيله قبل الدخول للنص والإمساك بما يحيل إليه العنوان الشيء الذى يأخذ طابع الهدوء ، إذ لا يقترب من الحدث مصرحا به، وإنما بطرحه الصيغة المكانية أو الإشارات المكانية ،فهو يهيئ المتلقى لتقبل الحدث الذى تتكفل الرواية وحدها بتقديمه لمتلقيها . و الصفة هنا تعمل على إحداث علامات فارقة تميز الموصوف عن غيره ، ورغم صيغة التنكير التى قد تلازم هذا النوع من الصيغ فإن التنكير المحدد يطرح قبل القراءة تعدداً أو إيهاما به يحدث تشوقا لدى المتلقى يتوجه نحو التعرف على ما تعنيه النوافذ الزرقاء أو أسباب مرارة السكر أو طبيعة الحجرة فوق السطوح أو المساحة التى تحتلها وتمنحها الدكة الخشبية التى لا تكاد تتسع لاثنين . هـ : صيغة متعددة الأشياء بالعطف المتعدد أحيانا : وفيها تتعدد الأشياء التى تبدو متتالية فى الوقت الذى تطرح فيه تداخلا حديثا : (التاج والخنجر والجسد ) :صلاح الدين بوجاه . (الشراع والعاصفة ) : جبرا إبراهيم جبرا . (الشعلة وصحراء الجليد ) : محمد حسن عبد الله . ( الملاح والسفينة ) : محمد الباردى . فالعطف بالواو يطرح التداخل لا التوالى ( ) ، مما يعنى تداخل الأشياء عبر أحداثها المشيرة إليها ، ورغم السكونية الظاهرة مبدئيا فى تداخل الأشياء بهذه الصورة فإنها سكونية مؤقتة ، حيث تلعب الأشياء لعبة الرمز الكاشف لما وراءه من دلالة ، والنص يؤيد ذلك ويؤكده ، فالتاج الرامز للسلطان والخنجر الرامز للسلطة والجسد الرامز للضحية ( الشعب ) يقول السارد مفسراً : " هذه لعبة التاج والخنجر والجسد . هذه لعبة التاج والخنجر والجسد : فالسلطان ينشد المداورة والرياء تحسبا، وصاحب الجيش معتد بسيفه والجنود ، أما جسد الرعية الرعاع فأعزل حينا . . . . عنيف حينا . . . . مستأثر بالأمر كله فى أحايين كانت . . وأخرى تكون : " ( ) فالأشياء تمثل علامة للسلطة التى تمنحها لإنسان قد لا يكون مالكا لهذه السلطة إن لم يمتلك هذه الأشياء . العنوان بهذه الصيغة يمنح الفرصة للجمع بين المتنوعات ( ما هو بشرى و ما هو غير ذلك) كما يعطى الفرصة للجمع بين المتناقضات "الشعلة وصحراء الجليد " التى وظفت العنصرين الشيئيين رامزة للعلاقات بين أفراد مجتمع الرواية ، بين جيلين يمثلان رؤيتين للحياة والحب بوصفه رابطا بين البشر ومؤكدا للعلاقات الناجحة . الثانية : الشئ لاحق لــــ : ويكون لاحقا فى تركيب لغوى موجز يناسب لغة العنوان ، ويجعل من الشيء موقعا منتهى إليه متخذاً مساحة فى المتخيل ومرسخا لدلالته ومعناه فى سياق إنتاج دلالة العنوان ومنها : - (أضلاع الصحراء ) : إدوار الخراط . -( ثرثرة فوق النيل) : نجيب محفوظ . - (حين عبرنا الجسر) : عبد الرحمن منيف . - (طعم الزيتون ) : سحر توفيق . - (عصافير النيل) : إبراهيم أصلان . - (فئران بلا جحور) : أحمد إبراهيم الفقيه . -( كلب السبخة ) : محمد الهادى بن صالح . يستثمر الشيء وجوده فى موقعه هذا مؤكداً دلالته فيتحول إلى ما يشبه الصدى أو ما يتبقى من ترديد التركيب ، إذ هو المعنى المنتهى إليه، ففى" طعم الزيتون" مثلا يتجسد الزيتون بوصفه العنصر المادى الأقدر على تخيله من لدن المتلقى الذى يكون أكثر إحساسا به ، ولأن الأشياء لها وجودها الأسبق – لماديتها – من المعانى يظل المعنوى مؤجلا ، مرهونا بقراءة النص ، بخلاف العنصر المادى ( الشيء ) الذى يكون له السبق فى التجسد والقدرة على مجابهة خيال المتلقى . وعنصر كالنيل عندما يكون تاليا لعنصر سابق ( ثرثرة- عصافير ) فإن التأويل يداخل العنصرين ولكنه لا يداخل النيل إذ يبقى النيل هو النيل ولا يستطيع المتلقى بداية ( وقبل القراءة مثلا ) أن يؤول النيل أو أن يداخله تخيل أن النيل ليس هو المدرك واقعيا ، الذى لا بد أن يلقى بظلاله على عملية التلقى المتأثرة بهذا الوجود الواقعى ، وفى "كلب السبخة " قد تتعدد الكلاب ولكن تبقى السبخة التى إن أوّلت أو صح تأويلها لسرى التأويل بدوره إلى العنصر الأول (الكلب) وبات قابلا لهذه القوة التأويلية . الإهداء- التصدير يمثل الإهداء ، أو العبارة المصدرة للنص( ) – فى حالة وجودهما معا أو أحدهما - المرحلة التالية للعنوان ، يتحول فيها النص بوصفه كتابا من صورته المادية إلى معنى مهدى ، وفى الوقت نفسه يكون صورة معنوية مهداة فى شكل مادى ، فعندما يكون الإهداء متأرجحا بين المادية والمعنوية يتحرك المتلقى بين عناصر تشغل مساحة متسعة بين المهدى ، والمهدى إليهم ، كما أن الإهداء السابق للنص يمثل الكلمة الأخيرة للمؤلف قبل أن يحل السارد محله ، أو العلامة الشيئية الأخيرة التى يبثها المؤلف قبل أن يترك المجال للسارد . وكثيرا ما يتضمن الإهداء عناصر شيئية تفضى للنص وتطرح نفسها للتلقى بوصفها عناصر داخلة فى نسيج النص ، دافعة المؤلف للكتابة ، وهو النمط الذى نجده فى رواية "قف على قبرى شويا ": أيها الزائر ليا قف على قبرى شويا واقرأ السبع المثانى واهدهم منك إليا فى زمانى كنت مثلك بين طوب الأرض حيا بعد حين أنت مثلى لست بعد الدود شيا أهدى هذه الرواية إلى فقيد الشباب الذى لا أعرفه ، وقرأت على شاهد قبره الأبيات السابقة " ( ) ، فيكشف المؤلف عبر الإهداء المركب عن دافعية للكتابة أولا ، ثم هو يفسر العنوان ثانيا ، و عندما يتداخل المتلقى مع النص يجد نفسه أمام تكرار لعنصر ( القبر ) ، المطروح عبر العنوان ، والإهداء ، والنص ، مما يترتب عليه بناء خاص من الدلالة ينضاف للبناء العام لدلالات النص . ، فالإهداء يجعل الكتاب ( شيئا ) ماديا ذا قيمة معنوية، فقد يكون المهدى إليه روحا لا يصلها الكتاب بصورة مادية . والتصدير يطرح بدوره عناصر شيئية ذات دلالة فى سياق النص ،وهى : - قد تحيل إلى أشياء بلفظها : - " إنها الأشياء التى : لا نتوقعها . لا نتخيلها . لا نعرفها . يكفى فى ذلك أننا نحاول "( ) - أو تطرح أشياء بعينها : شبابيكنا من غير هوا شبابيكنا من غير ضو البحر مرصوف بلاط والأودة وسع النو عبد الرحمن الأبنودى ( ) 3- منطق القارئ الأول القارئ الأول هو ذلك الفنان الذى صمم العتبة الثانية ( لوحة الغلاف ) تبعا للنسق الثانى من أنساق اللوحة ( ) . وفى معظم الأحوال لا تخلو اللوحة من أشياء الرواية التى تفرض نفسها على مصمم اللوحة لتتبوأ هذه المكانة ولتأخذ مساحة من خياله يكون لها الأثر الأكبر فى خيال المتلقى ومن ثم تدخل بصورة فعالة فى خيال النص أو الخيال المشكل بفعل النص ( ) . وللوقوف على هذه الحالة نستعرض نسقين : الثابت والمتغير . فى الثابت نطرح نماذج لطبعة واحدة محاولين قراءة الأشياء عبرها وفى النسق المتغير نقرأ غلافين لرواية واحدة ذات طبعتين مختلفتين . أولا : النسق الثابت : فى "تفاح المجانين "( ) يسيطر على الغلاف رسم لتفاحة تحتل مساحة واسعة منه، ويستثمر المصمم ( ) رسم التفاحة جاعلا إياه مسرحا لأشياء متعددة : بشر – تفاح صغير – عنكبوت - باب – شبكة حديدية وكلها أشياء تتساقط من التفاحة، والقارئ يجد اتفاقا واضحا بين المعرفة السابقة للقراءة وما يتوصل إليه من قراءة اللوحة / الغلاف أولا ، ثم من قراءة النص ثانيا . وفى "تصريح بالغياب" ( ) يتصدر الغلاف رسمان متداخلان: أسلاك شائكة تمثل القطاع الأكبر من الغلاف ، ومستطيل يمثل الورقة الصغيرة المشيرة للتصريح ، أو مسوغ الغياب ، ويمثل عنصر الحماية للجندى فى حركته خارج الثكنات العسكرية وهو رسم يتكرر فى متن الرواية مع الاختلاف بين مضمون الرسمين : الداخلى والخارجى ، (الخارجى بوصفه إطارا والداخلى بوصفه مضمونا) ، وتلعب الألوان بين الرسمين : الأسوار والتصريح دوراً بارزا بين الأسود والأزرق فى الأسلاك الشائكة، والأخضر فى التصريح مما يعطى الإيحاء بالقتامة والانقباض وراء الأسلاك والانفراج والحرية فى التصريح . وتعد أغلفة روايات نجيب محفوظ من الأعمال التى تسيطر فيها الأشياء المؤثرة على مصممى الأغلفة . ففى "ملحمة الحرافيش" تسيطر على الغلاف الملابس التى يرتديها الأبطال المتخيلون والعصا الغليظة التى تمثل أداة القوة فى مجتمع شديد الإيمان بها بوصفها وسيلة للعيش الكريم وفى "قشتمر" يظهر الطربوش بوصفة علامة على مجتمع الرواية . وفى "بين القصرين" يضاف للملابس المشربيات التى تتسم بها عمارة مجتمع الرواية وفى" الكرنك" يضاف لذلك كله العربة الكارو والمصباح التقليدى المعتلى عامود الإنارة والمشانق والقيود . وتمثل أعمال نجيب محفوظ نموذجا للغلاف الثابت مع تعدد الطبعات بحيث يمكن العودة لأى طبعة من طبعات أية رواية له لاستكشاف هذه السمة المحفوظية . وفى "أحزان نوح" ( ) تطرح الرواية نوعين من الأشياء : 19- ملابس الفلاحين . 20- البندقية . فالملابس بوصفها علامة شيئية فارقة تطرح أثرا واضحا على القارئ قبل القراءة وروايات الفلاح تشترك جميعها فى ذلك ، إذ تعد الأشياء فيها ( حين تأخذ طريقها للغلاف ) علامات مؤهلة للدخول فى النص للدرجة التى يمكن من خلالها تمييز بيئة معينة ( ) تطرحها الرواية . والبندقية فى "أحزان نوح" تمثل العنصر الشيئى الأساسى الذى قام عليه النص، ولولاه ما وجدت الرواية التى تتوالى أحداثها بسرقة بندقية نوح فلم يعدله وجود معنوى بعدها ، وقد كان حدثا جليلا انتبه له الجميع وسيطر على مجرى الأحداث منذ اللحظة الأولى للرواية . " حدث شئ فى بلدنا . كل شرق البلد هاج فجأة . لغطت النساء وسحب رجال حارة المداكرة عصيهم وخيزرانا تهم وشماريخهم الطويلة واندفعوا فى اتجاه حارة عبد الباسط ومصطبة حسان حنفى ومنتزه الست عيشة . تجمعت النساء على رءوس الحارات الثلاثة التى تصب فى مرمح التراكوة ، وتأوهن وهن يطرقن كفا بكف وتغيب عيونهن على مرمى البصر ، حيث كل شئ هامد ومتراخ ، والشمس تصب أشعتها على تجمعات البيوت وشجر اللبخ والجميز والجرن البعيد وكل الأشياء ، لغطت النساء وهن يغيمن بعيونهن ، فى آخر المكان : -يادى الفضيحة " ( ) لقد كانت سرقة البندقية محركا للجميع للدرجة التى نشعر عندها أن الرواية نفسها جاءت نتيجة لحادث السرقة ، ومن الواضح أن الأمر سيكون مختلفا إذا ما جاء حادث السرقة فى منتصف الرواية أو آخرها ،عندها سيكون حادثا عرضيا لا جوهريا تأسس على حدث سابق وليس كما تصور الرواية من أن الأحداث كلها ترتبت عليه، وللقارئ بعدها أن يتأول البندقية بوصفها شيئا يمثل الكثير لنوح ، أو لغيره من أفراد القرية الذين سيطر عليهم حدث السرقة. وفى : "مشوار "( ) تتعدد الأشياء المسيطرة على الغلاف : الطائرة – الوردة – الرسالة – الأهرام – أبو الهول – برج إيفل ، وكأنها أشياء تمثل رؤية شاملة لعالم متعدد المشاهد ، فالرواية تمثل رحلة لراويها يتجول خلالها فى كثير من الأمكنة المستكشفة عبر ثقافتها و أشيائها المشكلة لفضاء الرواية / الرحلة، للدرجة التى يمكننا خلالها أن نستكشف جانبا من طبيعة المجتمع : هذه الثياب هى التى تساعد على اصطياد الزوج الثرى الذى يفهم بالماركات العالمية هذه " ( ) . ثانيا : النسق المتغير وهو النسق الذى تتغير فيه طبعة الرواية، ومن ثم يتغير الغلاف فتظهر أشياء أخرى هى من صميم العناصر المشكلة لفضاء الرواية، ولكن الرؤية الأخرى المنبثقة من القراءة الأخرى ( قراءة مصمم غلاف الطبعة اللاحقة ) تسيطر عليه أشياء مغايرة ،تشكل عناصر الرؤية المغايرة ، ويمكن رصد نموذجين دالين ، اختلف مكان النشر فى الأول، نشرت الرواية فى طبعتيها فى المكان نفسه فى الثانى. أولهما : "الدراويش يعودون إلى المنفى" ( ) ، فى طبعتها الأولى : جاء الغلاف مفرغا إلى حد ما من الأشياء، فلم تظهر إلا الألوان وظهر شخصان غير واضحى نوعية الملابس ولا يمكن اكتشاف انتسابهما إلى بيئة معينة وإنما يمكن بسهولة بعد قراءة النص استكشاف الجانب الحضارى إذ هما ينتميان إلى حضارة حديثة مغايرة لما يمكن أن تطرحه كلمة الدراويش من ايحاء بملابس ذات طابع خاص . وفى الطبعة الثانية تشكل الغلاف من لوحة تضم مجموعة من الأشياء، لوحة مصممة من أشياء متفرقة : شواهد قبور – أحجار – أشجار – أرض خضراء يخرج منها ثلاثة أيدى وخلفية ذات لون أحمر . ويطرح كل هذا دلالات متعددة للحياة والموت والحرية والمعنى الإنسانى الضائع وكلها معان تطرحها الرواية وتؤكد عليها . ثانيهما : "وقائع استشهاد إسماعيل النوحى" ( )، ففى طبعتها الأولى جاء الغلاف بسيطا مركبا من بقع لونية متدرجة بين الأصفر والأحمر والأخضر . كما بدا الغلاف سرياليا يطرح أطيافاً تحاول أن تعبر عن واقع مسيطر . وفى الطبعة الثانية اختلف التصميم تماما حيث سيطر اللونان الأخضر الداكن والباهت وتوسط الغلاف لوحة لفنان عالمى (مايكل أنجلو ) يطالع فيها شيخ كبير أوراقا تبدو مخطوطا قديما ، والمخطوط يقارب إلى حد كبير الروح الملحمية للرواية بما تضمه من وقائع وأحداث . إن حضور الأشياء فى غلاف الرواية متعدد الوظائف ، إذ يشى بعالم النص ويكون قادراً على أن يؤهل الداخل لهذا العالم لأن يتوافق مع الخيوط النصية ، والقارئ الذى يعطى الغلاف اهتماما بقدر ما، يتأثر إلى حد كبير بما يقدمه الغلاف من تفاصيل لا يستطيع أن ينفلت منها أو من أثرها أثناء القراءة ،وإن كان التأثير قد سبق عند القارئ الأول ( المصمم ) فقد لعبت الأشياء دورها بأن تضع نفسها فى دائرة وعيه ومن ثم يسجلها على الغلاف بوصفها نصا منتجا بأثر نص سابق، فتصبح وسائط بصرية للتلقى قادرة على أن تكون نصا جديداً ينتمى للنص الأصلى، وينبثق منه . المبحث الثانى الأشياء ومستويات الرؤية من يرى ؟ إن عينا ما ترى الأشياء ثم تعرضها لنا ونحن نراها عبر هذه العين ، وإدراكنا لها يكون أعمق إذا ما أدركنا بداية من الذى يرى وعندها سيتكشف لنا لماذا تبدو الأشياء مغايرة لما نعرفها عليه فى واقعنا . بداية وبداهة يقع الاتفاق على أن مساحة ما ( كبيرة أو صغيرة) تستقر بين ما نراه فى واقعنا وما نراه فى واقع النص من أشياء، وأن الصخور التى نراها فى الواقع ليست هى الصخور التى تطالعنا فى " فساد الأمكنة " ( ) ؛ فالروائى يبدأ من الواقع ولكنه لا ينتهى إليه : " وإذا كانت نقطة انطلاق الروائى فى التقاليد الواقعية هو عالم الواقع فإن نقطة الوصول ليست هى العودة إلى عالم الواقع ، بل أنها خلق عالم مستقل له خصائصه الفنية التى تميزه عن غيره " ( ) ولأن الكاتب يبدع شخصياته مستقلة بعالمها وإن اشتركت مع غيرها فى مساحة هذا العالم ، فإنه يستفيد من غيرية السارد فى تحقيق هذه الاستقلالية، بحيث لا تتماهى شخصيته ( الروائى ) مع شخوصه ، ومع هذا التعدد ، تتعدد زوايا رؤية الأشياء ، مما يؤثر فى طريقة عرضها وإدراك المتلقى لها . ويمكننا رصد مجموعة من الزوايا المؤثرة فى العرض والتى تتحدد حسب عوامل : - الموقع . - الزمن . - الاجتماعى . - التلقى . أولا : عامل الموقع : ونعنى به زاوية الرؤية المترتبة على : أين يقف الرائى ( الوسيط ) ذلك الذى يمثل العين المدركة الواقعة فى منطقة وسطى بين المبدع والمتلقى ؟ ، أو هى الوسيط الذى يجعله المبدع وسيلتها للتبليغ ، ويمكن التعرف عليه ، ورصد رصد أنواعه من خلال مقاربة الضمائر المتعددة حسب نموذج تودوروف المعدل فى مظاهر الحكى ( ) : • رؤية أقرب من الأشياء تتمثل فى الراوى بضمير المتكلم . • رؤية أبعد من الأشياء تتمثل فى ضمير الغائب . • رؤية مساوية للأشياء تتمثل فى ضمير المخاطب . وتتوافق هذه الرؤى مع طبيعة السارد، أو تعبر تعبيرا واضحا عنه . ففى النوع الأول : تمثل الأشياء للراوى( الراصد عالمه بالأخص وعالم الآخرين بالأعم) ، حقائق ليست دخيلة عليه فهو يقيم معها علاقة روحية والمتلقى لا يداخله الشك فى هذه العلاقة ، وليس أقدر على تقديم الأشياء بدقة ومن ثم العلاقة بها إلا ضمير المتكلم الذى يجعلنا نرى الأشياء بصورة أكثر واقعية، يقول بوتور: " إننا نستعمل ، بالطبع صيغة المتكلم فى كل مرة نحاول فيها أن نجعل من الوهم حقيقة وإثباتا " ( ). للوهلة الأولى نتوقع أن اقتراب الراوى من الأشياء – بحكم اقترابه من عالمه – تجعله أكثر إدراكا ووصفا لها ولكن الحقائق النصية تؤكد عكس ذلك ، ، وضمير المتكلم يجعلنا نرى الأشياء عبر مرورها بالحالة النفسية للوسيط ودرجة معرفته السابقة لها بدرجة يمكننا من خلالها أن نتأول رؤيته هذه بوصفها إظهاراً لما فى نفسه من شعور بالحاجة للأشياء ، جاء على لسان الساردة فى " أشجار قليلة عند المنحنى ": "ثم وكأننى أدخل الحالة العادية لأهل المدينة رحت أتابع المعروضات ثياب ، وأحذية وحقائب جلدية وستائر ومراتب والحفة وملايات سراير وقمصان نوم وأطقم شاى وسفرة صينى وبايركس وستانلستيل" ( ). كما تمثل هذه الأشياء حالة المدينة العادية ، و ــ بالمنطق التجارى ــ ما يحتاجه الناس فيها، ودرجة تحفزهم ، فإنها أيضا تمثل واقعا ما تحتاجه الراوية فى رغبتها لاستكشاف المكان أولا، وإشباع حاجاتها من هذه الأشياء ثانيا . لقد جعلتنا الأشياء نرى الساردة وهى تتوافق مع أهل المدينة اللذين يمكن استكشافهم عبر تحليل الأشياء وملاحظة علاقتها بالحاضر والماضى ، وما هو منها صناعة محلية أو غير ذلك ، ولأن الساردة لا تنسي أنوثتها، فإنها عندما تدرك الأشياء بعد تفحصها تروح تمارس عملية الانتقاء مسلطة الكاميرا على التفاصيل الأكثر وضوحا ، كما تؤكد فى الوقت نفسه معنى إشباع الحاجات : "راق لى طاقم فناجين قهوة "صينى" منقوش بصور روميو وجولييت ونظرات الحب بينهما" ( ) لقد تحولت الأشياء لمرآة قادرة على أن تعكس الحالة النفسية للسارد ، وفى عمق العلاقة الناشئة بين الساردة وطاقم الفناجين يمكننا بسهولة أن ندرك الإسقاط الذي تحدثه فى الخلفية ، فهى تعيش فى بلد غير بلدها ، انتقلت إليه مع زوجها الذي تحبه وهى عندما ترى روميو وجولييت، فإنها تسعى إلى ترسيخ الحالة التى تعيشها أو تحلم بها وحالتها تشبه بدرجة ما قصة العاشقين الشهيرين ( فقد خالفت أسرتها إلى حين عندما أعلنت رغبتها فى الزواج من رجل ليس مصريا ولا يقيم فى مصر) إنها ترغب فى اقتناء الطاقم لاستخدامه بغرض إحداث التواصل مع الآخرين من جهة ، ومن جهة أخرى ترى نفسها فى النقوش على الطاقم مصرحة "بنظرات الحب بينهما" وهى تحل لنفسها ما فعلت من خلال إعلانها أنها ليست الحالة المتفردة الشاذة كما أن روميو وجولييت ليسا حالة واحدة فتكرار الحالة يجعلها القاعدة وغيرها الشاذ وليس العكس ، لذا لم يكن إيراد كلمة (صور) الدالة على التعدد مجانيا والتعدد قائم على مستويين : - مستوي اعتبار الصورة واحدة متكررة على كل قطعة من الطاقم مما يؤكد الحالة ويرسخها لقدرتها على التكرار ومحاصرة الإدراك والتعدد أمام بصره ومن ثم أمام بصيرتها وتفكيره . - مستوى تغير الصورة وأنها ليست صورة واحدة متكررة وأن كل قطعة لها استقلاليتها مهما تشابهت ، مما يجعل من الحالة نموذجا يحق له أن يتكرر ولو لم يكن تكرره بالسيمترية نفسها . ويمكن للمؤول أن يغوص قليلا ليدرك اختزال الأشياء/ الطاقم لبيئات ثلاثة رئيسية اجتمعت إزاء القارئ : - الشرق الأقصى (الصين) الذي ينسب إليه المنتج ولو لم يكن مصنوعاً فيه الآن (وما زالت عقلية المستهلك العربى منحازة نحو المصنوع فى الصين بحثا عن الأصالة التى يفترض بوجودها توفر الجودة تماما كالسجاد الفارسى والصوف الإنجليزي وغيرهما) - الغرب وفيه دارت أحداث قصة الحب الشهيرة . - البيئة العربية التى تضم بشكل فرعى مجتمعين : مصر بلد الساردة والعاصمة العربية التى انتقلت إليها . لقد صنع الغرب القانون ، قانون الحب وخلد كتابه القصة ، ونقشها الشرق المفتقر للقانون الإنسانى ، و أسقطت الساردة الحالمة بتكرار النموذج وتطبيق القانون ذلك على حالتها . فإذا ما عرفنا أن الساردة تراجعت عن الشراء تساءلنا معها : "تراجعت فى شراء طاقم فناجين القهوة وأخبرت البائعة أن الشراء سيحدث فى نهاية اليوم حتى لا أحمل نفسى عبء التحرك به فى شوارع وسط المدينة . أحيانا تأخذنى اللهفة لاقتناء أشياء محببة إلى نفسى . ثم أتراجع عنها دون فهم سر التردد" ( ) . ولكن اعتماد النظرة السابقة للساردة بإمكانه أن يكشف سر التردد فقد حققت ذاتها من خلال النقش / الأثر الثابت (فى لسان العرب النقش: الأثر فى الأرض والنمنمة) وأشبعت حاجتها المفتقدة الممثلة فى: 1- إحداث التواصل مع الآخرين ؛ فهى الوحيدة فى مدينة تدخلها للمرة الأولى وتختبر الآخرين لإحداث علاقات معهم ، وهو ما يتم عبر استخدام الطاقم فى توثيق العلاقة الاجتماعية مع ضيوفها وزوجها ، وقد تحقق التواصل مع البائعة التى ذهبت إليها لمعاينة الطاقم : "وبعد أن منحت نفسها فرصة للارتياح راحت تثنى على ثوبى وتسألنى عن مكان شرائه . بش وجهها وكانت عابسة ثم دعتنى لكوب شاى ، وهى تخبرنى أنها تحب مصر والمصريين . أخبرتها أننى أحب القهوة أكثر من الشاى ، ربما لتلك المرارة المحببة فنادت عاملة البوفيه ، كانت مصرية ورقص قلبى حين رأيتها حتى ظننت أننى أعرفها" ( ) . وكما أن هذا المقطع يكشف عن إسقاط جديد لسر العلاقة بين الساردة والقهوة التى تناسب مرارتها حالة المرارة التى تعيشها، المرارة المحببة لغربتها عن أهلها ووطنها ولكنها تعيش مع حبيبها مما يجعلها بالفعل مرارة محببة ، فإن المقطع نفسه يكشف بوضوح عن الجانب الآخر من سر التردد فقد تذوقت الساردة القهوة وحققت التواصل مع البائعة مواطنة بلد الغربة وعاملة البوفيه مواطنة الساردة المصرية لذا لم تعد فى حاجة لأن تشترى أو تقتنى الطاقم بوصفه أداة التواصل وقد تحقق أو أداة الإثبات وإشعار النفس بصحة المسلك وقد تحقق ذلك . وفى النوع الثاني : الرؤية الأبعد للأشياء : يتيح ضمير الغائب للأشياء فرصة كبرى للظهور وما كان السارد بضمير المتكلم فى حاجة إليه من مساحة تبعده قليلا عن الأشياء حتى يتحقق له إدراكها تماما يتحقق بالفعل مع السارد بضمير الغائب . وضمير الغائب ليس يعنى أن الرواية كلها مروية به ، إذ من الممكن أن نعود إلى أشجار قليلة عند المنحنى" لإدراك الصورة التى ترسمها الساردة لغيرها ممن تروى عنهم بضمير الغائب ، وتعد صورة السيد الرئيس نموذجا واضحا لهذا الرؤية: كنت أعرف ولع السيد الرئيس بصوره التى ملأت الشوارع والمبانى وكل مكان فى المدينة ، واجهات مستشفى القلب والصدر والأمراض المزمنة ومصحات الأمراض النفسية ومصانع الأسلحة ومعامل الطاقة الذرية والمحاكم والسجون ، حتى جدران دورات المياه العامة ، هذا غير واجهات الجرائد والمجلات . وقد بدت المسألة مثل مفارقة لاذعة السخرية حين أمسكت مرة بمجلة للطهى وثانية للحكاية وغيرها للتطريز لأجد صورة السيد الرئيس تتصدر أغلفتها وحين سبقتنى دهشتى تجاهل "عائد" الأمر بالدخول سريعا فى حديث آخر" ( ) . لا يتوقف دور صورة السيد الرئيس عند اختزال المظهر السلطوى الذي يمارسه على أهل البلاد ، وإنما يتعداه إلى كونه ممثلا لصورة اجتماعية مغايرة لم تألفها الساردة مما يجعلها تصاب بالدهشة التى تتسلل بدورها للمتلقى ، يضاف لذلك ما يمكن عقده من مقارنة بين الصورتين اللتين تمثلان كيانين مغايرين : - صورة روميو و جولييت بوصفها نقشا يمثل أثرا محافظا عليه لطبيعته الفنية والجمالية ويشير إلىصيغة عميقة للعلاقات الإنسانية، والتواصل الإنسانى عبر الزمان والمكان (عبور القصة إلى بيئة أخرى واجتيازها حدود الزمان، والمكان ، واللغة) . - صورة السيد الرئيس المسطحة والموزعة بفعل ليس جماليا وإنما بفعل سياسى ، سلطوى ، ديكتاتورى يجعل من السيد الرئيس نموذجا للقهر والرواية تقدم – عبر مساحة واسعة – مشهدا لعملية التخلص من صورة السيد الرئيس مما يجعلها ترسم حالة قدرية لا يمكن الفكاك منها بسهولة تنضاف ذلك لما يمنحه السياق السردى لها من وظائف متعددة ، منها: كشف حالة الاختلاف القائمة بين أشجان المصرية وعائد زوجها الذي أظهر حالة من الرعب لتورط زوجته فى إلقاء صحيفة تحمل صورة السيد الرئيس فى سلة المهملات : كانت نظراته تنتفض بشرر لا تطفئه إجابات اللامبالية كما تبدو له ، وكنت ما أزال أحتفظ ببعض من وداعتى فى استقبال هو من الآخرين ، وولعهم بتفاصيل غريبة ، أخبرنى بصوت مبحووح أن صورة السيد الرئيس تتصدر صفحة الجريدة. - لم أقصد شيئا مما تخشاه . مسح الزجاج بالجرائد طريقة أكثر شيوعا بين الناس فى بلدى ، وبلاد أخرى . بدا "عائد" وكأن حشدا من كوابيس اليقظة يداهمه .. صفوف من الخوف والرعب والفزع ، فراح يفرد لى الصفحة لأرى صورة السيد الرئيس المبلولة والمخدوشة مثل وجه مكرمش ومشوه" ( ) . لقد كانت سطوة الشئ / الصورة أكبر مما تتصور "أشجان" القادمة من بلد شأنها شأن الكثير من البلدان تملي عليها ثقافتها الشعبية أن تستخدم الصحف فى تنظيف الزجاج ، وما يبدو عاديا فى غير المكان بات غريبا فى هذه البلد التى يجعلها رئيسها تحترم أشياءه أو تخاف أشياءه خوفها منه ، فقد حلت الصورة / الشئ محل الذات صاحب السلطة المكتسب نوعا من القدسية وقدرا من الإكراه على الاحترام: "وفى لحظة وكأنه تذكر شيئا جرى كالممسوس إلى باب البيت ، يفتحه وينظر يمينا ويسارا . ثم النافذة ليفتح خلفيتها ويتبصص فى كل الاتجاهات ثم يرفع سماعة التليفون ، يحدق فيها ويضعها ، حدث هذا أكثر من مرة وكأنه يرغب فى التأكد من شىء ما . "بدا الخوف نابضا فوق ملامح وجه "عائد" وحركته المشدودة إلى كل أرجاء البيت لم أكن بحاجة لأن أستعطفه أن يهدأ ويرتد عن مخاوفه وكوابيسه هذه مكتفيا بإلقاء الورقة فى سلة قمامتنا أو قمامة الشارع ، وليختتم هذا العرض الكابوس من مهزلة قاتمة" ( ). عائد – عبر تعامله مع أشياء المكان وخاصة صورة السيد الرئيس – يعد نموذجا لثقافة شعب بأكمله ، شعب يخاف الأشياء قدر خوفه من أصحابها ، وتبدو أدوات العصر كائنة فى بيته لا لاستخدامه لها ولكن لاستخدام الآخرين . فالتليفون يبدو وجوده – كما يراه عائد – وسيلة للتجسس عليه لا لاتصاله أو تواصله بالآخرين . لقد حركت صورة السيد الرئيس الصيغة السردية، واستنهضت الأشياء للظهور والفاعلية (الباب – النافذة – سماعة التليفون – سلة القمامة – أعواد الكبريت – النار – الرماد) ولم يعد البشر فقط هم الذين يدورون فى فلك الشئ / الصورة وإنما أصبحت الأشياء أيضا يمكن تفسيرها أو استكشاف فاعليتها عبر التصور الجديد . وفى "شطح المدينة" يقدم السارد وجها آخر لضمير الغائب يتفق مع رؤية أشجان المصرية فى دخول الشخصية لعالم مغاير لعالمها وما تعودت عليه ، المروي عنه هنا رجل جاء إلى مدينة يمعن السارد فى إخفاء ملامحها المفضية إلى ربطها بمدينة فى الواقع المتعين " ( ) . والرؤية تتحقق عبر منظور الزائر الذي يستقى معلوماته عن الأشياء من مصادر شتى ولأنه ليس عائدا أو مقيما ( ) تتكشف دهشته الواضحة وانبهاره بما يرى : "إنها البدايات، يشبه الوصول إلى أرض لم يطأها بولوج العالم الحسى لامرأة مبهر اكتشاف دقائق الخصائص الصغرى فى المرة الأولى كل منهن عالم، منظومة بمفردها" ( ) . ومن منظور الزائر تتعدد العبارات الدالة على اللجوء لمصادر المعرفة بغية استكمال صورة العالم وجغرافيته، ومنها اللجوء لأشياء قادرة على استكمال هذه المعرفة : ترددت شائعات ص13 . يبدو أن ص15. هنا تشير كتب الاجتماع ص15. يؤكد العارفون ص 17 . حدثنى أقدم العمار ص28 . وتلعب الأشياء دورها فى استثارة المعرفة لدى الزائد الذي يقرأ المدينة وتاريخها وطبيعتها العلمية والثقافية والاجتماعية عبر أشيائها فيعقد فصولا كاملة لوصف : المقهى وصاحبه ص26 . الأزياء ص35 . البرج ص54 . البوابات السبع ص65 . بنايات ص76 . البناية وما شابهها ص79 . متاهة ص 89 . والخيوط التى تمدها هذه الأشياء تمنح النص طبيعته ، وتمثل مفاتيح قراءته ، والقارئ يأخذ وضعية الزائر وهو يتابع اكتشافاته للأشياء وحكاياتها ، فقد نجح السارد فى تحويل المتلقى من متابعة أشياء الرواية إلى الغوص فى رواية الأشياء وحكاياتها . وتتسع دائرة وظائف ضمير الغائب فى رؤيته للأشياء ، فالنصوص الروائية العربية فى معظمها تتعامل مع هذا الضمير إذ هو أبسط الصيغ الأساسية للرواية على حد تعبير بوتور ( ) وهو يتيح للسارد استكشاف المساحات الأوسع من التفاصيل لدرجة الاستقصاء أحيانا . النوع الثالث : الرؤية المساحية للأشياء (ضمير المخاطب) . لأن الخطاب يحيل إلى لحظة آنية ، لحظة يحاور فيها شخص نفسه طارحا همومه وأشجانه ومرئياته أيضا ، واعتمادا على معرفة متبادلة أو تعاهد بين شخصين متخيلين يعيشان لحظة واحدة ويريان الأشياء فى اللحظة نفسها، ويدركان طبيعتها ،وما توصف به وفى أحيان كثيرة يكون الإدراك كافيا فلا تذكر أشياء اعتمدا فيها على إدراكها الذى يغنى عن ذكرها . وما يذكر يكتفى فيه بالحد الأدنى من الصفات ، ويختلف موقع الرؤية ليطرح نظرة مغايرة ، فيتوحد الرائى بالأشياء لأنه قادر على التحاور معها ، أو محاورته نفسه عنها . " كل شىء حولك ، يشف عنك ، يكشفك ، حتى حنفية المياه لا تأمن لها ، نحاسها المجنزر تراه قارا على أن يشى بك ، يصبح أنك هنا واقف تكاد تكتم أنفاسك . باب دروة المياه مغلق ، لكنك تشاهده وهى تفتحه ، وتنظر لأسفلك نظرة عابرة أو محترمة وتشعر بازرار بنطلونك مفتوحة وبلباسك يتجعد بما يمتد . الباب مغلق ، وأنت تسمع صوتها ينادى الصول فلا تسمع سوى مناداتها باسمك" ( ) لا يتوقف السارد عند وصف الأشياء وإنما يكتفى بالحد الأدنى من الصفات ، الصفات النحوية أو ذات الصغية الخبرية : نحاسها المجنزر – باب مغلق – أزرار مفتوحة . ولا يحتاج السارد لإيقاف الزمن، واصفا الأشياء بصفات إخبارية مفصحة ، يفعل ذلك اعتمادا على اللحظة الآتية التى يقارب فيها الأشياء . فالمتلقى يشاركه اللحظة ولا يضعه السارد فى موضع البعيد زمانا أو مكانا مما يجعله قادرا على إدراك الأشياء فى لحظة بروزها وقيامها بدورها ، لذا يلجأ السارد إلى الاعتماد على المدرك البصرى فيرسم التصريح : تصريح بالغياب الوحدة / الدرجة / الاسم / يصرح للمذكور بالغياب من سعت يوم / / إلى سعت يوم / / القائد والتصريح بدوره يتحول إلى لحظة حاضرة متجددة بالإدراك ، فكلما قربها المتلقى وجدها حاضرة بحضور القوة المدركة لها . السارد هنا ليس متعاليا ولا يفرض رؤيته للأشياء على متلقيه وإنما يعادل بين ما هو موجود وما يجب أن يدرك ، يجعل من نفسه شيئا من الأشياء ، يقدم نفسه فى الوقت الذي تقدم فيه نفسها فلا يميز نفسه بمعرفة شئ ينفرد به . ثانيا : عامل الزمن : تتأثر عملية الرؤية بالعامل الزمنى للسارد أو من تقدم الأشياء من زاوية رؤيته ، ونعنى بالزمن خبرة الإنسان بالأشياء عبر مراحل عمره ، فالنص قد يقدم من وجهة نظر طفل أو شيخ، وعندها لابد أن تختلف زاوية الرؤية وتتأثر صورة الأشياء بهذه الزاوية . يجسم المنظور الطفولى الأشياء ويضخمها ويمنحها من الصفات ما لا يكون مطابقا لواقعها ، متأثرا فى ذلك بمعرفة مستمدة من الآخرين . وهو يرى الأشياء بصورة مستقبلية تمثل حلمه بالقوة أو ما يجب أن يكون عليه مستقبلا : فى "الأرض" لعبد الرحمن الشرقاوى يعتمد الروائى على منظور الطفل الذي يرى عصا عبد الهادى علاقة على قوة قادرة أن تتحدى الحكومة : "همس أحد الأولاد لجاره : - شوف شعرة الأسد اللى فى صدر عبد الهادى .. بيدعك الشعرة اللى من الأسد. - وأجابه زميله همسا : - دا شرانى خالص .. بص له بص كده يا نهار أسوح . العفاريت بتنط قدامه .. دا بعون الله يا بنى يضرب الهندزة كلها .. يسوقهم بالعصا" ( ) - وتظل عصا عبد الهادى مسيطرة على رؤية السارد فيصبح عنصرا من العناصر الملازمة لعبد الهادى كملابسه تماما. "كان يلبس جلبابا فضفاضا من الكشمير الكحلى ، ويمسك بيده الشمروخ الطويل ذا الشهرة الواسعة بين هواة لعب العصا فى قريتنا والقرى المجاورة" ( ) . وتصبح العصا طقسا من طقوسه وحركة ملازمة تمثل افتتاحية للفعل . - "وأمسك بعصاه ، وهزها فى الفضاء ، ثم أمسك بذقنه وتسمر ساعديه ووضع العصا على كتفيه ، وأسند إليها مؤخرة رأسه ، وأرخى عليها يديه ، ودخل حقل البطيخ" ( ). - وضرب عبد الهادى الأرض بعصاه واقتحم الطريق ، وتحرك الأفندى وزميله ، وعبد الهادى يمشى مسرعا إلى القرية وعصاه تشق صمت الظلام" ( ) . لقد أسبغ منظور السارد على العصا كل مظاهر القوة وجعل عبد الهادى أداة لتحريكها فأفضى كل منهما للآخر : عبد الهادى يضيف لعصاه والعصا بدورها تمثل علامة مشيرة إلى صاحبها . وفى تفاح المجانين يأخذ السارد المنظور الطفولى ذاته ، ذلك المنظور الذي يعمل على تضخيم الأشياء ، ويضرب بالقوة كل ما هو مستقر فتبدو الأشياء خاضعة لمنطق القوة هذا : "وقف بالساحة وقام بألعاب خارقة ، كسروا صخرة فوق بطنه ، ونام على سرير من المسامير ، وجذب بلحيته الحبل فشد السيارة إلى الخلف ثم ابتلع مالا حصر له من المسامير والشفرات" ( ) . لقد استقطب السارد الأشياء ليضعها فى مواجهة الإنسان ، متحدية إياه إظهار قوته وبالرؤية نفسها يطرح وعى الصغير تفاح المجانين الذي يمثل استحضارا للمستقبل : "تفاحة واحدة تجعل منك رجلا .. رجلا يعرف كيف يثأر لكبريائه وكرامته . وغير بعيد كانت الأشجار الحمراء الوحشية تصهل وتزأر وتنفجر ثم تعيد تكوين نفسها" ( ) . ولا تقف التحذيرات السابقة حائلا دون تجربة التفاح ما دام قادرا على أن يختصر الزمن ، وتتغلب ممكنات الوعى وأحلام القوة على كل المحظورات : "كانت تبدو شهية .. طافحة ، تقدم نفسها بشراهة . فأكلتها ،أكلتها دفعة واحدة . وفى الحال تحولت إلى جمرة ، ناولنى ثانية ، وثالثة فصرت سفودا أحمر يقترب من درجة الذوبان .. ثم أحسست أننى أتحول من ماء إلى بخار . ومن حولى كان البرقوق يتحول إلى عيون أبقار .. وكان ثبات عرف الديك الذي يتوج رأس تلك الطيور الصلفة ينبت على كتفى وعلى رءوس أصابعى" ( ) . لقد حدث التحول ، ولكنه تحول على مستوى الداخل (الوعى) لا الخارج ، لقد أثرى الخيال بالمعرفة المدركة عن التفاحة فشوهد الواقع من زاوية جديدة ، زاوية حالة التحول الذي يرى السارد نفسه فيه : - ها قد أصبحت قويا .. قال بدر العنكبوت ، وبعدها ، دحرجنا بعض الحجارة الكبيرة من القمة إلى سفح الوادى ثم تصارعنا ، فأوقعته أرضا وقررنا الانتظار حتى المساء لنبدأ الهجوم على الشاويش حسن" ( ) . ومن أعلن القوة وقع أرضا فدلل على زيف الإعلان ومن شعر بالقوة انتظر الظلام للهجوم ، فالقوة مزيفة ، والرواية إذ تعمد إلى هذه الرموز / العناصر (الطفل – التفاح) تحسن توظيفها رامزة إلى منطق زمنى واضع المعالم ، فالكبار لا يثورون بالقدر الذي يثور به هؤلاء الصغار وفى الوقت نفسه يستثمر رمز الطفل للإحالة إلى طفولة من هم فى وضع المحتل ، حيث يحققون بطولة مزيفة لا تعتمد على قوة حقيقية ، على سلاح قادر على مجابهة العدو يمثل أسلحته، والخال الذي يفتقد البندقية عمليا يلجأ إلى طرحها نظريا على وعى الأطفال محققا شيئا فى نفسه ومدعما الوعى الطفولى بمداعبة خيالهم بوصفه الوسيلة الوحيدة – أو تكاد – للمعرفة : "أمسك الخال بقلم الرصاص وأخذ يرسم البندقية: رسم فوهتها.. رسم الماسورة.. رسم القبضة.. رسم كتلة الترباس.. رسم الأخمص.. رسم النابض.. رسم الزناد.. رسم الفرح والدهشة والانبهار.. رسم الفضاء.. رسم المسافات الشاسعة.. رسم الرمال وقطرات المطر" ( ) . تحول الرسم إلى نص أدركه المتلقى ( المهيأ لتأويله) حال تلقيه، فالأشياء فى تسللها إلى الخيال الطفولى انتقلت من حيزها المادى إلى حيزها المعنوى ، وعوضت الصورة فقدان المادة ، وقد نجح الروائى فى بث دلالة الأشياء ، فاللجوء للتفاحة – مع ما يطرحه من مرجعية تتناص مع ما يحمله التراث العربى عنها وعلاقتها بالإنسان وخروجه من الجنة – كان وسيلة العاجز المقهور الذي يصر على ألا يستفيد من قوانين الواقع ومنطقه ، فالعدو : القريب الشاويش حسن ، والبعيد الممثل يمتلك كلاهما سلاحا أقوى بكثير من سلاح التفاحة المانحة القوة المزيفة، والمجتمع أو الجماعة البشرية غير المدركة متطلبات واقعها هى كالطفل فى وعيه حين يتخذ من الحمار قدوة ، وقد أكل الحمار التفاحة فصار مجنونا، و لم يتعظ مما أصاب الحمار فجعله أداة للتدمير لا للحصول على الحرية أو الفوز بما هو إيجابى . وقد أحسن الروائى فى تحريك الأشياء متكئا على رؤية الطفل أو الوعى الطفولى، فالحمار فى ثورته لم يخلص الحارة أو أهلها من سطوة المحتل ولا انتقم من الشاويش حسن، وإنما خرب ودمر ما يعتمد عليه الناس فى معيشتهم من أشياء لا يحصلون عليها بسهولة : "داهم فى البداية حقل البطيخ مدحرجا كسرات البطيخ ، شاجا رؤوسها ، مسيلا دمها الأحمر" . وبعد حقل البطيخ ، داهم بيوت النور ، رافسا من اقترب منه قاطعا حبال الخيام ، قالب الجرار والغرابيل وأقفاص الطيور . دب الذعر ، فهرب الرجال ذوو الشوارب المعقوفة والنساء ذوات الأثواب المزركشة والأطفال العراة . وصل محطة البنزين …" ( ) . ويمكننا – تبعا لهذه الزاوية – أن نتوقف عند زاوية زمنية أخرى تتمثل فى السارد شابا أو على أعتاب مرحلة الشباب، فالروائى يستثمر هذه المرحلة فيجعل العالم يتحرك تحت وعيها وبتأثير من خبراتها . فى "أيام الإنسان السبعة" تتفتح حواس عبد العزيز على العالم فلا ينشغل وعيه بأشياء طرحتها كثيرا رؤية الفلاح التى كانت غالبا تهتم بالغرائبى والخرافى فتظهر العفاريت والأشباح فى ظلام القرية أو فى الأماكن الخلاء والمهجورة نهارا ، وإنما تسيطر على عبد العزيز روح الحب والتفتح للعالم لذا يأتى منظوره لعالمه رائقا صافيا رغم تعاسة أهل الريف والأشياء تعمل على إحداث الاستدعاءات التى يشعر المتلقى إزاءها بأن العالم يتحرك حركة سهلة ميسورة لا صعوبة فيها ، تسيطر على حركته روحانية عالية . من هذا المنطلق لا يقف عبد العزيز الشاب عند الأشياء فى ذاتها، لها حضورها المجرد فى العالم وإنما هى أشياء تستدعى حكايات وأشخاصا وواقعا حيا ، وهو عندما يدرك العالم يرى الأشياء علامات تحافظ على القيم والأعراف التى تستقر فى عالمه . فالأريكة علامة على مكانة صاحبها ولو غاب عنها ( ). وحضور الحصير مطروحا على الوعى يجعل الحكاية تنساب كاشفة عن قصة الشيء / الحصير : - افرش الحصر يا بنى . - حاضر يا عم الحاج . وتفرش الحصير البيضاء الناصعة على أرض الصالة المبلطة ، شمعية البياض هذه الحصر ، تقسم صفاءها أحجبة ومربعات ملونة بالأحمر والأخضر ، حصر جميلة ضعها الرجل الصالح سيد من محلة منوف …" ( ). ويروح السارد طارحا حكاية الرجل الصالح سيد ، مما يجعلنا ندرك الإنسان وقد أفضى إليه الشىء أو جاء فى سياق الأشياء ،وعبد العزيز المقبل على الحياة لا يرى فى الحصير إلا ألوانا زاهية صافية ، جميلة ، بيضاء تمثل انعكاسا لهذه النفس الصافية البكر التى لم تتلوث بعد ، والحصر تفتح مكان الحكاية أمام المتلقى فلا يظل خياله حبيسا لمكان الحكى ، وإنما يأتى الاستدعاء لصانع الحصر بوصفه انطلاقا يفتح مكانا جديدا ، ويطرح حركة محركة للخيال كما يصور صانع الحصر بالسندباد البرى الذي تحركه أحماله : "إذا ما أعجبته تحفة من الحصير ، مصلى أو مفرش دكة طواها وحملها على خاصرته – على طريقة أهل مهنته – وجاء بها من قريته إلى الحاج كريم ، طريق طويل ، يقطعه مارا بالناس والحقول والقرى تؤنسه التراتيل والتسابيح ، يقرئ الناس السلام حتى العيال الذين يلعبون بالتراب .. وحينما يصل ويضع حمله يجلس صغيرا ساكنا كحمامة لا يصدر منه إلا صوت حسوات القهوة من الفنجان المزركش الكبير ثم ينهض منصرفا ويعترض الحاج كريم : - ريقنا ما اتبل من لقاك يا شيخ سيد . - إرادة ربنا . - لقمة .. - ما فيش نصيب" ( ) . ليكن الشيخ سيد متحركا بفعل الحب للحاج كريم ولكنه فى كل مرة يسعى للوسيلة "الحصير" الأجمل ليتقرب به إلى محبوبه ، فإذا لم توجد التحفة غاب الشيخ سيد الذي يأخذ بعده الجسمانى من عمله وعبد العزيز يدرك ذلك : "بيديه خشونة وصلابة غريبة كأنهما أظلاف ، ربما ذلك من كثرة ما تدكان السمار على الخيطان فى مهنة الحصير" ( ) . ولم يتوقف الأمر عند ملاحظة اليدين وإنما يتعداه إلى ما يحرك أفكار عبد العزيز ويطرح عليه ما يجعله يتساءل : "ترى هل تكمن إرادة الله فى صلابة اليد الغريبة" ( ) وهو تساؤل الوعى الذي لم يختبر الحياة بعد، و تحركه الأشياء للتساؤل دون أن يدرك شيئا من كنه العالم الذي يعايشه . ثالثا:العامل الاجتماعى يتيح الوضع الإنسانى للفرد فى مجتمعه أن يتعامل مع أشياء دون غيرها، وتتحول الأشياء لديه إلى : متاح، وممكن، ومستحيل بعيد المنال ، ويحسب سعادته أو شقاءه أو حرمانه فى الحياة بمقياس اقترابه من الأشياء ، أو امتلاكه لها ، وما يحرك رجل المدينة من أشياء يختلف عما يحرك رجل القرية ، ومن هم فى أدنى السلم الاجتماعى يتعاملون مع أشياء تكشف عن طبائعهم ووسطهم الاجتماعى خلافا لما يبدو عليه الأمر عند من هم فى أعلى السلم ، والسجين لا يرى الأشياء كما يراها من يعيش حراً تنبسط أمامه مفردات الحياة جميعها بأشيائها المتنوعة ، المتعددة . وحين تتحرك الأشياء من منظور السجين يصبح الداخل واقعا مرفوضا والخارج واقعا مسعيا إليه ويختلف النطاق الوظيفى للأشياء إذ ما هو فى الخارج اختيار قد يتحول إلى العكس خلف الأسوار . الشطرنج فى "المستنقعات الضوئية" لإسماعيل فهد إسماعيل يقوم بدور المستهلك للوقت أولا ، وقت لابد أن يمر – مع ثقل مروره – ولكنه محكوم بنظام إجبارى، كما يمثل الشطرنج علامة الصراع الذي يعيشه "حميدة" فى السجن وبالقدر نفسه خارجه ثانيا . داخل السجن يدور الصراع بين العقول المدبرة ، بين الصياد والفريسة التى وقعت فى شباكه ، كيف يحافظ السجان على مسجونيه؟ ، وكيف يمر الوقت على المسجونين بأقل الخسائر النفسية والمعنوية أو كيف يحاولون التخلص من سطوة السجان؟ وهذا ما يتكشف من خلال الصراع النفسى بين السجان ومدير السجن عبر رقعة الشطرنج. "وكان المدير ينشغل بتحريك إحدى قطع الشطرنج - حميدة بينما راح شريكه فى اللعب يعقد حاجبيه مفكرا: اللعين يجيد اللعب وضع وزيره فى المكان المناسب بعد حركتين سيقضى على ملك المدير ، والمدير …" ( ) ولكن وظيفة الشطرنج لا تتوقف عن ذلك الحد ، فهناك وظيفتان تكمنان فى العمق: 1- التعبير عن الصراع بين الزوج (حميدة) وصديقه المخلص فهما يجيدان اللعب دون زوجته . "صديقى المخلص يقضى معظم وقته معنا. هو وأنا نجيد فى لعب الشطرنج، حاولت أنا وكذلك هو.. لكننا فشلنا، ولم تتعلم هى لعب الشطرنج. كانت تقول: - أكره لعب الشطرنج، هو يسبب لى الصداع " ( ) ولكن قوانين اللعبة، الصراع أصبحت فى يد الصديق المخلص المتمتع بحريته وبزوجة صديقه (السجين) مما يجعله (السجين) غير قادر على استثمار إجادته السابقة للعب فقد أصبح الشطرنج علامة على ماض لا يستطيع أن يتخلص من سطوته، إذ يكون حضوره قرينا الشطرنج الذي يمثل – إضافة إلى ما سبق – علامة على الزوجة وحبه لها ، فقد أهمل اللعبة لأنها صرحت بكراهيتها لها . "ثم هناك رقعة الشطرنج ، وذلك الماضى الموغل فى الذاكرة .... الأصدقاء والتحدى - أنا أكره الشطرنج .. هو يسبب لى الصداع" ( ) . 2- ثم تأتى الوظيفة الكبرى (الأعمق ) للشطرنج ، والمعتمدة على تكرار ظهور رقعة الشطرنج – تصريحا أو إيحاء – الذى يتوازى مع ظهور المستنقعات الضوئية ، والأمر بداية يتوقف عند الصورة المتخيلة لكل منهما ، فالشبه كائن بين الشبكة الضوئية المكونة من لونين الأبيض (الضوء) والأسود (الظلام) ، ولونى الرقعة (الأسود والأبيض ) ، وإذا كان الصراع على رقعة الشطرنج صراعا كليا أطرافه الجميع وهو يبدو صراعا تغلب عليه المادية (وجود الذات المضاد لوجود الآخر) فإن الصراع الذي تمثله المستنقعات الضوئية يمثل صراعا كونيا لازما للبشر جميعهم على اختلاف مشاربهم ، صراع الحرية أو الحصول عليها حين افتقادها ، وفى الوقت نفسه كانت المستنقعات علامة على ما أصاب نفس حميدة من ثقوب تشبه تماما المستنقعات فى ثقوبها بفعل الخارج المضىء ( وما حدث لحميدة كان كذلك بفعل هذا الخارج الذي لم يكن موضوعيا حين زج به فى السجن) ، وهو إذ يراقب المستنقعات يراقب نفسه/ داخله، ويستشف المتابع لحضور المستنقعات ما يمكنه من تأكيد ذلك ، فحضورها يتكرر حسب رؤية حميدة ثلاث مرات تمثل فى كل مرة كشفا جديدا حسب سياقها المختلف : (1) حميدة ينشغل عن أحداث السجن بالمستنقعات : "لكن حميدة لم يعلق بشيء ، عيناه تتابعان الكوى الصغيرة التى صدته ، لكن النور بالرغم من صغر الكوى ووجود القضبان ينفذ إلى الرواق . ويسقط على الأرض المعتمة ليرسم مستنقعات ضوئية" ( ) ولا يفوتنا هنا ما يمنحه السارد (السجين) من وصف للكوى ، فهو لم يفعل ذلك عند ذكره لرقعة الشطرنج التى يعتمد فى تصور المتلقى لها على كونها مدركة خارجيا ، توجد فى خارج يعيشه المتلقى ، ولكن المستنقعات ليست حاضرة هناك فى الخارج لذا يأتى وصفها ترسيخا وتقوية لحضورها ، يضاف لهذا السياق مجموعة الملامح التى تعبر بدورها عن وظائف فى حد ذاتها (كوى صغيرة – جدار مرتفع – قضبان حديدية صدئة – الأرض المعتمة) ، فالمفردات قادرة على بث معنى السجن ومخالفة واقعة الظلم لواقع الخارج المضىء . ويأتى الاستدراك (لكن) كاشفا عن روح التحدى لهذا النور الذي يتشبث به السجين ويستمد منه القدرة على مواجهة الداخل البارد المعتم ، والسارد فى المرة الأولى يعبر عن المستنقعات باللفظ النكرة إذ هى غير محددة الدلالة بالنسبة له ، أو بالنسبة للمتلقى الذي يعد تنكيرها علامة على جهله بها بداية ، خلافا للمرة الثانية التى يصبح هناك التقاء فكرى من نوع ما بين السجين ومتابعه فتتحول المستنقعات إلى منطقة المعرفة العهدية بين الاثنين . (2) حميدة يستعد للخروج مع المدير : يغامر المدير بأن يقترح على السجين أن يخرج لمشاهدة فيلم زوربا الذي يرى أنه يشبه حميدة : "واحتواه الرواق الطويل المعتم . وبلا وعى منه راحت عيناه تتابعان المستنقعات الضوئية التى يرسمها النور القادم من كوى فى أعلى الجدار . هى تضفى على الظلام وحشة محببة" ( ) بدت الظلمة محببة لأنها صارت مؤقتة ، مؤهلة لملاقاة المنبع (النور) الممثل للحرية ، بالقوة – حسب ثقته فى المدير – أصبح حميدة فى الخارج لذا كان عليه – بلا وعى منه – أن يتابع داخله ، يستكشف وقع التجربة عليه، ومدى استيعابه لها وهو السجين الذي قضى سنوات سبعة لم ير فيها نور الحرية وتراوده كوابيسها ، ومع اقتراب الموعد يزداد التصاقه بالداخل ، داخل نفسه وإحساسه بأن الخارج أصبح لا قيمة له بفقده حريته وزوجته لذا لم تعد أضواء المصابيح أو أضواء الداخل بقادرة على أن ترسم هذه المستنقعات . (3) حميدة يستكشف داخله المظلم : "الرواق طويل ، النور الباهت الذي ترسله المصابيح القذرة المعلقة فى السقف لا يكاد يبدد وحشة الظلام ، ولا يرسم مستنقعات ضوئية على الأرض" ( ) فقد أظلم الداخل لأن قرار الخروج كان مباغتا، وحميدة يعلم أنه مؤقت مما يجعله يشعر أنه يوضع بين شقى الرحى ، فهو لا يريد الخروج لأن زوجته( رمز الخصوبة والحب ووجه الحياة الآأخر لديه ) قد افتقدها، وفى الوقت نفسه لا يحب البقاء فى سجنه ،ولا يريد أن يقابل إحسان المدير بالإساءة إن هو فكر فى الهرب ، وفى الوقت الذي أظلم فيه الداخل كانت "الأنوار ساطعة فى الخارج والحرية كان بالإمكان أن تكون ساطعة لو أنها … لعلها الآن …." ( ) . فقد تم القضاء على حميدة بوصفه إنسانا ، مستسلما، فاقدا الحافز لحياة فقد معناها . لقد بسطت رؤية السجين عالم الأشياء وتشكلت جغرافية العالم ولا يتوقف الأمر عند الشطرنج والمستنقعات ، إذ يمكن للمتلقى تتبع الكثير من مفردات الأشياء ،مفردات الخارج المستدعى والمرتبط بالحادثة الذي راح حميدة ضحية لها ، وقد استراح أطرافها بالموت وظل حميدة باقيا شاهدا على العذاب الإنسانى ، ومؤهلا لأن يشير تلميحا إلى الخيوط التى تنسج حوله وهو المثقف الذي يسعى لإصلاح الكون حسبما يتيح له وعيه بنفسه وبعالمه وبقدراته الكامنة . من مفردات الخارج : المسدس ، الخنجر ، فى مقابل المعول فى الداخل، الأول وسيلة للقتل ويمثل مع الخنجر سببا لدخول حميدة السجن ، ماذا كانت النتيجة لو لم يعمل المسدس أو الخنجر؟. هل كان للمعول حضور وهل كان للنص أن يكون أيضا ؟ .لقد انبنى النص على حضور الأشياء التى تحركت عندما أحس أصحابها أنهم قادرون على تغيير العالم أو تغيير حالة الأخت العاهرة بوسيلة ربما لم يكونوا على دراية بما ستجلبه على غيرهم ، من هنا كانت حركة أشياء الخارج مؤدية إلى حركة أشياء الداخل بل ومستحضرة وجودها . والمعول عندما يهوى على الأرض الصلبة فإنما يحاول تحطيم قسوة الحياة التى تتكشف اولى ملامحها عند افتقاد الحرية . - "أهوى بالمعول على الأرض الصلبة" . أشغال شاقة ، كلهم أشغال شاقة ، إلا أنت ، أشغال شاقة مؤبدة . أنا وارث هذا السجن ، جدى حمورابى أورثه لأبى هارون الرشيد ، وأبى هولاكو أورثه لى …" ( ) . - "أن تنخدع لسنة ، فذلك أمر محتمل واقتلع المعول من الأرض أما أن تنخدع العمر كله … ثم أهوى به ثانية" ( ) ورغم طلب السجان من حميدة أن يستريح : "عاد وانحنى ثانية على المعول" ( ) فقد باتت راحة حميدة الحقيقية فى أن يتخلص من قسوة الصخور بوصفها المعادل أو الرمز لقسوة الحياة والآخرين ؛ لذا لا يأبه بنصيحة السجان ويروح ينصت لعمل المعول الذي يفتت الصخور ولكنه فى الحقيقة يفتت الأشياء التى يرى حميدة أنها تستحق أن تختفى من العالم ، وهى ليست أشياء مادية فحسب وإنما هى أيضا أفكار يحلم بتخليص العالم منها وعندما يحل موعد الراحة لا يخلع المعول من الأرض ، فهو يعول على فعله الدائم ودوره الذي يحتاج إلى مجهود كبير ليصل إلى ما يطمح إليه : "أعلنت صفارة السجن عن بدء فترة الراحة . المساجين يهرعون ضمن مجموعات صغيرة نحو أقرب ظل ، حميدة يترك معوله منغرسا فى الأرض " ( ) . ثالثا:عامل المكان : عندما يقارب الروائى مساحة تمثل فضاء نصه فإن تشكيل جغرافيتها تأتى موافقة لمجموعة من الطبائع : - طبيعة البشر : علاقاتهم – أعمالهم – ثقافتهم . - طبيعة العصر والبعد التاريخيى : فالنص الذي يستلهم فترة تاريخية يستدعى أشياءها كما يستدعى مفردات المكان الذي ننتقل إليه مع الروائى ، والنص الذي يتجه للمستقبل يصنع أشياءه المغايرة التى تبدو متخلصة من أو متطورة عن أشياء الحاضر أو الماضى أو مطورة أدوات الواقع خارج النص . - وتلعب طبيعة التقسيمات الجغرافية دورها الواضح فى أثر ظهور الأشياء ،حيث المكان أحياز أو دوائر لا متناهية تبدأ من التقسيمات الكبرى : - الماء – اليابسة . - الحضر – البادية . - القرية – المدينة . - المدينة – الصحراء . - الحى – الشارع . - الشارع – الحارة . - الأمكنة العامة – الأمكنة الخاصة . وتنتهى بالجسد بوصفه مكانا تلازمه أشياؤه الخاصة ، وكل من هذه المساحات والفضاءات له أثره فى : غياب أشياء وحضور أخرى . تعدد الأشياء (ازدحامها) أو تقلصها عدداً . طبيعة الأشياء ونوعيتها (حديثة – قديمة – خشبية – حديدية – ذهبية – قماشية – نباتية) . علاقة الإنسان بهذه الأشياء . مدى فاعليتها فى مكانها . قدرتها على تحريك المتلقى نحو تفعيلها ، وقدرتها من ثم على الحضور فى ذهنه أو حال تلقيه . تكرار أشياء بعينها تمثل طبيعة للمكان . ويمكن مقاربة هذه الأحياز لاستكشاف أشيائها عبر طريقتين : المقارنة بين مكانين لهما طبيعة واحدة : (قريتين – أو مدينتين تظهران عن ساردين مختلفين) ( ) . إدخال عامل الزمن بالمقارنة بين نصين سرديين فى زمنين مختلفين ( ). إن طرح الأشياء عبر زاوية رؤية الروائى ، وحسب منظوراته المتعددة التى تبدو عبر شخصياته تنتج نوعا من الفلسفة ، أو الرؤية الفلسفية للأشياء ، تبتعد حتى ترى الأشياء فى عمومها ، وتقترب حتى تراها فى خصوصيتها ، يقول محمد الراوى فى "تل القلزم " : قد نستسلم للأشياء فى أشكالها الظاهرية ، نأخذها كما نراها فى المرة الأولى أو المرة الألف ، ويعبرها البصر ، وقد يجوس البصر فيها ولكنه لا يغيرها ، إنما يألفها وتفاعل معها . وإذا كانت الأشياء ذات كيان وتاريخ قديم ، فإنها تستطيع بدورها أن تألف العين حال وجودها ، وتعطيها الكثير ، وتمتزج بها فى دورة العمر . العين تعاشر الأشياء أيضا ، وإذا استسلمت للمعاشرة فإنها تعانى باستمرار من ركود المعرفة فى الأشياء " ( ). والمقطع السابق يمثل صوت الروائى حيث يأتى فى الاستهلال سابقا كل الأصوات الممثلة للشخصيات والمعبرة عنها ، مما يجعله صوتا خالصا فى إحالته للروائى ، وكاشفا عن رؤيته الفلسفية للعالم . المبحث الثالث المستويات الوظيفية للأشياء من الصعوبة بمكان أن نحصى الوظائف المتعددة للأشياء خارج النص أو داخله ،إذ يصاحب عملية رصد العلاقة بين الإنسان وأشيائه قدر من التعقيد الذى قد لا تفسره نظريات علم النفس ، والعلاقة الروحية - أو شبه الروحية - الرابطة بين الشخصيتين : الأولى الحقيقية ( الإنسان ) ، والثانية الاعتبارية ( الأشياء ) لا تخضع لقانون واحد أو عدة قوانين محددة يمكن خلالها أن نفسر هذه العلاقة الموسومة بالتعقيد . إذا كانت الأشياء التى تبدو خاصة بصاحبها تفسر الكثير من طبيعته ودواخل نفسه فما تفسير الأشياء التى تخص المدن والقرى والتشكيلات العمرانية الأخرى؟. إن كثيراً منها يدل على ثقافة المدينة وحضارتها ، أو مدى تحضرها ، وفى الوقت الذى تحسب أشياء الفرد للعامل النفسى والحالة الاقتصادية ، فإن الأخير ( العامل الاقتصادى ) قد لا يكشف طبيعة المدن الاقتصادية تماما. لذا تبقى العلاقة خارج النص الأدبى غير مفسرة ، وغير دالة بالمعنى الدقيق خلافا للنص الأدبى الذى يكاد كل شىء فيه أن يكون دالا ( وذلك محكوم بقراءة واحدة) فما لا أعول عليه أنا فى التأويل يعول عليه غيرى ، والعكس صحيح لذا على المستوى الفردى أو على مستوى القراءة الواحدة يكاد كل شىء فى النص يكون دالا ، وعلى مستوى القراءات المتعددة فكل الأشياء دالة ومعبرة وقادرة على أن تكشف عن طبيعة ما ، أو حقيقة ما قد لا تظهرها إلا الأشياء فى نص تخييلى يعتمد صاحبه على أن ينتقى، ويختار، مناسبا ورابطا بين الأشياء ذاتها من ناحية وبين الأشياء والإنسان من ناحية أخرى ، ويكون حريصا على أن يختار الأداة المناسبة لتحريك حدث لا يتحرك إلا بها. إن المستوى الوظيفى للأشياء فى الرواية ينطلق من مرحلة الوجود الحقيقى ( مع الاختلاف الواضح بين وجود الشيء فى الواقع ثم تسربه وتشكله فى النص الروائى فإن الرواية الحديثة لا تخلق الأشياء وإنما توظف ما هو موجود وكائن ( باستثناء نوع واحد من الرواية ) ( ) والوجود الحقيقى هو ذلك الوجود الواقعى للأشياء ، الذى تسربت منه إلى النص شأنها شأن الكثير من العناصر الروائية ( الأشخاص – الأحداث – الأشياء ) السابق وجودها الواقعى على وجودها الروائى : " والكاتب يمثل حلقة الوصل بين الشئ والعلامة الدالة عليه كما يمثل حلقة الوصل بين اللغة والتعبير فيعمد إلى " المعجم " كى يختار ما يمكنه من بلورة تعبيره تحت دفع لا وعيه وخصائصه الذهنية وانتماءاته الاجتماعية " ( ) . الأشياء فى الواقع تبدو ساكنة ، تحاور الإنسان فى سكونها ، تغرى الروائى وقد تغرر به أحيانا لإدخالها عالم نصه الذى يضمن لها الخروج من هذا السكون لتصبح مفكراً فيها ناطقة بعد أن تدخل دائرة الاهتمام : " إن الأشياء فى هذا الكون الممتلئ بها تصبح بالنسبة للإنسان مجرد مرايا تعكس له صورته إلى مالا نهاية : إنها هادئة مستأنسة تنظر إلى الإنسان بنفس نظرته " ( ) . ولكنها لا تبقى على هذا الوضع عندما تدخل نطاق النص الذى تتدرج فيه عبر وظائف ثلاثة تشترك فى واحدة منها أو تتشابه مع وجودها الحقيقى وتختلف فى بقية الوظائف . وهى وظائف تبدأ من المستوى الحقيقى وتنتهى بالسحرى ، مروراً بالمجازى، ويقابلها ثلاث صور للأشياء توازى هذه المستويات : - الحقيقى ← المجازى ← السحرى . - سكون ← اهتزاز ← حركة . ( توازن ) ← ( كسر التوازن ) ← ( توازن جديد ) (1) المستوى الحقيقى وهو المستوى الذى يبدأ من الواقع المتعين حيث الأشياء تدل على ، وتشير إلى ، وتنتسب للإنسان مسببة له الكثير من المشكلات الصغرى والكبرى ومحققة له الشيء ونقيضه ، ورغم ذلك تكون نظرة الإنسان لها عادية ، فهى بالنسبة له مجرد أشياء تعد وسائل للحياة والحركة فى العالم ، وقد لا يشعر الإنسان بما هو كائن من صفات فى الأشياء وقادر على تحريكه أو توجيه انتباهه إلا فى حالات قليلة منها : 1- استخدام جديد لشيء كائن تحت نظره أو بين يديه ، فإذا ذهب لمكان آخر وجد الشيء نفسه يستخدم بصورة مغايرة فيتحرك اهتمامه به . 2- فقدانه الشيء الذى تعوده وألفه ،كأن يفقد أحدنا ساعته مثلا فتتحرك ذاكرته مستعيداً علاقته بها . 3- مباغتته بشيء جديد لم يره من قبل . وغيرها مما تتحرك له حاسة الإنسان لإدراك الأشياء واستكشاف علاقته بها . ويظل هذا المستوى الوظيفى منطبقا على الأشياء التى تسربت للرواية ، فالقارئ الذى لا يتوقف عند الأشياء ولا يثيره منها إلا الغريب لا تتحرك حواسه نحوها وقد لا يتوقف بالمرة عند هذا المشهد بأشيائه : " قادت خادم صغيرة ياسين إلى حجرة الاستقبال ثم انصرفت . كان يقوم بزيارة بيت المرحوم السيد محمد رضوان لأول مرة فى حياته ، وكانت الحجرة – على طراز بيت أبيه – واسعة الأركان ، مرتفعة السقف ، فيها مشربية ، تشرف على شارع بين القصرين ، ونافذتان تطلان على العطفة الجانبية التى يفتح عليها مدخل البيت ، وقد فرشت أرضها ببسط صغيرة ، واصطفت فى جوانبها الكنبات والمقاعد ، وأسدلت على الباب والمنافذ ستائر من مخمل رمادى باهت من القدم ، وعلى الجدار المواجه للباب علقت البسملة فى إطار أسود كبير ، بينما توسطت الجدار الأيمن – فوق الكنبة الرئيسية – صورة للمرحوم السيد محمد رضوان تمثله فى أوسط العمر . . " ( ). وقد لا يتوقف القارئ عند الوظائف التى تتبوأها الأشياء المتعددة التى يتشكل منها فضاء الحجرة ( السقف – المشربية – النافذتان – البسط الصغيرة – الكنبات – والمقاعد – الباب – المنافذ – الستائر المخملية – البسملة – الإطار – الصورة ) ولأنها أشياء فى وضع – يظنه القارئ – سكونيا لتشابهه مع الواقع ولا ينتبه لوظيفتين يمثلان الحد الأدنى للأشياء فى نطاق النص ، وهما يمثلان دوراً مزدوجا بعيداً وقبل استقصاء دلالات الأشياء : "ويؤدى الشئ دوراً مزدوجاً فى الرواية فهو يشير إلى حقيقة واقعية فى العالم الخارجى . . . . وهو من جانب آخر يحمل دلالة خاصة فى النص : إذ يجب أن يكون حاملاً لمعنى . فإن الأشياء قد تكون إشارية والفارق بين الرمز والإشارة أن الرمز أكثر كثافة ويرتبط بمجموعة من الدلالات المعقدة " ( ) . ولكن لأنها ليست القاعدة التى يمكن القياس عليها فإذا كان هذا المستوى ممثلا سكونية لم يتخلص فيها القارئ من منطق الواقع للدخول إلى منطق النص ( ) فإن المستوى الثانى قادر على نقل الشئ من الوظيفة الممثلة فى المستوى الحقيقى إلى الوظيفة المجازية مع الوضع فى الاعتبار أن كل انتقال للأشياء من الواقع للنص فهو نقلة من الحقيقة للمجاز . (2) المستوى المجازى إذا كان الشيء فى المستوى الحقيقى مقصوداً لهدف وضع له، ولغاية يستخدم لتحقيقها ، فإن المجاز فى استخدام الشيء ينقله من وظيفة الغرض الواحد إلى الأغراض المتعددة وكل انتقال للأشياء من الواقع للرواية هو فى الحقيقة نقلها من حيز الغرض الواحد إلى الأغراض الدلالية المنتجة للمعنى والمنشطة لقوى الدلالة لصالح الأشخاص ،أو الأحداث أو المكان ، أو الزمان ، وهى العناصر التقليدية فى النص السردى يضاف ما هو لصالح المتلقى بما يستطيع من قدرة على استنطاق الأشياء فى سياق الرواية ( )، وكم من أشياء بثها الروائيون ولم يتنبه لها القارئ مما أفقده الكثير من معالم النص ، " والرواية تبنى كحركة لهدف غير مرئى أيضا . فمؤلفها يظل يزاول البحث والقارئ يشاركه فى بحثه ، ويتنبأ ويتكهن وقلبه يعيش فى المستقبل " إنه يشبه رمى بسهم بدقة ولكنه يمكن أن يصيب أو يخطئ " ( ) وللمستوى المجازى عبر الرواية مظهران : المظهر الأول : مظهر حلول فى النص : إذ مجرد حلول الأشياء فى النص الروائى يتحقق لها قدر من المجاز،والأشياء التى يأتنس بها أمين فى رواية " ما يعرفه أمين " رغم بساطتها وشعور القارئ أنها لا تختلف عن الأشياء التى يمكن أن يراها فى أمكنة شبيهة ، رغم ذلك فإنها ليست هى أشياء الواقع بعد أن دخلت العالم الروائى الدال : " ردهة الشقة واسعة وتنفتح عليها غرفتان ، فى ركن منها الأنتريه الكبير وفى وسط الردهة تقريبا السفرة الدائرية وطقم الكراسى حولها وخلفها النيش الكلاسك . يأتى الضوء الضعيف ويرمى ظلاله على الباركيه الخشبى والأثاث الأنيق – من غرفة بابها المفتوح ومن تابلوه كهربائى فى الحائط ومن لمبة داخل نيش زجاج لامع . وهذا الضوء الأخير يجعل أكواب الكريستال وأباريق الخزف الصغيرة وتماثيل لبوذا وحوارييه فى جلستهم الهادئة المتربعة وابتسامتهم الراضية – مصقولة ولامعة ،اندفع أمين فى الردهة ناحية المطبخ وقبل أن يصل إليه انقلب على عقبيه عائداً إلى غرفة النوم بنفس الخفة والنشاط وكأنه تذكر شيئا أخذ مجلة الموعد التى غلافها الخارجى صورة لفنانة راحلة ثم وضعها على رصة المجلات بجوار الكومودينو . أشعل سيجارة من علبة مارلبورو أحمر . رفع قليلا صوت التليفزيون وأخذ نفسا عميقا من سيجارته وضحك . . .. ( ) يمتلئ فضاء الرواية بالأشياء التى تظهر مع حركة أمين فى المكان وهى حركة لا تكتفى باستكشاف الأشياء ، وإنما تظهر مدى استئناسها بها وإحساسه بعدم الوحدة معها ، وما لا يراه أمين ويتعامل معه لا ندركه نحن ، يقول الغيطانى : " عندما تنتفى الحاجة تختفى الأشياء من البصر حتى مع وجودها " ( ) ، ومن ثم لا نملك إلا أن نرى الأشياء بصورة مغايرة، وبداية المغايرة أن ندرك أن الأشياء ليست لمجرد امتلاء الفضاء المكانى أو شغل فراغه ، وإنما تخرج عن كونها أشياء أمين إلى أشياء مرئية من وجهة نظره تمثل رؤيته مع احتفاظها بحق دلالتها عليه ؛ ولأن المكان : " لا يظهر إلا من خلال وجهة نظر شخصية تعيش فيه أو تخترقه وليس لديه استقلال إزاء الشخص الذى يندرج فيه. وعلى مستوى السرد فإن المنظور الذى تتخذه الشخصية هو الذى يحدد أبعاد الفضاء الروائى ويرسم طبوغرافيته ويجعله يحقق دلالته الخاصة وتماسكه الأيديولوجى " ( ). وفى مظهر الحلول تبدو الأشياء فى سكونها أقرب للوصف منه للسرد ، فالوصف الذى يوقف زمن السرد يعطى الفرصة لإدراك فاعلية الأشياء ، وامتداد وجودها فى مساحة من فضاء المكان : " فالوصف أسلوب انشائى يتناول الأشياء فى مظهرها الحسى ويقدمها للعين ، فيمكن القول أنه لون من التصوير ولكن التصوير بمفهومه الضيق يخاطب العين أى النظر ويمثل الأشكال والألوان والظلال . . . . وقد اقترن الوصف منذ البداية بتناول الأشياء فى أحوالها وهيئاتها كما هى فى العالم الخارجى وتقديمها فى صور أمينة تعكس المشهد وتحرص كل الحرص على نقل المنظور الخارجى أدق نقل " ( ) و الأشياء تبدو ماثلة هناك تجابه الفراغ ، إلى أن تقضى عليه ، ثابتا فى الأمكنة التى نعرفها ، ونتحرك فيها أو متحركا كما نجده فى أمكنة التنقل البحرية ، والبرية ، والجوية (السفن ، و السيارات ، والطائرات ) ، تماما كما تشغل حيزا متحركا فى السفينة، مختلطة بالبشر مزاحمة لهم : " مسافرون من جميع السبل والرياح والأنحاء ، إناث وصغار ورجال ألوان شتى ، أزياء جمة ، والطاولات الرمادية الوطيئة ملأى لفافات ونظارات وأقلام حبر ورباطات عنق ومناديل ، صناديق كرطون صغيرة ملقاة هنا وهناك ، ذهب وفضه ورسائل ، صحف وقطع شكلاطة وبيتزة وعلب شطرنج ودومينو متفاوتة الأحجام ، سجائر وأكياس تبع ولوحات زيتية ومعلقات إشهار ، ومسبحة وغليون وصليب . حاملات مفاتيح وقوارير عطر وخمر ومربعات حلوى وحبوب ودواء ولادن وعلب كبريت ، كتب ومجلات وأزرار قمصان مذهبة وقفازان مخمليان ، وطلاء أظافر " ( ) لقد تدافعت الأشياء لتشغل حيز السفينة، قائمة بعدة أدوار من أهمها: الإشعار بامتزاج هذا العالم واختلاطه فى مساحة واحدة يبث السارد فيها من الأشياء ما يمثل عوالم شتى ، فالمدقق فى هذه الأشياء التى يكتفى برصدها فى لحظة يتوقف فيها السرد يتكشف له أن كل عنصر منها يشير إلى ثقافة أو بنية اجتماعية مغايرة ، تماما كالأخلاط البشرية التى تحملها السفينة . ويقوم الحشد الشيئى - بديلا عن السرد المتوقف- بتوسيع أفق خيال القارئ الذى ليس بإمكانه تخيل الأشياء متراكمة بعضها فوق بعض وإنما هى متجاورة تتيح للعين أن تدركها بشكل أفقى مسطح . إن المكان المستدعى إليه هذه الأشياء يشبه خيال متلقيها المستدعاة إليه ، إذ ما يتسع فى الحقيقة ليس المكان الواقعى، وإنما هو خيال المتلقى الذى تُبث هذه العلاقات ملتقطا إياها من عملية التخييل التى يصنعها المؤلف . إن دوراً سرديا تقوم به الأشياء فىهذه الرحلة ، فليس الوصف مجرد توشية لمشهد أو زخرفة للغة والكاتب إن أحسن التوقيت الذى يقدمه يعطى نصه تكاملا فنيا كبيرا وهذا ما فعله " بوجاه " الذى جعل تاج الدين فرحات يتحرك فى عالم من الأشياء التى اختزلت العالم بكل تفاصيله . المظهر الثانى : مظهر حلول وكسر التوازن ( المجاز الصريح ) . لا يتوقف حلول الأشياء فى النص عند مرحلة الوصف الساكنة والتى قد تجعلنا نتابع الأشياء . فى مجازيتها غير المباشرة ، غير المصرح بها وإنما تطرح الأشياء نفسها – فى مرحلة متقدمة – بوصفها أشخاصا تتحرك وتقوم بالفعل وتشارك الإنسان فاعليته ، إنها تنتقل من المرحلة السكونية إلى المرحلة المتحركة ، وعندما نقرأ : - الذين دهسهم القطار على مدى السنوات ( ) . - توقف القطار فى محطة أولاد إلياس ( ) . - كلما مر القطار ببلد ( ). - تهاتفت أشجار الزيتون فى السانية القبلية وفى السانية الظهرية واستجاب الوادى المنسكب خلف سميكاته القليلة اللزجات ....( ) . - قالت المشايات حتى باب البيت الكبير ، أن الأعرج سار خلف السيدة إلى الحمام . لهذا كان للحديقة سبق الرصد لتلك الأحداث ( ) . - جدران المنزل قررت ترك أماكنها بالهجرة والعودة إلى الأرض ( ) - تدارست البيوت وقررت أن ترسل رسائلها إلى أرض تلك البلاد البعيدة تسألها عن جثث أبنائها ( ) . - دفعت البيوت الطينية ردودها على كل الرسائل بإجابة واحدة الآن انتفضت الأرض ، تشققت قشرتها ( ) . إننا أمام أشياء تتحرك مانحة السرد قدراً أعلى من المجاز المتعدد الصريح ما بين الاستعارة والمجاز المرسل ، ولا يتوقف حلولها عند الوصف الساكن ، وهو مستوى يمكن متابعته بسهولة فى الرواية العربية التى تستثمر تقنيات المجاز فى التعبير إلى حد كبير ، وقد تعددت استشهاداتنا من رواية "نقيق الضفادع " لكونها تعتمد على هذه الصيغة بصورة واضحة تتفوق فيها على غيرها من النصوص إن قورنت بها . واستخدام الروائى لهذا المستوى ليس إظهاراً لغرام باللغة بقدر ما هو توظيف للأشياء فى الصورة فـ " نقيق الضفادع " بلغتها الجادة لا تطرح من خلال جملة : ( تدارست البيوت وقررت ) أو ( دفعت البيوت الطينية ) مجازا مرسلاً علاقته المحلية( ) (وإن كان ذلك قائما ) وإنما تطرح دلالة أعمق تتمثل فى أن البيوت لم يعد فيها من يفعل ما فعلته ، لقد سرى القهر بين هؤلاء فأصبحوا غير قادرين على الفعل الذى قامت به البيوت . و فى المستوى نفسه تتعدد فاعليات الأشياء مع تعدد صيغ طرحها عبر النصوص التى تسعى لاستثمار أعلى للأشياء يتجاوز مرحلة سكونها وإن كان دالا ، ويقف القطار بوصفه واحداً من الأشياء الأكثر فاعلية فى هذا الجانب ومتابعة نصوص مرتبطة ببيئة معينة يشير لفاعليته إلى حد كبير ( ) . إن نوعا من المجابهة واقع بين الإنسان والأشياء التى تنازعه دوره ، وتعمل فى أحيان كثيرة على سلبه هذا الدور بما تحمله من تاريخ وارتباط بالبشر عبر حياتهم ، لقد كان قنديل أم هاشم سابقا لوجود إسماعيل بوصفه متعلما يسعى لمجابهة الجهل والتخلف لذا لا يحد إسماعيل بداً من مجابهته بالقوة والسعى للتخلص من سطوته التى خرجت عن كونه جامداً . " هذا هو القنديل قد علق التراب بزجاجه واسودت سلسلته من ( هبابه ) . تفوح منه رائحة احتراق خانقة . أكثر ما ينبعث منه دخان لا بصيص ضوء . هذا الشعاع إعلان قائم للخرافة والجهل . يحوم فى سقف المقام خفاش اقشعر له بدنه . حول المقام أناس كالخشب المسندة ، وقفوا مشلولين متشبثين بالأسوار ، فيهم رجل يستجدى صاحبة المقام شيئا لم يفهمه إسماعيل ، وإنما وعى أنه يستعديها على خصم له ، ويسألها أن تخرب بيته وتيتم أطفاله . والتفت إسماعيل إلى ركن فى المقام فوجد الشيخ درديرى يناول رجلا معصوب الرأس بمنديل نسائى زجاجة صغيرة فى حرص وتستر ، كأنما هى بعض المهربات لم يملك إسماعيل نفسه . . فقد وعيه ، وشعر بطنين أجراس عديدة ، وزاغ بصره ، ثم شب ، وأهوى بعصاه على القنديل فحطمه وتناثر زجاجه ، وهو يصرخ : - أنا . . . أنا . . أنا " ( ) هل كان على إسماعيل أن يصمت إزاء هذا الالتفاف حول المصباح ؟ وهل كان محقا فيما فعل ؟ . لقد ظن إنه قضى على المصباح، ولكن المصباح غير وسيلة سيطرته وظهر بصورة مجازية عبر المؤمنين بقدراته ، ونال إسماعيل جزاء تطاوله على المصباح ذى القدرات المتوهمة . " ثم لم يستطع أن يتم جملته . ( من يدرى ماذا كان سيقول ؟ ) هجمت عليه الجموع وتهدمت قوته ، فخر على الأرض مغمى عليه . ضربوه ، وداسوه بالأقدام ، وجرح رأسه ، وسال الدم وجهه ومزقت ثيابه . علمنا بعد ذلك أنه أو شك على الموت تحت الأقدام " ( ) . هل أراد إسماعيل بقوله ( أنا . . أنا ) أن يجعل من ذاته ( بما يحمل من علم ) مجابها للمصباح الذى لم يسمح له أن يصرح بفلسفته الأنوية هذه ؟. وهل كان إسماعيل هو المتحرك بذاته أم يحركه العلم ( المعنوى ) الذى لم يستطع أن يقف فى وجه الجهل المادى ؟ . . تبدو الأشياء فى هذا المستوى محدثة كسرا فى التوازن الذى يعهده الإنسان عندما يتعامل مع الأشياء بوصفها أدوات لاستمراره حياته وتحسينها، فالأشياء الساكنة تأخذ فى الاهتزاز للخروج من سكونها تمهيدا لانطلاقها إلى وظائف تنفرد بها أو تشارك فيها الإنسان . 3- المستوى السحرى تتجاوز الأشياء وظيفتها الحقيقية بوصفها تشير إلى الإنسان وحضوره أو غيابه وكونها – فى مرحلة متقدمة – تمنح النص ( أو تساهم فى ) خلق الدلالة الكلية فيه . يتجاوز ذلك كله إلى وظيفة سحرية تمثل مرحلة يتجاوز فيها المجاز إلى ما بعده فلم يعد المجاز بصورته المعرفة قادراً على تفسيرها ، إذ لا تنطبق قواعده أو قوانينه على هذه الحالة السحرية : فى " هاتف المغيب " تتحرك أشياء الصحراء بوصفها كائنات أسطورية تمنحها الصحراء بعدها السحرى الواضح : " فى بلخ أخبروه عن شيخ وصل منذ أربعة شهور ، لزم الشجرة ، قديمة ، نادرة هائلة ، نادرة ، هائلة الأغصان ، غليظة الجذع جداً ، لابد من أربعين رجلا مفرودى الأيدى ، متشابكى الأصابع ليمكن الإحاطة به دائريا ثمارها مختلفة ، كل غصن يظهر نوعا ، منها ، يشبه السمسم ، وآخر فى حجم البطيخ . . . " ( ) . والضريح الوحيد : " الكل يسعى إليه ، المرأة عند زواجها لابد أن تأتى مع أقرب صاحباتها وتشرب أولا ، ثم تستحم عند مدخل الضريح ، ترتدى ملابسها وتدخل منفردة لتتلو الشهادتين . . . يؤكد أحمد بن عبد الله أنه رأى سحابة تظلل الضريح ، وينزل منها ما يشبه خيوط الحرير ، يصعد عليها شخص لم يتحقق من هويته ، وفور اكتماله طلوعه ارتفعت الغمامة ، ومضت بعيداً هذا ما عاينه بنفسه " ( ) ولا يكتمل عالم الأشياء باكتمال حركة لا تتوقف فى صحراء يعدها د . شاكر عبد الحميد داخلة فى جغرافيا الوهم العربية : " استفاد جمال الغيطانى . فى هاتف المغيب على نحو واضح من جغرافيا الوهم العربية كما تمثلت فى كتابات القزوينى وغيره من الرحالة والجغرافيين العرب ، لكنه خرج من حدود تلك النصوص التراثية إلى فضاء عملية الإبداع الأدبى فقدم هذا العمل الذى يمتزج فيه التاريخ بالجغرافيا ، والحاضر بالماضى ، والإبداع بالاتباع ، والإدراك بالأحلام بالأساطير ، والأصوات بالمشاهد بالملامس ، بالطعوم بالمذاقات ، الظاهر بالباطن ، الشرق بالغرب ، والمحدود بالمطلق " ( ) لقد تحول النص القديم إلى حافز ومؤثر وداخل فى تقنية " هاتف المغيب " فهو قبل الكتابة حافز دافع للإنتاج وأثناءها أدخل جغرافيا الوهم التى استفاد منها المؤلف فى بث أشياء خارجة عن منطق الواقع ، ومتجاوزة هذا المنطق ، والمزيج الذى أشار إليه د. شاكر عبد الحميد أو جد كل عنصر فيه أشياءه مما جعل النص ذا صيغة أسطورية واضحة تتحرك عبرها الأشياء حركتها السحرية المتجاوزة للمجاز نفسه ، وبعد الكتابة ظهر النص بوصفه شيئا سحريا منقلة من النصوص أو الأشياء التى تأثر بها . وفى " مسالك الأحبة " يطرح خيرى عبد الجواد صورة أخرى لسحرية الشئ ، فكتاب النيل الذى يعاين المتلقى تفاصيله وصفاته يقدم هذا المتخيل السحرى " يقول أحمد بن أباديس " ثم أننى تقدمت من الكتاب ومددت يدى انتزعه من مكانه وقلت تلك هى الغنيمة الكبرى التى من حازها ملك البلاد . والعباد ، لأنى أعلم أن هذه البلاد سر بقائها فى هذا النهر المبارك ، فهو ينبع من نهر فى الجنة ، فمددت يدى وقبضت عليه ، فلا أدرى إلا وشيئا خرج من الكتاب ولطشنى فى وجهى لطشة هججت صوابى وعقلى فوقعت مغشيا على ، ولم أعد أعرف هل أنا فى السماء أم فى الأرض مدة ساعة ، فلما أفقت وملكت صوابى أعدت المحاولة فحدث مثل وتكتمل علامات السحرية فى الكتاب بصدور صوت منه ، تمعن فى تأكيد سحريته وخروجه عن المألوف : " وحدثتنى نفسى الأمارة بالسوء بتكرار المحاولة ، فسمعت صوتا لا أدرى شخصه يأتى من ناحية الكتاب يقول : تأدب يا هذا واقنع بما وصلت إليه فلست أهلا له " ( ) هنا لا يمكننا اعتبار الكتاب مجازاً عن الإنسان ، فالصورة الممعنة فى السحرية تفرض فهما آخر يتجاوز رؤية الأشياء فى وضعها الساكن ، ويقف عند دورها الجديد المؤسس على عجائبيتها والمتكئ على مغادرتها ما تعورف عليه من منطق الحياة أو الواقع فى جانبه المرئى . والصوت الذى كان من الممكن أن يصدر غير مفهوم ولكن النص يجعله واضحا مفهوما يجعلنا نتناسى كونها أحدثت خللا فى الوظيفة القديمة ونراها محدثة توازنا جديداً يبدو طبيعيا . فإذا كان المستوى المجازى مصوراً الأشياء بوصفها كائنات تشبه الإنسان فى عمله وحركته ، فإن علاقتها بالإنسان يجعل عناصر لها وجودها المغاير وطرائقها فى التعبير عن نفسها بتمايز واضح تخلق فيه قوانينها التى يجب أن نعاملها بها ، وتستعصى على كل محاولة لأن نطبق عليها قوانين غير ما يجب أن نعاملها به . ووجود شئ سحرى واحد فى النصوص التى تطرح هذه الأشياء لا يتوقف بمفرده مختصا بهذه الصفة وإنما تظهر أشياء أخرى لها هذا الحضور مما يجعلها مشكلة سيمفونية لحضورها الجمعى الذى لا تبدو فيه بوصفها نشازاً وإنما يعزف كل عنصر حضوره ، ففى " هاتف المغيب " تتعدد الأشياء السحرية التى ترسم هذه المعزوفة . وفى مسالك الأحبة لا يقف الكتاب بمفرده متخذا هذا الوضع والأمر منطبق على مستويات الثلاثة ( وخاصة المجازى والسحرى ) فليست البيوت وحدها متخذة الوضع المجازى فى " نقيق الضفادع " فالروائى دائما وهو يسعى لإحكام نصه يحرص على ألا يجعل من صوت واحد نغمة نشازاً وإنما تتضافر الأشياء بما تملكه من سمات مشتركة – بدرجة أو بأخرى فى إظهار هذه الوظائف . المبحث الرابع أشياء النص نص الأشياء فى قراءتنا للأشياء عبر النصوص معتمدينها بوصفها تقنية لا موضوعا ،وبعد أن انتقلنا مع الأشياء من الواقع الذى انتقلت منه إلى النصوص التى استقرت فيها ، نحن أمام نوعين من الأشياء النصية التى يمكن من خلالها أن نرى النوعين يمثلان مرحلتين لهذه العلاقة : 1- أشياء النص . 2- نص الأشياء . التقسيم بداية يطرح تأكيد قدرة الأشياء على أن تكون مفاتيح للنصوص وموجهات قراءة ، وعوامل تكشف قدرات النص الفنية على توظيفها لهذه الأشياء . أشياء النص تعبير يمكن إطلاقه على النص السردى القديم حين ملازمة الأشياء للقصة ، فما دامت هناك حكاية فهناك أيضا أشياء ترتبط بإنسان الحكاية ويكشف عنها السياق ، وأما نص الأشياء فتعبير يمكن استخدامه مع النص الحديث ، ذلك الذى لا تمثل الأشياء لديه موضوعا قد يحكى عنه أو هامشا يتردد ملازما للأفراد أو حكاياتهم وإنما ينطلق من كون الأشياء موظفة بوصفها تقنية لها حضورها الجديد يقول د. صلاح بوجاه : إن الأشياء ذات حضور فعلى إطار الحركة القصصية ، فهى تشارك نظير بقية الفواعل الإنسانية والنباتية وسواها ، فى سير الأحداث وتأزمها ثم النزول بها نحو الانفراج ، مما يبوئها منزلة ليست بالثانوية ضمن العالمين " الأكبر " و" الأصغر " للنص ، بل إن هنالك ضروبا من الأشياء التى يمكن أن نحلها قصصيا محلاً أرفع من الفواعل الإنسانية ذاتها . ويجدر بنا أن ننتبه إلى " قصة – أو قصص – الأشياء أكثر من انتباهنا إلى " أشياء القصة " ( ) . علاقة اتفاق واختلاف لقد توقفنا طويلا عند نصوص روائية حديثة كشف سياقها عن أشياء ما كان لهذه النصوص أن توجد بدونها ، واستقصاء وظائفها وإدراك مدى قدرتها على فاعليتها السردية والجمالية يزداد وضوحا إن نحن قاربنا النص السردى القديم سعيا لتحقيق هدفين : - توضيح صيغتى أشياء النص – نص الأشياء - رؤية الأشياء فى النص الجديد مقارنة بنص مغاير من شأنها أن تكون وسيلة إعلامية لهذه الأشياء . قالت : " بلغنى أيها الملك السعيد ، أنه كان تاجر من التجار ، كثير المال والمعاملات فى البلاد قد ركب يوما وخرج يطالب فى بعض البلاد فاشتد عليه الحر فجلس تحت شجرة وحط يده فى خرجه وأكل كسرة كانت معه وثمرة فلما فرغ من أكل الثمرة رمى النواة وإذ هو بعفريت طويل القامة وبيده سيف ، فدنا من ذلك التاجر وقال له : قم حتى أقتلك مثل ما قتلت ولدى ، فقال له التاجر : كيف قتلت ولدك ، قال له لما أكلت الثمرة ورميت نواتها جاءت النواة فى صدر ولدى فقضت عليه ومات من ساعته " ( ) . " ثم إنه سمى الله ورمى الشبكة فى البحر وصبر إلى أن استقرت وجذبها فلم يطق جذبها وإذا بها اشتبكت فى الأرض فقال : لا حول ولا قوة إلا بالله فتعرى وغطس عليها وصار يعالج فيها إلى أن طلعت على البر وفتحها فوجد فيها قمقما من نحاس أصفر ملآن وفمه مختوم برصاص عليه طبع خاتم سليمان . فلما رآه الصياد فرح به وقال هذا أبيعه فى سوق النحاس فإنه يساوى عشرة دنانير ذهبا ، ثم إنه حركه فوجده ثقيلا فقال لابد أننى أفتحه وأنظر ما فيه ، وادخره فى الخرج ثم أبيعه فى سوق النحاس ، ثم أخرج سكينا وعالج فى الرصاص إلى أن فكه من القمقم، وحطه على الأرض وهزه لينكب ما فيه فلم ينزل منه شىء ، ولكن خرج من ذلك القمقم دخان صعد إلى عنان السماء ومشى على وجه الأرض ، فتعجب غاية العجب وبعد ذلك تكامل الدخان واجتمع ثم انتفض فصار عفريتا رأسه فى السحاب ورجلاه فى التراب برأس كالقبة وأيد كالمدارى ورجلين كالصوارى ، وفم كالمغارة ، وأسنان كالحجارة ومناخير كالإبريق وعينين كالسراجين ، أشعث أغبر " ( ) . فى الحكايتين- كما فى حكايات ألف ليلة وليلة جميعها- تتعدد الأشياء وتنبسط المساحة التى تتشكل منها لتتعدى كونها رموزا دالة تنضاف إلى رموز النص المتعددة ، وفيهما يمكن مقاربة ثلاثة أنواع من الأشياء : 1- أشياء رئيسة : تأخذ وضعيتها عبر فاعليتها فى النص : فى الأولى : النواة . وفى الثانية : القمقم . 2- أشياء تبدو هامشية : فى الأولى : كسرة الخبز – التمرة – السيف . فى الثانية : الشبكة – الدنانير – السكين – القبة – المدارى – الصوارى – الحجارة – الإبريق – السراجين . للوهلة الأولى تبدو الأشياء الرئيسة متناقضة فى فعلها ، فالنواة تقتل عفريتا ( تناقض بين السبب والمُسَبب ) وقمقم يحمل ماردا ( تناقض بين الحامل والمحمول ) ، والجنى فى القمقم موت مؤقت ،والنواة فى الجنى موت دائم . و فى الحكايتين ( كما فى حكايات ألف ليلة وليلة ) تظهر السكين فجأة دون تمهيد سابق خلافا للسارد الحديث، (فى القديم تبدو الوحدات ( الوظائف بمفهوم بارت ) تكاملية حيث تتكامل الوحدات مكونة أسلوب السرد وفى النص الحديث تبدو الوظائف توزيعية يفرض فيها الأسلوب طريقة تبادلية : " لشراء مسدس صلة متبادلة بأمور أخرى إذ له علاقة بأوان استخدامه ( وإذا لم يستخدم ، ينقلب التأثير إلى علامة للتشويش ) ( ) . السرد القديم قد يباغت القارئ بوجود الأشياء ، إذ لا تظهر قبل استخدامها، ويعول السارد على قدرات المتلقى على أن يدرك ارتباط الأشياء بالإنسان فيدعوه إلى إعادة النظر فى الشخصية التى تستخدمه ( بمعنى أن السكين من الأدوات الملازمة للصياد)، ولكن السارد الحديث لا يستخدم التقنية نفسها وإنما يلجأ إلى حساب الأمور بطريقة مختلفة ، أكثر حسما من نظيره القديم . و الساردان يعملان معا على توسيع الأفق باستخدام أشياء مستدعاة للنطاق السردى ، وهناك أشياء لا تقوم بدور واضح فى النص ولا يتكرر ظهورها أو تكون هى بؤرة تنطلق منها الأحداث ويدور حولها الصراع وإنما تأتى بوصفها مستدعاة لسياقات توضحية تستكشفها بلاغيا وتبدو واضحة عند استخدام تقنية التشبيه ( فى حكاية الصياد مع العفريت ) . رأس كالقبة ( القبة ) أيد كالمدارى ( المدارى ) رجلين كالصوارى ( الصوارى ) فم كالمغارة ( المغارة ) أسنان كالحجارة ( الحجارة ) مناخير كالإبريق ( الإبريق ) عينين كالسراجين ( السراجين ) والسارد الحديث لا يميل للطرح المباشر للأشياء ، حيث يطرحها عبر حالة الاستدعاء( ) القارة فى التشبيه( البليغ فى معظم الأحيان ) كما يمنحها الطاقة الرمزية : " الأحرف تعاويذ لها فعل الولوج فى كل الأشياء " ( ) . والعمل على إبراز علاقة الأشياء بالإنسان " ستظل شبحا يطارده ما بقى فى عروقه نبض ، لن ينساك مهما شرب وحاول ، الصوف الهيلد . . سبيلى ويعتت " الريبان سينكسر يوما أو يصرعه صنف جديد، الجوخ سيهدى للأقارب بعد موت أبيه ، الألعاب سيحطمها الولد خلال أيام ، لن يبقى فى النهاية إلا إياك " ( ) وفى الحالتين تحدث عملية الاستدعاء لأشياء تعمل أول ما تعمل على توسيع الأفق التخييلى إضافة إلى إبراز ثقافة المكان ودرجة تحضره أو مدنيته . كما أن السارد القديم يبتكر الأشياء ويسعى لتضخيمها بغية بث الصورة المثيرة لتميز السارد ( فى الحكاية الشفوية ) ، حيث السارد يحكى عن مكان مغاير لمكان الحكى ، ومن ثم يسعى إلى استخدام آليات تجعله منفرداً برؤية الأشياء قابضا على خيوط السرد، يحكى عن أشياء بعيدة ( مشبه ) لا يمتلك السامع إلا تركيب أجزاء متعددة من ( المشبه به ) الذى يضمه واقعة ليدرك ما يلقيه السارد فى خياله ، والصورة التى يرسمها السارد للعفريت ( والصياد مع العفريت ) تحتاج من السامع لإدراكها أن يستقطب أشياء كثيرة ويركب مجموعة من الموجودات ليتسنى له إدراك الصورة المتخيلة ، وفى المقابل فالسارد الحديث يوظف الأشياء ولا يبتكرها إذ هى موجودة تملأ فراغ الواقع وهو لا يريد أن يتميز عن متلقيه من هذه الزاوية. علاقة تكامل قراءة النص السردى الحديث يفضى إلى اكتشاف أشياء تتكرر بين نص وآخر يوظفها أصحابها بصورة مغايرة ولكنها لا تخفى على المتابع ، والأمر ليس متوقفا عند تكرارها وإنما تكاملها بين النصين : القديم الذى وردت فيه للمرة الأولى، والجديد الذى أعاد توظيفها وذلك على أن السارد الحديث لا يخلق الأشياء كالقديم وإنما يخلق استعارة كبرى للأشياء من الواقع ( الواقع المتعين – الواقع التراثى ) المتمثل فى نصوص التراث ، وهناك أشياء تتأكد عبر تكرارها وهى متعددة منها : الكتاب ( المخطوط)- الصندوق - العصا . المخطوط يكاد الكتاب المخطوط يكون القاسم المشترك فى أكثر من نص حديث منها : أسرار صاحب الستر : إبراهيم درغوثى . التاج والخنجر والجسد- النخاس : صلاح الدين بوجاه . مسالك الأحبة : خيرى عبد الجواد . ومرجعية المخطوط ( الكتاب ) فى ألف ليلة وليلة متكررة عبر حكاياتها ( ومنها حكاية الملك يونان والحكيم روبان " التى تحكى ما حدث للحكيم روبان الذى عالج الملك من مرض البرص بأن جعله يقبض على قصبة الصولجان وقد أوغر الوزير صدر الملك عليه فقرر أن يقتله ولكن الحكيم الذى تحقق من أمر قتله يقول للملك : أيها الملك إن كان ولابد من قتلى فأمهلنى حتى أنزل إلى دارى فاخلص نفسى وأوصى أهلى وجيرانى أن يدفنونى وأهب كتب الطب وعندى كتاب خاص الخاص أهبه لك هدية تدخره فى خزانتك ، فقال الملك للحكيم وما هذا الكتاب قال: فيه شئ لا يحصى وأقل ما فيه من الأسرار إذ1 قطعت رأس وفتحته وعددت ثلاث ورقات ثم تقرأ ثلاث أسطر من الصحيفة التى على يسارك فإن الرأس تكلمك وتجاوبك عن جميع ما سألتها عنه " ( ) وينجح الحكيم فى خداع الملك بعد أن دس له السم فى الكتاب وما إن يقتل الحكيم يدفعه حب الاستطلاع لاستكشاف أسرار الكتاب فيروح يبلل أصابعه بريقه ويقلب الصفحات ، وعندها يسرى السم فى بدنه . يتوقف عبد الفتاح كيليطو عند الحكاية واصفا الكتاب بأنه الكتاب القاتل يقول " الكتاب ، شأنه شأن الحكى ، لا يضمن الحياة وأقصى ما يمكن أن يقوم به هو تأصيل الموت والانتقام " ( ) والسارد الحديث يمنح الكتابة دائما أسراراً مؤجلة لا تبوح للعامة ومعارف تمثل :" كنوزا معرفية : الأشياء والكائنات كلها تترافد : عين البقرة المذعورة ، وعواء ساعات السحر ، ونقيق الغدير البعيد وضحكات الأنثى الخفرة المغناج ، وهمهمة المتصوف والأعمى . . . وما تحوى الكتب من كلم مربك ساحر إليه تعود الخرافات جميعا " ( ) . و تقوم" أسرار صاحب الستر" على التناص مع مخطوط قديم يعد محركا النص ، وصانعا خيوطه السردية ، وعندما يعثر عالم الآثار وتابعة الشاب على المخطوط يتحول النص إلى مخطوط تراثى يتولى حكاية الوليد بن يزيد الأموى . وينقل النص إلى تقنية الحكاية الشفوية حيث يأخذ عالم الآثار وضع المروى له ويأخذ الشاب وضع الراوى الذى يفضى بأسرار المخطوطة إلى عالم الآثار ، وعملية الإفضاء تكتمل دلالتها إذا ما عرفنا أن الشاب تونسى وأن عالم الآثار فرنسى مما يحقق فكرة إفضاء العربى بتاريخه وكنوزه للآخر الغربى ، وأن الغربى هو الذى يعرف ما تجود به قريحة العربى وتراثه أكثر مما يعرفه العربى عن نفسه وتراثه . علاقة / علاقات مع الدلالة فى السردية الحديثة تتعدد علاقة /علاقات الشيء بالنص والعالم الذى يفضى إليه ، أو ينطلق منه ، ولأن الأشياء لصيقة بالمكان أو يرتهن وجودها بوجود مكان ذى سمات محددة ، معروفة فإنها تلعب وظائفها بصورة متعددة الوجوه ، مشيرة فى مواقعها إلى قدراتها على أن تقدم من الدلالات ما لا يمكن لغيرها أن تقوم به ، ومن هنا يكون النص الحديث كاشفا عن أقصى قدرات العناصر الشيئية على النهوض بالرموز والدلالات . الأشياء فى الرواية الحديثة تطرح بعدا ثقافيا للمكان تطرح من خلاله علاقة الإنسان بعصره ، وعالمه ، وأشخاص يتحرك بينهم . من هذه الزاوية يمكننا أن نقف عند ثلاثة أشياء تعتد بها ثلاث روايات ، وتعتمد عليها فى إنتاج دلالتها : الحقيبة الجلدية فى رواية سيد الوكيل " فوق الحياة قليلا "( ) الصور فى رواية منتصر القفاش " أن ترى الآن "( ). الحزام فى رواية أحمد دهمان " الحزام " ( ). فى " أن ترى الآن " تتحول الصور التى يلتقطها إبراهيم لزوجته درأ لنسيان ملامحها إلى عناصر يقام عليها النص وتشكل عصبه الأساسى ، فالصور التى يستغلها بعضهم لتشويه علاقة إبراهيم بزوجته ( بأن يعيد مشوهة إليها ) ترسم بعد قليل صورة لعصر يتجرد من الخصوصيات ، فالصور التى تعبر عن لحظات التحرر للزوجة ، وكذا بعض المشاهد الحميمة لها تفقد خصوصيتها تماما كعصر لم يعد له السمة نفسها ، وتشير بصورة حادة إلى الشكل الذى تأخذه العلاقات الاجتماعية على مستوييها : العام والخاص ، وإبراهيم الذى يعانى من النسيان ، نسيانه لملامح زوجته فيقترح تصويرها فى أوضاعها المنزلية يدخل نفسه فى سياق كابوس إجتماعى لا يمكنه الفكاك منه بسهولة ، فالصور التى تتحول فى لحظة ما – ظاهريا – إلى هامش فى إطار الواقع المعيش ، لاتنته عند حدود هذا الواقع بل تتحول إلى فيروس متكاثر فى عالمه الخاص ، ولا تنتهى الرواية قبل أن تطرح اللحظة التى تملأ الصور فيها كل مكان : "بكل قوته دفع إبراهيم باب الشقة ، بدت انفراجة دقيقة ، استطاع من خلالها فهم أن الصور ملأت الشقة ووصلت إلى السقف وتمنعه من الدخول . تحرك عدد منها إلى الفراغ الذى ينظر منه ، وكادت أن تتسرب إلى الخارج ( ). وتتحول إلى كائن مواجه يكافئه فى القوة ، ولا يتوقف عن المنافسة : " شغله التفكير فى أنه كلما اشتدت اندفاعته نحو الباب زادت كمية الصور التى تتسلل خارجة " ( ). لقد تحول العالم إلى مشهد فانتازى عصبه الصور التى صنعها إبراهيم لتقضى عليه ، بوصفها الأداة الأكثر عصرية ، والأكثر قدرة على أن تفضح الداخل الحميم ، ولم تكن الكاميرا التى التقطت الصور سوى الآلة الجهنمية التى تحول الهدوء إلى نوع من الجحيم ، كما تمثل العين المراقبة للذات فى أدق خصوصياته . وفى " فوق الحياة قليلا " لا يتوقف دور الحقيبة المتآكلة من الموسلاى عند دورها التقليدى بوصفها إناء يضم حاجيات الشاب المرتحل ، بل قد لا يعول المتلقى كثيرا – بإيعاز من النص – على هذه الوظيفة التى قد لا يلحظها وإنما يتجاوز الأمر ذلك كله إلى كونها تمثل التاريخ القدرى للشاب ، كما أنها تعد علامة على ثقافته ، وشهادة على عصره ، والسارد عندما يجعلها تضم ملابسه ذات الرائحة الكريهة منتقلا بها عبر شوارع القاهرة وأحيائها فإنه يبث عبرها مجموعة من الملامح لعصر يعد هذا الشاب وعالمه العلامة الكبرى ، أو الدلالة الأعمق لهذا العصر ، وأصبحت الحقيبة مؤشرا على الشاب الذى تعود على رائحتها لا يحتملها الآخرون حتى فى المكان المتسع : " ولم يكن يدرى أن الضابط الذى أدار وجهه ناحية الميدان ، ثم غادره تماما على دراجته البخارية ، لم يكن فى الحقيقة مشغولا بعمله كما بدا ، فقد كان منزعجا من تلك الرائحة التى انبعثت من الحقيبة بمجرد فتحها ، ومن الجريدة التى تشربت البول ونشرت رائحته كلما لوح بها فى وجهه " ( ) . وفى " الحزام " تلعب الأشياء وظائفها مقترنة بالمكان ، طارحة ثقافته الخاصة ، كاشفة عن أبعاده التاريخية ، والنفسية ، والاجتماعية مستثمرا خاصية التكرار للحزام الذى يظهر مقترنا بأشخاص ثلاثة تمثل تنوعا على مستوى النوع ، والجيل البشريين ، حزام الرجل ، حزام المرأة ، حزام الطفل . الحزام الأول يمثل علامة على المخزون الاستراتيجى للعناصر التى تحفظ للرجل كرامته بين ضيوفه " والسبتة حزام داخلى من الجلد المفتول يضعه الرجال على أجسادهم ، ويعلقون فيها مفاتيحهم بحيث تتدلى هى الأخرى بين أفخاذهم ، وهى مفاتيح غالبا ما تكون من الحديد ، يخفونها فى هذا المكان الأمين ، وهى خاصة بمخازنهم التى يحتفظون فيها بكميات قليلة من القهوة والهال والطحين والسمن والعسل ، حتى إذا جاء ضيف بغتة ولم يبق لدى المرأة شيئ ، انسل الرجل إلى هذا المخزون يحمى به شرفه وسمعته " ( )، ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد فالرجل الذى يعطى هذا المفتاح لزوجته يفقد ذكره ويصبح " زوجة زوجته " ( ). والحزام الثانى المغاير خاص بالمرأة ، تتأسس مغايرته بداية من المادة المستخدمة فى صناعته ، فحزام المرأة " من قماش عريض " ، كما يطرح استراتيجية جديدة للشرف الذى يرمز لحفظه . والحزام الثالث ينتمى لعالم الطفل ملون يمثل علامة على الرجولة المنتظرة . لقد طرح النص الوظائف المتعددة للحزام تلك التى لم يكن منها تلك الوظائف التى يعرفها المتلقى الراهن عبر ارتباطه بمفهوم عصرى للحزام يكون مغايرا تماما لهذه المفاهيم التى تطرحها ثقافة المكان . الهوامش - جون ديوى : الفن خبرة ، ترجمة : د. زكريا إبراهيم ، دار النهضة العربية ، القاهرة 1963، ص 42. - لسان العرب ، مادة: شيأ. - على بن محمد بن على الجرجانى : التعريفات ، تحقيق :إبراهيم الإبيارى ، دار الكتاب العربى ، بيروت ط1 ، 1405 ، جـ 1 صـ170. - المائدة 101 - الأعراف 85. - هود 85. - الشعراء 183. - سنن أبى داود : كتاب الصلاة . - مصطفى بن عبد الله القسطنطينى : كشف الظنون عن أسامى الكتب والفنون ،دار الكتب العلمية ، بيروت 1992، جـ 1 ، ص 10. - زكريا بن محمد بن زكريا الأنصارى: الحدود الأنيقة والتعريفات الدقيقة ، تحقيق : د. مازن المبارك ، دار الفكر المعاصر ، بيروت ط1 1411 ج 1 ص 74. - د. عبد الغفار مكاوى : مدرسة الحكمة ، دار الثقافة للطباعة والنشر ، القاهرة ص 281. - السابق ص 283. - السابق نفسه . - السابق نفسه. - السابق نفسه. - يحدث أن يتأثر المبدع بالمتلقى حين يستلهم المبدع متلقيه أو واقعه وهو ما تبرزه عملية الكتابة، للدرجة التى تكاد نرى فيها هذا التأثر الواضح بالواقع ومعالمه ، والواقع هنا يلعب أدوارا ثلاثة : أ‌- قبل النص : يقوم بدور الحافز الدافع للكتابة . ب‌- أثناء النص : ويكون آلية للكتابة . ت‌- بعد النص : يصبح النص نفسه علامة على واقعه الذى تأثر به . - سير موريس بورا : الخيال الرومانسى ، ترجمة: إبراهيم الصيرفى ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة 1977 صــ 31 . - نورثروب فراى : تشريح النقد ، ترجمة : محى الدين صبحى ، الدار العربية للكتاب تونس 1991 صــ 491 - نجيب محفوظ : ملحمة الحرافيش ، مكتبة مصر صــ 157 . - انظر : الموسوعة الشعرية ، المجمع الثقافى ، أبو ظبى ، الإصدار الثانى 2001، وعنوانها على الشبكة الدولية للمعلومات ( الإنترنيت ) www.Cultural.org.ae - انظر : د. مصطفى الضبع : استراتيجية المكان ، الهيئة العامة لقصور الثقافة القاهرة ، 1998 صــ 373 وما بعدها . - إن مقارنة هذه العناوين بعنوان مثل منتهى لهالة البدرى أو مشوار لمصطفى شهاب يوضح هذا الأمر ، إذ يكون العنوان النكرة فى حاجة قصوى - على المستوى النحوى – لتوضيحه بعض الشيء فيضطر المتلقى إلى تركيب جملة مكتملة نحوية – هى منتهى أو هذا هو المنتهى – أو أنه مشوار أو هو مشوار وغيرها من الصيغ التى يتداخل المتلقى مع العنوان من خلالها فى الوقت الذى يكون فيه العنوان المعرفة ليس فى حاجة لذلك فتكون إحالته للنص مغايرة لإحالة اللفظ النكرة الذى يكون الانشغال باستكمال بنيته شاغلا عن ربطه بالنص . - فى طبعتها الثالثة جاء غلاف رواية " المسلة " لنبيل سليمان لوحة لمسلة فرعونية تجاور معبداً فرعونيا مما فرض على المتلقى قصدية العنوان وقصدية معنى لم يكن قائما فى الرواية إذ لم يكن النص يطرح بالمرة هذه العلاقة بين المسلة والمسلات الفرعونية الشهيرة . – انظر: نبيل سليمان : المسلة ، مصر العربية للنشر والتوزيع ط 3 1997 . - يحدث ذلك أيضا مع العناوين التى تتضمن أشياء تشير إلى ثقافة مغايرة لثقافة المتلقى مثل : الدقلة فى عراجينها للروائى التونسى البشير خريف أو الياطر أو لحنا مينا وغيرهما من العناوين التى تمتح من ثقافة شديدة المحلية ، يضاف لذلك التفاوت فى حياة بعض الألفاظ العربية فى بلد عربى دون الآخر أو حياة غيرها فى بلد آخر . - كاتب مغربى و"الحجاب" روايته الأولى الصادرة عن منشورات الرابطة الدار البيضاء 1996 . - روائى تونسى وقاص من أعماله : الدراويش يعودون إلى المنفى 1992 القيامة الآن 1994 أسرار صاحب الستر 1998 إضافة إلى أربع مجموعات قصصية . - نبيل سليمان : ثلج الصيف ، دار الحوار ، اللاذقية طـ 5 1994 صــ 9 . - إبراهيم درغوثى : شبابيك منتصف الليل ، دار سحر للنشر ، تونس 1996 صــ 3 . - من النماذج العالمية الشهيرة زوربا فى الرواية الشهيرة للروائى اليونانى كازنتزاكيس ، فنحن لا نفكر فيما يطرحه زوربا من معان بقدر ما نحتفظ بزوربا ذاته بعيدا عن هذه المعانى والدلالات إذ تنجح الشخصية فى أن تدخلنا لتكون هى فقط دون أن ننشغل بأطروحات أخرى . - جمال الغيطانى : خطط الغيطانى ، دار المسيرة بيروت 1981 صـ 9 . - التصريح فى الرواية ليس لفظا يحيل إلى معنى أو إلى صيغة معنوية مجردة وإنما هو قطعة من الورقة تمثل علامة لإباحة مغادرة الثكنة العسكرية يُمنحه المجند من قبل قادته ومن ثم تنمحى عند القراءة صيغة المصدر الصريح ( صّرح تصريح ) ويحل التصريح الجامد المحيل لذات محسوسة . انظر : منتصر القفاش : تصريح بالغياب . - قاص و روائى مصرى وهذه روايته الأولى . - قاص، و روائى مصرى صدرت له خمس مجموعات قصصية، وروايتان هما: - حلم على نهر 1993 . - حجرة فوق سطح 2000 . - شاعر وروائى مصرى . - مقارنة الواو بالفاء مثلا فى العطف يكشف ما يمكن فى العطف الواوى من دلالة : ففى الوقت الذى تطرح فيه الفاء دلالة الانتهاء والتوالى كأن تقول فلان مخلص فمجتهد فأمين مما يوحى بثبات الصفة الأخيرة التى لم تنته بانتهاء سابقتيها ولكن أن تقول : فلان مجتهد ومخلص وأمين فهذا ما يجعل الصفات مستقرة متراكمة ومن أمثلة ذلك خطبة واصل بن عطاء الشهيرة : "وأشهد أن محمد عبده ونبيه وخالصة وصفيه" . والقرآن الكريم يطرح الصيغتين فى سورة الزمر:.  وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ  الآيات 71 – 73. والشاهد فى الموضعين ( حتى إذا جاؤوها – فتحت أبوابها ) دون العطف عند ذكر أصحاب النار وحتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها ) بالواو عند ذكر أصحاب الجنة فالنار قد فتحت أبوابها بعد انتهاء فعل المجيء ، مجيء الكافرين والجنة تفتح أبوابها ترحيب واستقبالا قبل حدوث فعل المجرد مما يوحى بتداخل الحدثين، ومن ثم الزمنين وهذا ما يحدث عندما نكون على علم بزيارة ضيف عزيز لنا نفتح أبوابنا مرحبين وهو على درجات السلم خلافا لضيف ثقيل نتمهل حتى يدق الباب . - صلاح الدين بوجاه : التاج والخنجر والجسد ، دار سعاد الصباح ، الكويت الطبعة الأولى ، 1992 ، صــ30 ، صــ 31 . - نعنى بها تلك العبارة التى لا يدرجها المؤلف تحت بند الإهداء ولا تحمل أية إشارات تجعلها داخلة فى هذا البند، وتكاد تشكل عبارة تختزل أو تشير بوضوح للنص أو لمعنى ما فيه ، كما يدخل تحتها العبارة الإحتراسية التى يحذر فيها المؤلف من التشابه غير المقصود بين الواقع ، ومجريات النص . - محمد داود : قف على قبرى شويا ، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، القاهرة 2001، ص 5. - فوزية رشيد : القلق السرى ، دار الهلال ، القاهرة ، 2000، ص 5 . - طالب الرفاعى : ظل الشمس ، دار شرقيات ، القاهرة ، ط1 1998، ص 7. - تأخذ لوحة الغلاف نسقين أساسيين : 1- كونها لوحة تمثل منتجا فنيا سابقا للنص( لكتابته أو لنشره ) كما فى أغلفة الكتب التى يكون غلافها متضمنا لوحة أو مقطع من لوحة لفنان عالمى قديم أو حديث . 2- كونها لوحة منتجة خصيصا للنص مما يعنى أن منتجها قد قرأ النص فى صورته النهائية ( لذا نسميه القارئ الأول المتأثر بالنص بعد أو عند تهيئته للنشر ) وبإيحاء منه ( النص ) صمم هذه اللوحة . انظر : د.مصطفى الضبع: استراتيجية المكان ، صـ 82 وما بعدها . - يحدث فى طبعات مختلفة أن تتغير ملامح الغلاف مما يعنى احتمال تغير الناشر ومصمم الغلاف ومن ثم دخول رؤية جديدة للأشياء وسنتوقف لا حقا عند هذه النماذج التى وإن تغيرت ملامحها يظل قانونها الأول لا يتغير . - انظر : يحيى يخلف : تفاح المجانين، دار الآداب ، بيروت ، ط 2 ، 1989 . - نفضل استخدام لفظ (المصمم) على لفظ ( الرسام) لكون الغلاف – فى الأغلب – ليس لوحة تشكيلية فقط ، وإنما هو مزيج من صيغ مختلفة : خط وتصوير ورسم . - انظر : منتصر القفاش : تصريح بالغياب ، دار شرقيات ، القاهرة ط 1 ، 1996. - انظر : شوقى عبد الحكيم : أحزان نوح ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ( طبعة مكتبة الأسرة ) 1998 . - سبق أن توقفنا فى هذا السياق عند نصين يطرحان بيئتين مصريتين مختلفتين: الصعيد والدلتا عبر روايتي : الأرض لعبد الرحمن الشرقاوى ممثلة الدلتا ( القرية الشمالية )، والجبل لفتحى غانم ممثلة للقرية الصعيدية ( القرية الجنوبية ) وكيف أن الغلاف طرح غطاء الرأس المختلف بين فلاح الجنوب وفلاح الشمال . راجع طبعتى الروايتين : - الأرض ،مكتبة غريب ، القاهرة د.ت . - الجبل ، دار الهلال، القاهرة 1965. - أحزان نوح صـ9 . - مصطفى شهاب : مشوار ، دار السنابل ، صور ، 1999. - السابق صـ 63 . - إبراهيم الدرغوثى : الدراويش يعودون إلى المنفى . الطبعة الأولى : دار رياض الريس ، لندن 1992 . الطبعة الثانية : دار سحر . تونس 1998 . - سمير ندا : وقائع استشهاد إسماعيل النوحى الطبعة الأولى : هيئة قصور الثقافة 1997 . والثانية : الهيئة نفسها 1998 . - صبرى موسى : فساد الأمكنة ، مكتبة روز اليوسف، 1976. - د. سيزا قاسم : بناء الرواية ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1984، ص 78 . - نعنى بنموذج تودوروف المعدل ذلك النموذج الذى وضعه الناقد الفرنسى بويون pouillon J.وطوره تودوروف راصدا من خلاله الرؤى الثلاثة للسرد: - الراوى <الشخصية ( الرؤية من الخلف ) . - الراوى = الشخصية ( الرؤية المحايثة ). - الراوى > الشخصية ( الرؤية الخارجية ). انظر : تودوروف : الأدب والدلالة ، ترجمة : د. محمد نديم خشفة ، مركز الإنماء الحضارى ، حلب ، ط1 1996، ص 77وما بعدها . - ميشال بوتور : بحوث فى الرواية الجديدة ، ترجمة : فريد أنطونيوس ، منشورات عويدات ، بيروت ، ط3، 1986، ص65. - نعمات البحيرى : أشجار قليلة عند المنحنى ، دار الهلال 2000 ص41. - السابق نفسه . - السابق ص42-43. - السابق ص 41-42. - السابق ص102. -السابق ص101. - السابق نفسه . - بسؤاله عن الطبيعة المرجعية لهذه المدينة ، أصر المؤلف على عدم الإفصاح عنها ، مما يفهم منه علاقتها بمدينة ذات واقع متعين ، وتلعب الأشياء ذات الطبيعة المغايرة دورا كبيرا فى رسم صورة مغايرة للمدينة وتحويلها إلى مكان ممعن فى الخيال . - يتخذ السارد – وكذا الشخصية المروى عنها – واحدا من أوضاع ثلاثة تعبر عن رؤيتها المكان وعلاقتها به : • زائر : يدخل المكان للمرة الأولى ، ومن ثم يختبر الأشياء لإدراكها . • عائد : يمتلك خبرة سابقة بالمكان قبل غيابه عنه حينا . • مقيم : تتعدد خبراته بالمكان والأشياء . انظر : د. مصطفى الضبع : رواية الفلاح/ فلاح الرواية ، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1998 ص250وما بعدها . - جمال الغيطانى : شطح المدينة ، دار الهلال ، 1990، ص 8. - انظر : ميشال بوتور : بحوث فى الرواية الجديدة ، مرجع سابق ص63. - منتصر القفاش : تصريح بالغياب ص37 . - عبد الرحمن الشرقاوي : الأرض ، مكتبة غريب ، ص67. - السابق ص24 . - السابق ص47. - السابق ص60 . - يحيى خلف : تفاح المجانين ص37. - السابق ص49 . - السابق ص49. - السابق ص50. - ص81. - ص43. - عبد الحكيم قاسم : أيام الإنسان السبعة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1988 ص7 . - السابق ص19. - السابق ص 20 . - السابق نفسه . - السابق نفسه . - إسماعيل فهد إسماعيل : المستنقعات الضوئية ، دار العودة – بيروت ط1، 1971 ص35 . - السابق ص23 . - السابق ص39 . - السابق ص32. - السابق ص47 . - السابق ص58. - السابق ص75 . - السابق ص9. - السابق ص10. - السابق ص12. - السابق ص15. - فصلنا القول فى هذا الجانب عبر دراستين سابقتين : - رواية الفلاح : وطرحنا فيها المقارنة بين القرية الشمالية (الدلتا) والقرية الجنوبية (الصعيد) فيما يضمان من أشياء ودلالتها ودورها فى النص الروائى ص158 وما بعدها . - استراتيجية المكان : وقاربنا فيها الأمكنة الروائية وحركة الأشياء فى القرية والمدينة والمقهى والجسد الإنسانى ص182 وما بعدها . - يبدو ذلك واضحا فى الأعمال التاريخية التى تعود إلى فترات التاريخ القديمة وهناك أعمال كثيرة قاربت هذه المنطقة منها : - ليالى ألف ليلة : نجيب محفوظ . - الزينى بركات : جمال الغيطانى . - نوار اللوز - تغريبة صالح بن عامر الزوفرى . واسينى الأعرج . كما يبدو واضحا فى المقابل فى الأعمال التى تتجه للمستقبل والمتعارف عليها بروايات الخيال العلمى ومنها : - السيد من حقل السبانخ: صبرى موسى . - ابن النجوم : نهاد شريف . إذ تبدو الروايات طارحة أشياءها التى تبدو منبتة الصلة بأشياء الحاضر. - محمد الراوى : تل القلزم ، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، القاهرة ، 1998، ص 11. - نعنى رواية المستقبل أو رواية الخيال العلمى التى تخلق أشياءها الخاصة بها ، أشياء ذات طبيعة مميزة تتناسب مع طبيعتها ، ويتشابه هذا النوع مع حكايات ألف ليلة وليلة ، والأخبار العجيبة قديماً فى اعتمادهما على خلق أشيائهما الخاصة لأغراض فنية ( سنتوقف عند ذلك لا حقا ) . - صلاح الدين يوجاه : الشئ بين الوظيفة والرمز المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ، بيروت ط 1 – 1993 صـ 15 . - ألان روب جرييه : نحو رواية جديدة ، ترجمة : مصطفى إبراهيم مصطفى ، دار المعارف،القاهرة ، د. ت صـ 69 . - نجيب محفوظ : قصر الشوق ، مكتبة مصر صـ 123 . - د. سيزا أحمد قاسم : بناء الرواية ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة 1984 صـ 100 - تمثل قوانين النص التخييلية منطقا خاصا به يختلف كثيراً عن منطق الواقع ، وإشكالية تلقى نصوصنا الأدبية عامة والروائية خاصة أننا ندخل النصوص بمنطقنا نحن الذى قد لا يتوافق مع منطق النص الذى يمثل عالما أقيم بقوة الخيال ( وإن ارتبط أو تشابه مع الواقع ) ولا يكون دخوله صحيحا إلا باستخدام قدر مكافئ من القوة نفسها ،قوة الخيال ؛ و القارئ العربى فى دخوله النص الروائى بمنطقة وقوانينه ( هو / يشبه من يعيش فى بلد غير بلده ويرغب أن يعيش بقانونه هو لا بقانون البلد الذى يعيش فيه لذلك تواجه الرواية العربية الكثير من مشكلات التلقى بين أبناء العربية فقد تطورت الرواية العربية وتبوأت مكانتها فى إطار الرواية العالمية وأصبحت قادرة على المنافسة وبات لها كتابها القادرون على ضخ دماء جديدة فى عروقها ، ورغم ذلك تبقى أحد أهم مشكلات الرواية العربية فى المتلقى وفيما يدور حول الرواية من مشكلات مما يعيق عملية التلقى الجاد والمثمر . - المجاز هنا بمعناه البسيط فى البلاغة استخدام اللفظ فى غير ما وضع له العلاقة ( المشابهة – غير المشابهة ) مع وجود قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلى . والقرينة هنا وجود الشئ فى النص الروائى ، فى نص يعتمد أساسا على المجاز ويقترب من الكناية بالصورة التى تجعل منه نصا كنائيا فى المقام الأول وهو الطابع الغالب على السرد عموما . - انظر : د. حميد لحمدانى : أسلو بته الرواية : مدخل نظرى منشورات دراسات : سال ، الدار البيضاء ط1 1989 صـ 55 وما بعدها . - أ . ف . تشيتشرين : الأفكار والأسلوب ، ترجمة : د . حياة شرارة دار الشئون الثقافية ، بغداد ، د . ت صـ 54 . - مصطفى ذكرى : هراء متاهة قوطية ، شرقيات – القاهرة ط 1 1997 صـ 9 – 10 . - جمال الغيطانى : دنا فتدلى ، دفاتر التدوين ( الدفتر الثانى ) ، مركز الحضارة العربية ، القاهرة 1998 صـ 192 . - حسن بحرواى : بنية الشكل الروائى ، المركز الثقافى العربى بيروت ، ط 1 1990 صـ 32. - د . سيزا قاسم : بناء الرواية ، مرجع سابق صــ 79 – 80 . - صلاح الدين بوجاه : النخاس ، دار الجنوب للنشر – تونس صـ 21 . - خالد إسماعيل : عقد الحزون ، دار الأحمدى للنشر القاهرة 1999 صـ 73 . - السابق صــ 78 . - السابق صــ 78 . - النخاس صــ 77 . - صلاح والى : نقيق الضفادع ، الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة 1988 صــ 24 . - السابق نفسه . - السابق صــ 38 . - السابق صــ 54 . - العلاقة المحلية : إطلاق المحل مع إرادة الحال فيه . - انظر دراستنا : القطار فى الأدب : الحبل السرى بين الشمال والجنوب ، أخبار الأدب . العدد 271 ، 20 / 9 / 1998 . والنصوص التى نعنيها الرواية بشكل عام ، والنصوص التى ينتمى أصحابها إلى جنوب مصر ( الصعيد ) إذ لا يوجد كاتب ينتمى لهذه المنطقة إلا وظهر القطار فى أعماله بصورة كبيرة يستوى فى ذلك الشعراء والقصاصون والروائيون ، وقد أفرد الروائى جمال الغيطانى كتابه " دنا فتدلى " دفاتر التدوين الدفتر الثانى لتدوين رحلاته بالقطار فى مصر ، وخارجها ويمثل الكتاب نصا تقوم الفاعلية الأولى فيه للقطار يقول : القطارات الأنثوية ، أنوثة القطارات الترابط ، التواصل ، التوابع القيام ، الوصول ، العبور للمركبات ، للبشر ، أى صلة كامنة ، زاخرة أيهما يتحقق بالآخر " صـ 8 . ويقصر السفر والرحيل على القطار ذى الطقوس الخاصة ذات الطعم الخاص لدى الإنسان : سفرى بالقطارات ، الرحيل عندى ما يتم بالقطار ، لا بالعربات ، ولا الطائرات ، ولا السفن ، الكبير منها والصغير ، مرأى العربات المحاذية للأرصفة ، من محطة إلى أخرى ، قادم ، صاعد ، مفارق ، هابط معا لا أبلغ المعنى الذى لم أُوفق فى التعبير عنه حتى الآن إلا بتمام قصدى ، القطار . " صـ9 . - يحيى حقى : قنديل أم هاشم ، دار المعرف ، القاهرة ، ط5 ، 1984 صـ45 . - السابق صـ46 . - جمال الغيطانى : هاتف المغيب ، دار الهلال ، القاهرة ، 1992 صـ 33 ، 34 - السابق صـ68 . - د. شاكر عبد الحميد : الحلم والرمز والأسطورة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1998 صـ 122 – 123 . - خيرى عبد الجواد : مسالك الأحبة ، مركز الحضارة العربية ، القاهرة ط 1، 1998صــ 26 - السابق نفسه . - د. صلاح الدين بوجاه . الشئ بين الوظيفة والرمز ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ، بيروت ط 1 1993 صــ59 . - الحكايتان من ألف ليلة وليلة . - ألف ليلة وليلة : حكاية التاجر الجنى ، الليلة الأولى . - رولات بارت : النقد البنيوى للحكاية ، ترجمة : أنطوان أبو زيد منشورات عويدات ، بيروت ط 1 1988 صـ 106 – 107 . - تقوم فكرة الاستدعاء فى التشبيه عبر المشبه به بوصفه قطبا مرتبطا بالمشبه والاثنان معا يكونان علاقة يسعى المتلقى لإدراك القطب الأول ( المشبه) عبر المشبه به الذى يستدعيه التشبيه لنطاق إدراك المتلقى ،ويعد الاستدعاء ركنا أساسيا فى التشبيه يتم عبر آليتين : - استدعاء كلى : يتم بإقامة التشبيه نفسه ، واستدعاء خمسة عناصر : " الطرفين ليحصل والوجه ليجمع والغرض ليصح والأحوال ليحسن والأداة لتوصل " انظر : شرف الدين الطيبى : التبيان فى علم المعانى والبديع ، تحقيق : د. هانى عطية ، مكتبة النهضة العربية ، ط1 1987، ص 180. - استدعاء جزئى : يعرف من النظر للمشبه به ، حيث يواجه المتلقى بنوعين منه : 1- قريب يقع عند أطراف مداركه ، كأن يكون المشبه به مما يقع فى المحيط القريب للمتلقى ( الشمس ، والنجوم والجبل والبحر ، وغيرها . 2- بعيد يجد المتلقى نفسه مدفوعا للبحث عن معرفته لوقوعه خارج نطاق المحيط القريب ، كأن يكون المشبه به نموذجا بشريا تاريخيا ، بعيد زمانا أو مكانا . - سحر توفيق ، طعم الزيتون ، المجلس الأعلى للثقافة . القاهرة 2000 صـ 9 - إدريس على : انفجار جمجمة ، المجلس الأعلى للثقافة ، القاهرة 1997 صــ140 - حكاية الملك يونان والحكيم رويان ، الليلة الرابعة من ليالى ألف ليلة وليلة . - عبد الفتاح كيليطو : العين والإبرة، ترجمة : مصطفى النحال ،دار شرقيات، القاهرة ط 1 1995 ص 46، وانظر: إشارته إلى الكتاب الغريق وتحليله الممتع للحكايتين : (الكتاب القاتل والكتاب الغريق ) ص 41 وما بعدها . - صلاح الدين بوجاه : التاج والخنجر والجسد : دار سعاد الصباح ، القاهرة ، ط1 1992 ص 18. - سيد الوكيل : فوق الحياة قليلا ، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، القاهرة ، 1997. - منتصر القفاش : أن ترى الآن ، دار شرقيات للنشر والتوزيع ، القاهرة ، 2002. - أحمد دهمان : الحزام ، دار الساقى ، بيروت ، 2001. - أن ترى الآن ، ص 115. - السابق ص 117. - فوق الحياة قليلا ص 94. - الحزام ، ص 21. - السابق نفسه ." >
د. مصطفى الضبعمقـــــــدمة

فى لغتنا العربية لا نكاد نجد لفظا يمكنه – تعبيريا- أن يحل محل الألفاظ معظمها، وأن يقوم بدورها قدر ما يفعله لفظ الشيء مفردا أو جمعا ، وربما كان لفظ ( الأشياء) أكثر قدرة على التعبير عن الأشياء المتآلفة أو غير المتآلفة ، ومن السهل أن نستخدم المفردتين للتعبير عن عناصر معروفة للمتلقى أو غير واضحة تماما أو يكتنفها جانب من الغموض ، عندها نقول هى (أشياء).

وهذه الأشياء لا تكتفى بوجودها الواقعى الذى قد لا يعيرها البعض فيه أدنى فاعلية فتأخذ فى تحقيق هذه الفاعلية عبر النص الإبداعى حيث كل الأشياء لابد أن تكون دالة وفاعلة.

والسؤال المركب الذى يطرح نفسه :

مامدى هذه الفاعلية ؟ وإلى أى حد يكون للأشياء هذه الأهمية فى سياق النص ؟ . وهل يمكن دخول النص عبر مفاتيحه الشيئية ؟.

مع محاولة هذه الدراسة أن تجيب عن هذه الأسئلة ، فإنها تعترف – بداية- بأن النص الروائى العربى قد شكل جغرافيته من أشياء بنى عليها معناه ودلالاته للدرجة التى لا تستطيع هذه الدراسة أن تدعى لنفسها القدرة على الإحاطة بها أو التوصل لكل تقنياتها .

إنها دراسة حاولت أن تنصت لصوت الأشياء فى الرواية العربية ، مستنطقة إياها ، ناظرة إليها بوصفها تقنية وليست موضوعا نصيا .

وقد جاءت الدراسة فى :

  • مقدمة : تعرض لموضوعها .
  • مهاد نظرى : يؤسس لفكرتها.
  • المبحث الأول : الدال والمدلول :ويتوقف فى المنطقة المتنازع عليها وفيها ، منطقة التخييل وعلاقة النصين: الشعرى والنثرى ، وتقنيات ظهور الأشياء فى النص السردى ، ومنطق الروائى ، والقارئ الأول ، وكيف يحكمان ظهور الأشياء فى النص السردى.
  • المبحث الثانى : الأشياء ومستويات الرؤية : ويجيب عن السؤال: من يرى؟ وكيف تؤثر زاوية الرؤية فى تلقى أشياء النص ؟.
  • المبحث الثالث : المستويات الوظيفية للأشياء :ويقارب المستويات الوظيفية الثلاثة التى تتدرج خلالها أدوار الأشياء ووظائفها:
  1. الحقيقى .
  2. المجازى .
  3. السحرى .
  • المبحث الرابع : أشياء النص ، نص الأشياء ، ويقارب الأشياء فى النص السردى القديم مقارنة بالأشياء فى النص الحديث ، وكيف تحول الأمر من حالة الأشياء الخاصة بالنص إلى النص الخاص بالأشياء .
مهاد نظرى

منذ خطواته الأولى فى الحياة ، الإنسان فى علاقة دائمة بالأشياء ، للحد الذى يمكن التعبير عنه بالقول :إن الحياة الإنسانية ما هى إلا حركة الإنسان المرتبطة بهذه الأشياء ، فى تعبيرها عن حالاته المختلفة ، والمغايرة للحظات حياته ، وفى قدرتها على أن تكون عناصر تملأ فراغ يومه، وتشكل جغرافية حياته ، يحملها وتحمله ، يشكل بها عالميه: الخاص والعام ،يتبادلها مع الآخرين فتكون علامة رابطة بينه وبينهم ، تعبر عن ثقافته وبيئته ، وبالجملة تبدأ حياته و تنتهى دون أن تنتهى هذه العلاقة ؛ فموته ليس معناه موتها ، إنه يتركها دليلا على وجوده الذى كان ، علامة دالة عليه تحمل ذكراه لمن فارقهم .

إن حياة الإنسان حضور حقيقى وممتد للأشياء فى علاقتها به ، خالقة نظاما جديدا للمكان المشترك بينهما ، و عندها " يصبح المكان شيئا أكثر من مجرد فراغ يهيم فيه الإنسان على وجهه وتتناثر فيه هنا وهناك أشياء تهدده ،وأخرى تشبع شهوته . أجل فإن المكان ليصبح بمثابة مشهد كلى شامل ، أو منظر مسيج محدد المعالم تنتظم فى داخله جمهرة من مظاهر النشاط الفاعل والقابل التى يستغرق فيها الإنسان " ( ).

يتعامل الإنسان مع الأشياء( لغة ) بوصفها مسلمات تعورف عليها ، و لا تحتاج قوتها الدلالية إلى تحديد أو توضيح ، و لسان العرب يكتفى بالقول:

"و الشىء ، معلوم قال سيبويه حين أراد أن يجعل المذكر أصلا للمؤنث ألا ترى أن الشيء مذكر وهو يقع على كل ما أخبر عنه" ( ) .

ويقترب الجرجانى من صيغة أكثر دلالة للفظ ، يملأ ما تركه لسان العرب من فراغ :

"الشيء في اللغة هو ما يصح أن يعلم ويخبر عنه عند سيبويه وقيل الشيء عبارة عن الوجود وهو اسم لجميع المكونات عرضا كان أو جوهرا ويصح أن يعلم ويخبر عنه وفي الاصطلاح هو الموجود الثابت المتحقق في الخارج " ( ) .

و يكتسب اللفظ عموميته من زاويتين :

الأولى : استعماله للتعبير عن المادى والمعنوى: والقرآن الكريم حين يستخدمه فى صيغة الجمع يؤكد هذا الاستعمال، فى المواضع الأربعة التى ورد فيها ، قال تعالى :

  • "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ " ( ) .
  • وقال " وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ "( ).
  • وقال" وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ " ( ).
  • "وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ"( ).

وقد جاءت أطروحات المفسرين كاشفة، عن هذا المعنى ، قال ابن كثير : وقوله "ولا تبخسوا الناس أشياءهم" أي لا تنقصوهم أموالهم. و ورد فى الجلالين : (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) لا تنقصوهم من حقهم شيئا .

ولم يبتعد استخدام الحديث الشريف للفظ عن هذا الإطار نفسه :

"حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا كَهْمَسٌ عَنْ سَيَّارٍ رَجُلٍ مِنْ فَزَارَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ بُهَيْسَةَ عَنْ أَبِيهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَهُ فَدَخَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَمِيصِهِ وَقَدْ قَالَ عُثْمَانُ فَالْتَزَمَهُ فَقَالَ مَا الشَّيْءُ الَّذِي لا يَحِلُّ مَنْعُهُ فَقَالَ الْمِلْحُ وَالْمَاءُ قَالَ مَا الشَّيْءُ الَّذِي لا يَحِلُّ مَنْعُهُ قَالَ إِنْ تَفْعَلِ الْخَيْرَ خَيْرٌ لَكَ قَالَ مَا الشَّيْءُ الَّذِي لا يَحِلُّ مَنْعُهُ قَالَ إِنْ تَفْعَلِ الْخَيْرَ خَيْرٌ لَكَ وَانْتَهَى إِلَى الْمِلْحِ وَالْمَاءِ قِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ تَقُولُ بِهِ فَأَوْمَأَ بِرَأْسِهِ "( )

الثانية : أن عموميته ليست أمرا يتوقف عند الاستعمال اللغوى ، المتداول ، وإنما يتعداه للاستعمال المعرفى العام ؛ فاللفظ مستعمل فى كل العلوم ، داخل فى كل المعارف ، يستخدمه اللغوى، والمؤرخ ، والفيزيائى، والأديب، والفلكى، والفيلسوف وغيرهم ، ورد فى كشف الظنون:

" فاللازم من كون الشيء غاية لنفسه أن يكون وجوده الذهني علة لوجوده الخارجي ولا محذور فيه وأما غاية العلوم الآلية فهو حصول العمل سواء كان ذلك العمل مقصودا بالذات أو لأمر آخر يكون غاية أخيرة لتلك العلوم" ( ).

وجاء فى الحدود الأنيقة :

"الإقرار لغة : الإثبات من قر الشيء أي ثبت"( ) .

مما يؤكد انتفاء التحديد الصارم أو شبه الصارم للفظ ،مما يفسح المجال لإثارة الأسئلة حول المفهوم نفسه :

" ما هو ذلك الشىء الذى اختزلنا فى سبيله المكان إلى أقصى مداه ، ومع ذلك لا نصل إليه ولا يصل إلينا ؟( )

لقد بات اللفظ - لكثرة التداول – يكاد يستعصى على التحديد مما جعل الدكتور عبد الغفار مكاوى يتساءل :

" وما هو الشىء ؟ سؤال بسيط يوشك ألا يسأله غير البلهاء ؟ ولكن لعل الإنسان فى تاريخه الطويل قد أهمل فى السؤال عن حقيقة الشىء" ( ).

وفىالآن نفسه يطرح الدكتور عبد الغفار مكاوى تعددا شيئيا يعد صياغة جديدة للسؤال عن الشيئ :

" الحجر على الطريق شىء ، وكومة التراب فى الحقل . الجرة شىء والنبع فى الصحراء . ولكن ما حال اللبن فى الجرة والماء فى النبع ؟ هذان أيضا شيئان ، كما أن السحب فى السماء أشياء ، وأوراق الخريف فى مهب الريح ، وشجرة الصبار على الدرب المهجور ، بل لعل من حقها أن تكون أشياء " ( )

ويكاد هذا المفهوم يتناسب مع واقع يطلق اللفظ على الكثير من الموجودات: المادى منها والمعنوى مما يجعل منه علامة قادرة على حمل الكثير من المعانى والدلالات التى تخدم الكثير من العلوم والمعارف، إذ يشير إلى غيره أكثر من إشارته لنفسه أو لمعنى داخله يعمل العلم الحديث على الإشارة إليه، ففى الوقت الذى كان الشيء فيه قابلا لأن يحل – على المستوى اللغوى – محل الكثير من الألفاظ نجحت الفلسفة – إلى حد كبير - فى تحديد مفهوم الشىء ناقلة إياه من واقع عام إلى حيز خاص :

" فالأشياء فى ذاتها والأشياء التى تظهر للعيان ، وكل ما هو موجود على الإطلاق ،يعرف فى لغة الفلسفة بالشىء " ( )

و الدكتور عبد الغفار مكاوى لايقنع – علميا – بذلك ، فالأمر من وجهة نظره يتطلب كثيرا من التحديد إذ ليس من الممكن أن نسمى الله شيئا أو أن ندعو الفلاح والعامل والمعلم والغزال والقطة و الجراد أشياء لذا يعمد إلى مفهوم أكثر تحديدا يتناسب مع قوانين العلم والمنطق :

" والأقرب للمعقول أن نسمى كل ما تجرد عن الحياة – سواء فى الطبيعة أو فى محيط الاستعمال – باسم الشىء ، كأن يكون كتلة من الصخر ، أو قطعة من الخشب ، أو كومة من التراب . وهكذا نكون قد خرجنا من المملكة الواسعة التى سمينا فيها كل موجود باسم الشىء " ( ).

المبحث الأولالتفاهم فى منطقة متنازع عليها / فيها .

تعلى النظريات النقدية الحديثة دور المتلقى الذى يمتلك من القدرات ما يجعله يحسن التفاهم مع المبدع عبر منطقة تفاهم تنوزع - وما يزال – عليها، ونعنى النص أو المساحة التى تنازعت النظريات على أيهما يسودها : المبدع الذى رفعت النظريات القديمة من راياته على النص بوصفه صاحب الحق الأول فى المملكة( النصية )، أم المتلقى الذى تجعله نظرية التلقى الأب الروحى للنص ،و منطقة التنازع وإن حملت نتاجا معنويا / تخييليا، فإنها تمثل وسيطا يعد بدوره الأداة / المساحة التى يبث فيها المبدع مجموعة الإشارات، والأدلة، والموجهات التى يستثمرها المتلقى فى ممارسة دوره المنتظر ، وهى مساحة ورقية ( فضاء نصى ) تعد مسرح اللقاء الذى يدخله المبدع والمتلقى متتابعين ، يجتمعا ن فى المكان ولا يجمعهما الزمان، يتأثر كل منهما فيه بالآخر وإن ظهر تأثير أحدهما متفوقا، والمبدع مسئول - بقوة تخيله - عن تشكيل هذا الفضاء مستثمرا قوة العلامات المشكلة خيال المتلقى عندها نحن أمام قوة خيالين أو قوتين من الخيال إحداهما باث مؤثر، والأخرى مستقبل متأثر ( ).

وعملية التخييل بوصفها رابطا بين الاثنين تعتمد على مجموعة من العلاقات اللغوية التى يكون التخييل رابطا فيها بين الكلمات والأشياء بوصفهما عنصريه .

وفى هذا الجانب اعتمد الرومانسيون قوة الخيال بوصفها عنصراً للإدراك ووسيلة لتغيير البشر والحياة للأفضل :

" عرف الرومانسيون أن وظيفتهم هى الخلق ، وأن يغيروا عن طريق هذا الخلق نفس الإنسان الواعية المدركة جميعها ، حتى يوقظوا خياله على الحقيقة التى تقع وراء المألوف من الأشياء ، حتى يرفعوه من رتابة العادة المميتة إلى الوعى بالأبعاد التى لا تقاس والأعماق التى لا تدرك وأن يبينوا له أن العقل وحده لا يكفى " ( ).

عند ما تتكشف أهمية الخيال يصبح من الضرورة أن نتجه وجهة أخرى تتأسس عليها ، مضيفة إليها تلك العلامات التى يتشكل عبرها فى صيغة الالتقاء بين المرسل ( المبدع ) والمستقبل المتلقى ، تلك الصيغة التى تأتى فى مجملها مشكّلة من علامات لها ظاهر وباطن ، علامات لغوية تحيل إلى مفردات تمثل الهيكل الأساسى الذى يقيمه المرسل لمستقبله ، مستمدين تعريف فراى للتخييل الذى يؤكد هذا الهيكل : " التخييل Fiction الأدب الذى كون أساس التقديم فيه الكلمة المطبوعة أو المكتوبة ، مثل الروايات والمقالات " ( ).

والمستوى الأول للعلاقة اللغوية يمثل مستوى مباشراً تعمل فيه الكلمة على ضخ دماء منشطة لخيال المتلقى ، تمهد لاستيعابه أكبر قدر من العلاقات ، والتفاصيل ، والصيغ للنص المطروح فى المساحة بين المرسل والمستقبل ، أما المستوى الثانى فغير مباشر يستفيد من المستوى السابق . ففى المستوى الأول تحيل الكلمة إلى معناها المؤسس على مرجعيتها وخاصة فى السرد ( من حيث إسنادها للراوى أو الشخصية أو كونها مروية بضمير الغائب أو المخاطب أو المتكلم)، والراوى عندما يقول :

" وذات مساء جلست الأسرة حول المدفأة المطلية فى بهو المعيشة . كان شهر طوبة يستوى على عرشه الثلجى والرذاذ لم ينقطع منذ الصباح الباكر . ونظر سليمان إلى ابنيه الرقيقين المتلفعين بالعباءة المخملية المنزلية " ( )

فإننا أمام نوعين من العلامات :

1- علامة متحررة :

وسمتها أن المتلقى لا يتوقف عندها متخيلا صيغتها الشكلية أو هيئتها ( مساء – جلست – الأسرة – لم ينقطع – الصباح الباكر – نظر )، فهى علامات لا يحتاج المتلقى إلى تمثلها وتخيل هيئة حدوثها ، فلا يهم شكل الجلوس أو النظر فى هذا السياق ، وهى علامات تتحرك بحرية عبر الزمن يمكن للراوئيين أن يستخدموها فى أى زمن موظفين إياها ، وتكاد تأخذ شكل الروابط ، أو العناصر الرابطة لهيكل النص .

2- علامة مقيِِّدة :

تلك العلامات التى لا يستطيع الراوى استخدامها للإشارة إلى كل الأزمنة أو الأمكنة والمتلقى إذا ما أمعن فيها النظر قد يكتشف مخالفة لواقع النص ومن ثم يرتفع مؤشر الدلالة المنبنى على قوة الأسئلة المثارة ،و( المدفأة المطلية بالفضة ، العرش الثلجى – العباءة المخملية المنزلية ) لا تصلح لكل الأزمنة الواقعية أو السردية، والنص الذى تدور أحداثه فى بيئة غريب عليها أن تشهد مثل هذا المناخ يكون من المثير للتساؤل حلولها بهذه الصورة .

إن حداً من الحرية فى الاستخدام يجعل هذه العلامات تتحرك فى إطار النصوص مما يضعنا أمام علامات / أشياء لها فعل النص، ولها قوة الدال ونشاطه ولها من قبل قوة العلامة اللغوية التى تشترك فيها مع غيرها مما سبق الإشارة إليه . وعلى الرغم من أن العلامات اللغوية المتحررة قد تحيل إلى فعل عادى فإنها تظل متحررة فى استظهارها للمعنى غير المقيد للمتلقى بخلاف العلامات التى تحيل للأشياء فى كشفها عن ثقافة ما، وخروجها عن حالة نفسية تكون قادرة على التعبير عنها .

العلامات / الأشياء هنا تمثل محددات للصورة المتخيلة التى يبثها النص الذى يمكن الحكم عليه من خلال طبيعته الشيئية وحركة هذه الأشياء فيه،أو تكرار الشئ الواحد أو تجاور الأشياء المتعددة كلها تمثل استظهاراً لهذه الصورة .

وفى مقاربتنا للنص الإبداعى نتابع مستويين للعلامة اللغوية :

  • الأول: الدال:

مستوى اللفظ بوصفه علامة لغوية تمثل مفردة خطابية ( تتخاطب بها الجماعة البشرية ) و تمثل قوة للتخاطب من قبل هذه الجماعة .

  • الثانى: المدلول:

مستوى اللفظ بوصفه مدلولاً ينطبق عليه الدال ( أو يطلق عليه الدال بوصفه علاقة لغوية متعارف عليها ) ونعنى به الجوامد حسب تعريف الدكتور عبد الغفار مكاوى .

أولا :الدال

يأخذ اللفظ طابعاً لغويا صرفا ؛ ينحو فيه نحو اللغة التى هى رموز اصطلاحية للتعامل وإقامة العلاقات بين أفراد الجماعة البشرية ؛ ولفظ الشيء بهذه الصفة يمثل علاقة لغوية متعددة الدلالات ، يجدر لمن يريد تأملها أن يراجع نتاج الثقافة العربية عبر القرآن ( راجع الآيات التى أشرنا إليها سابقا ) ، والحديث ، والشعر، والنثر فلا يصعب عليه أن يتوصل إلى استقرار مفهوم اللفظ الذى تتعدد دلالاته للدرجة التى يشعر المتلقى عندها أن ثمة إبهاما فى اللفظ يتراوح بين نتاج وآخر ولكنه يظل قادراً على التماسك . والصعوبة الحقيقية تكمن فى تتبع اللفظ فى نتاج الثقافة العربية متعددة الجوانب حيث تتعدد الدلالات بين الشعر والنثر ، بين نصوص المتصوفة ونصوص السرد ، بين لغة الخطاب اليومى ولغة النص الإبداعى . ومقاربتنا الشعر العربى تكشف عن قدرة اللفظ على الإفصاح عن أسلوب خاص وقوانين فنية شديدة الخصوصية مما يؤكد ما طرحناه سابقا من تساؤل عن كون الشيء يمثل مفتاحا لقراءة النص وتأويله .

و يمكننا عبر تتبع المفردة فى سياقها الأدبى أن نتوصل إلى نتائج لها أهميتها فى ذلك، فمن الملاحظ أن استخدام العربية للفظتى ( الشيء – الأشياء ) مقارنة بين الشعر والسرد يكشف عن أن الشعر يستخدم المفردتين بالصيغة الصريحة ، يقول الأمام الشافعى :

غنى بلا مال عن الناس كلهم وليس الغنى إلا عن الشئ لا به

ويقول أبو العلاء المعرى :

تشابهت الأشياء أصلا وصورة وربك لم يُسمع له بشبيه .

إحصائيا تزيد مفردة الشئ على الثلاثمائة مرة ، وأعلى معدل لتكرارها يأتى هكذا : ( )

أبو العتاهية : سبع عشرة مرة

البحترى : ثلاث عشرة مرة .

أبو العلاء المعرى : عشر مرات .

وأعلى معدل لتكرار ( الأشياء ) عند أبى العلاء المعرى ، حيث تتردد ستا وعشرين مرة .

شعريا تحتفظ المفردتان بالإشارة للمادى والمعنوى مع الإحالة للمعنى الإيحائي الذى يناسب لغة الشعر ، فالشعر يختزل الكثير من المعانى والدلالات فى المفردة التى تعد بمثابة الوعاء الذى يمكن للشاعر أن يعتمد عليه فى سوق المعنى المراد ، أو بث القيمة الدلالية " فى ذهن متلقيه" .

والملاحظة التى لا يمكن تجاوزها فى السياق الشعرى أن معظم استخدامات الشعراء للمفردة ( إفرادا وجمعا) تأتى فى سياق الحكمة ( لا حظ أن على رأس قائمة الشعراء أبا العتاهية ( الشيء )، وأبا العلاء ( الأشياء ) وهما الشاعران المعروفان بالحكمة والخبرة بالأيام، والإنسان ).

ثانيا: المدلول

إذا كان الشعر يستخدم المفردة ( الشئ/ الأشياء ) بالصورة الإيحائية بوصفها دالاً أو علامة لغوية مع احتفاظه بالحق فى استخدام المفردة بوصفها مدلولاً ، فمغايرة للشعر يتعامل السرد مع الشىء بوصفه مدلولا /عنصرا من عناصر الفضاء السردى الذى يتشكل من الأشياء التى " تعد نسيجا أساسيا فى جغرافيته ، تشبه البشر فى كونها تحمل أسماءها التى تمثل علامات فارقة لها عن غيرها ؛ فلكل مكان أشياؤه ولكل شىء اسمه " ( ).

فى السرد تلعب الأشياء ( الجوامد ) مجموعة من الأدوار نتوقف قبل مقاربتها عند مجموعة من البدهيات :

1- مغايرة طرائق ظهور الأشياء وتقنيات هذا الظهور فى النص السردى عنها فى النص القديم ، فالنص القديم يقدم أشياء القصة فى الوقت الذى يقدم فيه النص الجديد قصة الأشياء .

2- أن وظيفة الأشياء فى الحديث تختلف عن الاستخدام القديم ، وأن مقاربة الأشياء سرديا إنما تأتى عبر الإجابة عن مجموعة من الأسئلة التى تحاول الإحاطة بالموضوع :

  • أ‌- كيف تظهر الأشياء فى النص السردى ؟.
  • ب‌- ما العوامل المؤثرة فى ظهورها هذا ؟ .
  • ت‌- ما المستويات الوظيفية لهذه الأشياء؟.

الشيء تقنيات الظهور

من أين يمكن لمتلقى النص السردى أن يتابع أشياء السرد؟ .

تعد العتبات النصية أولى العناصر السردية التى يمكن عندها أن نتعامل مع أشياء النص السردى ، حيث تتسلل أشياء النص لتتبوأ مكان الصدارة على غلاف الرواية:

1- العتبـــــــــــــــات

( بعد النص ، قبل القراءة )

بعد كتابة النص تنضاف إليه صيغتان تخضعان لمنطقين مختلفين ، تؤثران على عملية التلقى ، وتعدان آخر ما يدخل سياق النص وأول ما يتلقاه القارىء:

1- ( العنوان – الإهداء) ويخضعان لمنطق الروائى.

2- ( لوحة الغلاف ) وتخضع لمنطق القارئ الأول.

1- منطق الروائى

منطق الروائى يظهر عبر ( العنوان – الإهداء ) اللذين يمثلان نصا لا ينفصل عن المتن نفسه ، و المكون الشيئى يعد واحداً من مكونات قوة ماثلة فى الشيء جعلته يحتل مكانه فى العتبة الأولى التى تكون أولى العناصر التى يطالعها القارئ ولا يغُفل تأثيرها عليه فى التلقى، وعندما يحل الشيء فى العنوان يأخذ إحدى صيغتين :

1- الإفراد .

2- التركيب .

الحالة الأولى ، حالة الإفراد يبرز الشيء مفرداً صيغة ومعنى ، وقد ظهر ذلك فى كثير من النصوص :

  1. ( المرايا ) و (الطريق )و( الكرنك) : نجيب محفوظ
  2. (الحجاب ) : حسن نجمى .
  3. (الحبل ) : إسماعيل فهد إسماعيل
  4. ( الدائرة ) : نجدى إبراهيم .
  5. (الخباء ) : ميرال الطحاوى .
  6. ( المسلة) : نبيل سليمان . 
  7. الولاعة ) ( الياطر ) : حنا مينه.
  8. ( الصنم) : أشرف الخمايسى .
  9. ( الجبل ) : فتحى غانم .
  10. ( الأسوار ) : محمد جبريل .
  11. ( الشمندورة ) : محمد خليل قاسم .
  12. ( الأنهار) و ( الوكر) و ( الوشم ) : عبد الرحمن الربيعى
  13. ( الخيوط ) : وليد أبو بكر
  14. (الرغيف ) : توفيق يوسف عواد .
  15. ( التلال) : هانى الراهب
  16. ( السفينة ) : جبرا إبراهيم جبرا
  17. ( الديزل ) : ثانى السويدى .
  18. (الحزام ) : أحمد دهمان .

هنا يبرز العنوان الشيئ بوصفه مدخلا مسيطرا على المتلقى الأول واضعا تصوراً ذهنيا عنده مما يجعله مدفوعا للربط بين النصين:العنوان بوصفه مبتدأ والنص المتن بوصفه خبراً ( ) . والتصور القبلى ( قبل قراءة النص ) قد يحيل المتلقى إلى مالاً تحيله القراءة الكلية ، فعنوان كالجبل يحيله التصور الذهنى قبل القراءة إلى العنصر المكانى المعروف، وقد يمنحه معنى الصمود والتحمل ،وقد يختلف المعنى – وهذا ما يحدث غالبا- بعد القراءة كأن يكون الجبل علما أو صفة لإنسان ، أو معنى كليا للنص ، والعنوان بهذه الصورة يمثل المبتدأ / المعرفة الذى يصح الابتداء به ، و(المبتدأ) العنوان بهذه الصورة ليس فى حاجة لغير النص / المتن ليبث فيه دلالته، و ليمنحه قيمته فى السياق السردى ،ولا ينشغل المتلقى به قبل القراءة التى تحيله العنوان إليها بصورة مباشرة .

يضاف لذلك ملاحظة أن العناوين الشيئية المفردة تلزم فى معظمها وضع المعرفة وصيغة المفرد عدداً إلا القليل منها ( من بين عشرين عنوانا سبق الإشارة إليها ينفرد عنوانان بصيغة الجمع ( الأنهار – الأسوار ) ، فالشيء بهذه الوضعية يقدم نفسه – مبدئيا – مكتفيا بدلالته الأولى ، ومستدعيا تراثا للفظه يتواصل معه المتلقى، وهو ما يتكشف مع بعض العناوين الشيئية ( الوكر – الوشم – الولاعة ) وغيرها مما يستدعى فكرا مسبقا يحركه العنوان نحو ساحة التلقى ويكون مسيطرا على المتلقى بوصفه معرفة قبلية للدرجة التى تفرض نفسها بطريقة قد تسىء للنص فتحمله مالا يحتمل، وتقحم عليه مالا يقول أو ينتوى أن يقول ( ) ، وقد يحرك المتلقى إلى منطقة محاولة المعرفة التى قد لا يقدمها النص ، فعنوان كالشمندورة ، أو الياطر يثير القارئ غير المتكئ على معرفة سابقة بها إلى محاولة المعرفة قبل النص أو المبادرة بالدخول فى النص بحثا عن معرفة بالعنوان ، وهو يكشف عن آلية للتلقى يمكن تسميتها بمحاولة المعرفة السابقة للقراءة حيث يسعى المتلقى الذى أثاره العنوان إلى التعرف على ما يطرحه ولم تسعفه معرفته إلى إدراكه ( ) فيلجأ أحيانا إلى المعجم ليتزود بالمعرفة التى تنقصه ، وهنا يبرز أهمية دور الوظيفة البينية للناقد ( القائمة على العمل الوسيط بين المبدع والقارئ ) فى محاولته تقديم الجانب المعرفى بالنص وكاشفا عن الثقافة التى حركت النص لمنطقة الشيء الغامض فأظهرته معتزة به ، طارحة إياه بوصفه علامة على خيال روائى يمثل صوتا واعيا، ملما بهذه الثقافة .

الشيء ههنا يمثل لدى المتلقى بؤرة للأحداث / النص السردى، إذ يتخيله - بداية – محوراً يدور حوله النص أو تتحرك حوله الأحداث جميعها ، والنص قد يفعل ذلك ولكنها ليست القاعدة التى تنطبق على النصوص جميعها أو ليست القاعدة الملزمة لكل الروائيين، ففى الوقت الذى تتحرك فيه الشمندورة حركة متكررة ، تعاود الظهور كل حين ، ويكون ظهورها منصوصا عليه، لا نكاد نلحظ الحجاب ( بوصفه شيئا ) فى تفاصيل رواية "الحجاب " لحسن نجمى ( ) .

الحالة الثانية :

حالة التركيب حيث يأتى الشيء فى حالة مركبة ينضاف فيها إلى أو ينضاف إليه عناصر أخرى تمثل لوازم أو صفات له أو عناصر تخيلية يطرحها النص ليقيم منها دلالات جديدة ، وتتعدد الأشكال الموضحة لهذه الحالة ولكن تنتظمها صيغتان أساسيتان، يتفرع منهما صيغ أخرى :

الأولى : الشئ سابق على :

أ‌- صيغة زمنية :

حيث العنوان يطرح شيئا مضافا إلى فاصلة زمنية مثل :

- (ثلج الصيف) :نبيل سليمان .

- ( شبابيك منتصف الليل) :إبراهيم درغوثى( )

والعنوان بهذه الصورة يطرح معنى مجازيا ينطلق من العلاقة غير الواقعية ( التى لا تتوافق مع منطق الواقع، وإنما تصنع منطقها المجازى الخاص ) ، فالعلاقة بين الثلج والصيف أو بين الشبابيك والليل علاقة تبدو متناقضة إن لم يتدخل الخيال لحسمها بواسطة المجازالخاص للسياق لفض الاشتباك بين ما هو منطقى وما يبدو غير ذلك ، لقد كسر ثلج الصيف رتابة الواقع وأحدث خللا فى المألوف مما يجعلنا نستشعر أن حدث اقتران الثلج بالصيف كان المحرك لإبداع النص من البداية والرواية تصرح بذلك منذ البداية :

" إن الركود لا يعنى سوى الموت .

وكان لابد للثلج أن يهمى ، لأنه قانون طبيعى ، ولم نسيطر عليه .

وقد دارت فصول وسنون ، لم نكحل عينينا طوالها ببياض الثلج .

ومنذ عدة سنوات هطل فى الصيف .

ضجت السماء بغضب رهيب ، وغاصت الهامات وكان ثمة مسافرون كثر . . . ومشاق . . . وهموم " ( )

وأيا ما كانت دلالة الثلج فإنه قد فرض قانونه وأحدث هذا التغيير الذى يختلف المراقبون حوله سلبا وإيجابا . ولكن إحداث الخلل ينقلنا إلى توازن جديد مؤسس على هذا التغيير .

وفى "شبابيك منتصف الليل" ، يقدم الروائى فاتحة لنصه تطرح مجازية هذه الشبابيك :

" فتحت شباكا يطل على قلبى

فماذا رأيت ؟

....... ليلا !

وماذا رأيت ؟

...... ليلا !

وماذا رأيت ؟

......رأيت ليلا أيضا – " ( )

فعلى الرغم من أن الرؤية تبدو متجهة للداخل، داخل النفس الإنسانية ، فإنها لا تنفصل عن خلل ينتظم العالم الخارجى ، يجعل من شبابيك الظلام محمية أكثر منها مكشوفة ، ومبهمة أكثر منها موضحة ، باسطة لمعنى يمكن إدراكه بسهولة ، وبعد هذا الطرح لا تظهر المفردة فى بقية الرواية مما يجعل المتلقى محتفظا بالمدرك المجازى محاولا تفسيره بما يلائم الواقع النصى .

ب – صيغة مكانية :

وفيها تنضاف الأشياء لعلاقة مكانية يبدو الشيء منسلخا منها ومقدما عليها رغم انسباكه معها فى سبيكة المضاف والمضاف إليه . مما يقوىالإيحاء بأن المضاف يفضى للمضاف إليه الذى يعد أصلا له، ومن هذه الصيغ :

- (زقاق المدق ) : نجيب محفوظ .

- ( نهر السماء) : فتحى إمبابى .

- ( تل القلزم ) : محمد الراوى .

- ( نجوم أريحا ) : ليانة بدر .

والصيغة ههنا تقدم دلالة تكاد تكون متعددة مع ما تطرحه الصيغة من توحد، فالإضافة تطرح أثرا مكانيا يبدو فيه المضاف أصغر من المضاف إليه، ولكن التقدم فى النطق يجعل للمضاف أهميته للفرع على الأصل ، وفى هذه الصيغة يكاد المعنى المجازى يختفى بحلول علامات تمثل أو تعد أثراً من آثار المكان التى يختزلها الأثر فأصبح بؤرة لهذا العالم، وما زقاق المدق إلا رؤية مصغرة – على مستوى المساحة – لعالم كبير نجح الروائى فى تحريك تفاصيله للوصول إلى رؤية شبه شاملة لعالم كبير، يسعى الروائى إلى اختزاله فى هذه المساحة المكانية القادرة – بما تضم من تفاصيل – على أن تمثل العالم الذى اجتزأت فيه خير تمثيل، وهو ما يؤثر على الشخصيات مثلا فتحول إلى نماذج ليست مرئية خارج هذه المساحة .

جـ – صيغة فاعلة :

وفيها يكون الشيء مضافا إلى إحدى الشخصيات الروائية مما يشعرنا بخصوصية الشئ فى علاقته الحميمة بفرد / ذات قد تمثل العالم أو تشير إليه رامزة له ، ولكنها تظل هى نفسها ،ويحتفظ المتلقى بها متفردة بغير ما تشير إليه ، فاستمتاع المتلقى بشخصية روائية ينجح الروائى فى تحريكها أمامه يجعله يرى الشخصية دون ما تطرحه من دلالة ، أو ما تشير إليه من كونها نموذجا لغيرها ( ) .

ومن هذه الصيغ :

-( قنديل أم هاشم ) : يحي حقى .

- (خطط الغيطانى) : جمال الغيطانى .

- (حارة الأشراف ) : سمير ندا .

- (جبل ناعسة ) : مصطفى نصر .

-( تفاح المجانين) : يحيى يخلف .

الشيء يحيل إلى ذات / ذوات يكاد ينعدم المعنى المجازى فى الطرح الأول مما يبث إيهاما فنيا بواقع ما حقيقى ، وفى الغالب يكون الروائى رابطا نصه بواقع مستلهما نموذجا بشريا له مرجعيته شديدة الواقعية ( لاحظ خطط الغيطانى )، ولا يفوتنا الإحالة التاريخية التى قد تطرحها هذه الصيغة عندما تضعنا أمام ذات لها تاريخها وتراثها السابق ( فلا يصلح أن يقدم الروائى تاريخا لطفل ليس له هذا التاريخ ، وعندما فعل سليم بركات ذلك فى روايته " فقهاء الظلام " فقد طرح نموذجا عجائبيا ناسب هذه الصيغة ) ، حيث يبدو أننا أمام شخصية يمتلئ تاريخها بما يستحق أن يحكى ، وبما يجعله قادراً على طرح مادة قابلة لأن تكون تراثا لهذه الذات ، والتراث ههنا لا يكون مرئيا مدركا ، و إلا ما قاربه الروائى وإنما هو تراث مُكتشف مباغت ( أو عليه أن يكون هكذا أو يبدو هكذا للمتلقى ) ليس ظاهراً وإنما هو سبر لأغوار الذات وكشفها بالكتابة .

يقول السارد فى خطط الغيطانى :

لننأ عن الظاهر ، ولنتدل على مهل فى أغوار الباطن لنذكر بما جرى من طيران الحديد ، وسماع اللامسموع ؛ ورؤية اللامرئى ، وانتشار الربا ، وتحريم الحلال ، وتحليل الحرام ، وتفشى العمولات الربوية ، وكثرة الوجوه الأجنبية ، وقلب معانى الأخيار ، رب ، ألق السكينة فى روحى ، قو صبرى وثبت إيمانى ، فى مواجهة الرزايا ، الطف بنا يا مولانا فيما جرت به المقادير " ( ) .

جـ : صيغة شيئية :

وفيها ينضاف الشيء لشيء آخر أو لحدث آخر ، ويكون بصورة المضاف أو الشبيه بالمضاف فى صيغة تعويضية عن حالة الإضافة للمادى أو للمعنوى ومنها :

- (خرائط للموج) : سهام بيومى .

- (تصريح بالغياب) : منتصر القفاش .

وفيها تبدو علاقة التلازم الجديد بين مفردتين قد تبدوان بعيدتين إلى حين ،حيث الشيء الأول قد بات خاصا وملازما للثانى ، وفى خرائط للموج يظل الشيء الأول طارحا معنى حقيقيا إلى أن ننتهى للثانى فيحدث الانزياح إلى المعنى المجازى مما يطرح ثبات الثانى وحركة الأول الذى سعى أو سُعى به للارتباط بالثانى المفتقر إليه ، ومن ثم لا يفوتنا الرابطة الحرفية التى تستقر بين الشيئين ( حرف الجر ) تلك المحدثة للارتباط والفارضة سطوتها فى التقريب أو الإبعاد بين المفردتين واللام فى العنوان الأول أحدث تقاربا واضحا بين الخرائط والموج مع ملاحظة جمع الأول وإفراد الثانى ، خلاف الصيغة السابقة التى قد يحدث فيها العكس .

وفى تصريح بالغياب ينبنى التلازم على حرف الباء الدال على الملازمة ، وفعل التصريح دائما يتعدى بهذا الحرف ( ) مما يجعل الغياب مرهونا بحضور التصريح ، كما يجعل الغياب عن الثكنات العسكرية حضورا للذات فى مكان خارجها ، هنا يكون الغياب محمودا ، مطلوبا ؛ مسعيا إليه .

د . صيغة وصفية ، أو حدثية :

وفيها يسبق الشيء صيغة تعد وصفا له تضيف إليه بعدا مؤثراً فى تلقيه ومنها :

- (الخبز الحافى) : محمد شكرى .

- (التوت المر) : محمد العروسى المطوى .

- (الضوء الهارب ) : محمد برادة .

- (الجزيرة البيضاء ) : يوسف أبو رية

والصفة تمارس امتداداً للشئ قادراً على بث الحياة أو بعث الدلالة فى الأشياء على هذه الصورة الظاهرة ، فالصفة فى مقارنتها بالحال تُعد أكثر ثباتا بحساب الزمن ، ولأن المبدع يسعى إلى اقتناص اللحظة للتعمق فيها فإنه يجعل من أشيائه شيئا ثابتا لإدراكه من ناحية ، ومن ناحية أخرى للتأكيد على أن ماهو غير إيجابى ( وهذا ما يحدث فى عالم الكتابة بشكل عام ) ثابت مستقر مما يجعل الكاتب يدعو لاستيعابه سعيا لتغييره أو التوقف عنده لرأب الصدع ( صدع النص ) المتأثر أو المشير إلى صدع الواقع والخلل الحادث فيه ، المحفز للمبدع على محاولة تجاوزه .

ومن هذه الصيغة أيضا الموصوف النحوى التابع لنكرة ويأخذ وضعيتين :

* نكرة تتبعها جملة :

-( عربة تجرها خيول ) :حسين عبد الرحيم . ( )

أو شبه جملة :

-( حجرة فوق سطح ) : جار النبى الحلو . ( )

* نكرة تتبعها صفة نكرة أيضا :

-( سكر مر) : محمود عوض عبد العال .

-( نوافذ زرقاء ) : ابتهال سالم.

- (حجر دافئ) : رضوى عاشور.

*أو تضم الصيغتين معا :

- (أشجار قليلة عند المنحنى ) : نعمات البحيرى

-(دكة خشبية تسع اثنين بالكاد ) : شحاتة العريان ( )

وإضافة إلى ما تمنحه الصفة من استقرار زمنى ، فإن التصريح بهذه الصفات يعمل على تفخيم الشئ الموصوف وتفعيله قبل الدخول للنص والإمساك بما يحيل إليه العنوان الشيء الذى يأخذ طابع الهدوء ، إذ لا يقترب من الحدث مصرحا به، وإنما بطرحه الصيغة المكانية أو الإشارات المكانية ،فهو يهيئ المتلقى لتقبل الحدث الذى تتكفل الرواية وحدها بتقديمه لمتلقيها .

و الصفة هنا تعمل على إحداث علامات فارقة تميز الموصوف عن غيره ، ورغم صيغة التنكير التى قد تلازم هذا النوع من الصيغ فإن التنكير المحدد يطرح قبل القراءة تعدداً أو إيهاما به يحدث تشوقا لدى المتلقى يتوجه نحو التعرف على ما تعنيه النوافذ الزرقاء أو أسباب مرارة السكر أو طبيعة الحجرة فوق السطوح أو المساحة التى تحتلها وتمنحها الدكة الخشبية التى لا تكاد تتسع لاثنين .

هـ : صيغة متعددة الأشياء بالعطف المتعدد أحيانا :

وفيها تتعدد الأشياء التى تبدو متتالية فى الوقت الذى تطرح فيه تداخلا حديثا :

  • (التاج والخنجر والجسد ) :صلاح الدين بوجاه .
  • (الشراع والعاصفة ) : جبرا إبراهيم جبرا .
  • (الشعلة وصحراء الجليد ) : محمد حسن عبد الله .
  • ( الملاح والسفينة ) : محمد الباردى .

فالعطف بالواو يطرح التداخل لا التوالى ( ) ، مما يعنى تداخل الأشياء عبر أحداثها المشيرة إليها ، ورغم السكونية الظاهرة مبدئيا فى تداخل الأشياء بهذه الصورة فإنها سكونية مؤقتة ، حيث تلعب الأشياء لعبة الرمز الكاشف لما وراءه من دلالة ، والنص يؤيد ذلك ويؤكده ، فالتاج الرامز للسلطان والخنجر الرامز للسلطة والجسد الرامز للضحية ( الشعب ) يقول السارد مفسراً :

" هذه لعبة التاج والخنجر والجسد .

هذه لعبة التاج والخنجر والجسد : فالسلطان ينشد المداورة والرياء تحسبا، وصاحب الجيش معتد بسيفه والجنود ، أما جسد الرعية الرعاع فأعزل حينا . . . . عنيف حينا . . . . مستأثر بالأمر كله فى أحايين كانت . . وأخرى تكون : " ( )

فالأشياء تمثل علامة للسلطة التى تمنحها لإنسان قد لا يكون مالكا لهذه السلطة إن لم يمتلك هذه الأشياء .

العنوان بهذه الصيغة يمنح الفرصة للجمع بين المتنوعات ( ما هو بشرى و ما هو غير ذلك) كما يعطى الفرصة للجمع بين المتناقضات "الشعلة وصحراء الجليد " التى وظفت العنصرين الشيئيين رامزة للعلاقات بين أفراد مجتمع الرواية ، بين جيلين يمثلان رؤيتين للحياة والحب بوصفه رابطا بين البشر ومؤكدا للعلاقات الناجحة .

الثانية : الشئ لاحق لــــ :

ويكون لاحقا فى تركيب لغوى موجز يناسب لغة العنوان ، ويجعل من الشيء موقعا منتهى إليه متخذاً مساحة فى المتخيل ومرسخا لدلالته ومعناه فى سياق إنتاج دلالة العنوان ومنها :

- (أضلاع الصحراء ) : إدوار الخراط .

-( ثرثرة فوق النيل) : نجيب محفوظ .

- (حين عبرنا الجسر) : عبد الرحمن منيف .

- (طعم الزيتون ) : سحر توفيق .

- (عصافير النيل) : إبراهيم أصلان .

- (فئران بلا جحور) : أحمد إبراهيم الفقيه .

-( كلب السبخة ) : محمد الهادى بن صالح .

يستثمر الشيء وجوده فى موقعه هذا مؤكداً دلالته فيتحول إلى ما يشبه الصدى أو ما يتبقى من ترديد التركيب ، إذ هو المعنى المنتهى إليه، ففى" طعم الزيتون" مثلا يتجسد الزيتون بوصفه العنصر المادى الأقدر على تخيله من لدن المتلقى الذى يكون أكثر إحساسا به ، ولأن الأشياء لها وجودها الأسبق – لماديتها – من المعانى يظل المعنوى مؤجلا ، مرهونا بقراءة النص ، بخلاف العنصر المادى ( الشيء ) الذى يكون له السبق فى التجسد والقدرة على مجابهة خيال المتلقى .

وعنصر كالنيل عندما يكون تاليا لعنصر سابق ( ثرثرة- عصافير ) فإن التأويل يداخل العنصرين ولكنه لا يداخل النيل إذ يبقى النيل هو النيل ولا يستطيع المتلقى بداية ( وقبل القراءة مثلا ) أن يؤول النيل أو أن يداخله تخيل أن النيل ليس هو المدرك واقعيا ، الذى لا بد أن يلقى بظلاله على عملية التلقى المتأثرة بهذا الوجود الواقعى ، وفى "كلب السبخة " قد تتعدد الكلاب ولكن تبقى السبخة التى إن أوّلت أو صح تأويلها لسرى التأويل بدوره إلى العنصر الأول (الكلب) وبات قابلا لهذه القوة التأويلية .

الإهداء- التصدير

يمثل الإهداء ، أو العبارة المصدرة للنص( ) – فى حالة وجودهما معا أو أحدهما - المرحلة التالية للعنوان ، يتحول فيها النص بوصفه كتابا من صورته المادية إلى معنى مهدى ، وفى الوقت نفسه يكون صورة معنوية مهداة فى شكل مادى ، فعندما يكون الإهداء متأرجحا بين المادية والمعنوية يتحرك المتلقى بين عناصر تشغل مساحة متسعة بين المهدى ، والمهدى إليهم ، كما أن الإهداء السابق للنص يمثل الكلمة الأخيرة للمؤلف قبل أن يحل السارد محله ، أو العلامة الشيئية الأخيرة التى يبثها المؤلف قبل أن يترك المجال للسارد .

وكثيرا ما يتضمن الإهداء عناصر شيئية تفضى للنص وتطرح نفسها للتلقى بوصفها عناصر داخلة فى نسيج النص ، دافعة المؤلف للكتابة ، وهو النمط الذى نجده فى رواية "قف على قبرى شويا ":

أيها الزائر ليا قف على قبرى شويا

واقرأ السبع المثانى واهدهم منك إليا

فى زمانى كنت مثلك بين طوب الأرض حيا

بعد حين أنت مثلى لست بعد الدود شيا

أهدى هذه الرواية إلى فقيد الشباب الذى لا أعرفه ، وقرأت على شاهد قبره الأبيات السابقة " ( ) ، فيكشف المؤلف عبر الإهداء المركب عن دافعية للكتابة أولا ، ثم هو يفسر العنوان ثانيا ، و عندما يتداخل المتلقى مع النص يجد نفسه أمام تكرار لعنصر ( القبر ) ، المطروح عبر العنوان ، والإهداء ، والنص ، مما يترتب عليه بناء خاص من الدلالة ينضاف للبناء العام لدلالات النص .

، فالإهداء يجعل الكتاب ( شيئا ) ماديا ذا قيمة معنوية، فقد يكون المهدى إليه روحا لا يصلها الكتاب بصورة مادية .

والتصدير يطرح بدوره عناصر شيئية ذات دلالة فى سياق النص ،وهى : - قد تحيل إلى أشياء بلفظها :

- " إنها الأشياء التى :

لا نتوقعها .

لا نتخيلها .

لا نعرفها .

يكفى فى ذلك أننا نحاول "( )

- أو تطرح أشياء بعينها :

شبابيكنا من غير هوا

شبابيكنا من غير ضو

البحر مرصوف بلاط

والأودة وسع النو

عبد الرحمن الأبنودى ( )

3- منطق القارئ الأول

القارئ الأول هو ذلك الفنان الذى صمم العتبة الثانية ( لوحة الغلاف ) تبعا للنسق الثانى من أنساق اللوحة ( ) . وفى معظم الأحوال لا تخلو اللوحة من أشياء الرواية التى تفرض نفسها على مصمم اللوحة لتتبوأ هذه المكانة ولتأخذ مساحة من خياله يكون لها الأثر الأكبر فى خيال المتلقى ومن ثم تدخل بصورة فعالة فى خيال النص أو الخيال المشكل بفعل النص ( ) .

وللوقوف على هذه الحالة نستعرض نسقين : الثابت والمتغير .

فى الثابت نطرح نماذج لطبعة واحدة محاولين قراءة الأشياء عبرها وفى النسق المتغير نقرأ غلافين لرواية واحدة ذات طبعتين مختلفتين .

أولا : النسق الثابت :

فى "تفاح المجانين "( ) يسيطر على الغلاف رسم لتفاحة تحتل مساحة واسعة منه، ويستثمر المصمم ( ) رسم التفاحة جاعلا إياه مسرحا لأشياء متعددة : بشر – تفاح صغير – عنكبوت - باب – شبكة حديدية وكلها أشياء تتساقط من التفاحة، والقارئ يجد اتفاقا واضحا بين المعرفة السابقة للقراءة وما يتوصل إليه من قراءة اللوحة / الغلاف أولا ، ثم من قراءة النص ثانيا .

وفى "تصريح بالغياب" ( ) يتصدر الغلاف رسمان متداخلان: أسلاك شائكة تمثل القطاع الأكبر من الغلاف ، ومستطيل يمثل الورقة الصغيرة المشيرة للتصريح ، أو مسوغ الغياب ، ويمثل عنصر الحماية للجندى فى حركته خارج الثكنات العسكرية وهو رسم يتكرر فى متن الرواية مع الاختلاف بين مضمون الرسمين : الداخلى والخارجى ، (الخارجى بوصفه إطارا والداخلى بوصفه مضمونا) ، وتلعب الألوان بين الرسمين : الأسوار والتصريح دوراً بارزا بين الأسود والأزرق فى الأسلاك الشائكة، والأخضر فى التصريح مما يعطى الإيحاء بالقتامة والانقباض وراء الأسلاك والانفراج والحرية فى التصريح .

وتعد أغلفة روايات نجيب محفوظ من الأعمال التى تسيطر فيها الأشياء المؤثرة على مصممى الأغلفة . ففى "ملحمة الحرافيش" تسيطر على الغلاف الملابس التى يرتديها الأبطال المتخيلون والعصا الغليظة التى تمثل أداة القوة فى مجتمع شديد الإيمان بها بوصفها وسيلة للعيش الكريم وفى "قشتمر" يظهر الطربوش بوصفة علامة على مجتمع الرواية . وفى "بين القصرين" يضاف للملابس المشربيات التى تتسم بها عمارة مجتمع الرواية وفى" الكرنك" يضاف لذلك كله العربة الكارو والمصباح التقليدى المعتلى عامود الإنارة والمشانق والقيود . وتمثل أعمال نجيب محفوظ نموذجا للغلاف الثابت مع تعدد الطبعات بحيث يمكن العودة لأى طبعة من طبعات أية رواية له لاستكشاف هذه السمة المحفوظية .

وفى "أحزان نوح" ( ) تطرح الرواية نوعين من الأشياء :

19- ملابس الفلاحين .

20- البندقية .

فالملابس بوصفها علامة شيئية فارقة تطرح أثرا واضحا على القارئ قبل القراءة وروايات الفلاح تشترك جميعها فى ذلك ، إذ تعد الأشياء فيها ( حين تأخذ طريقها للغلاف ) علامات مؤهلة للدخول فى النص للدرجة التى يمكن من خلالها تمييز بيئة معينة ( ) تطرحها الرواية .

والبندقية فى "أحزان نوح" تمثل العنصر الشيئى الأساسى الذى قام عليه النص، ولولاه ما وجدت الرواية التى تتوالى أحداثها بسرقة بندقية نوح فلم يعدله وجود معنوى بعدها ، وقد كان حدثا جليلا انتبه له الجميع وسيطر على مجرى الأحداث منذ اللحظة الأولى للرواية .

" حدث شئ فى بلدنا . كل شرق البلد هاج فجأة . لغطت النساء وسحب رجال حارة المداكرة عصيهم وخيزرانا تهم وشماريخهم الطويلة واندفعوا فى اتجاه حارة عبد الباسط ومصطبة حسان حنفى ومنتزه الست عيشة .

تجمعت النساء على رءوس الحارات الثلاثة التى تصب فى مرمح التراكوة ، وتأوهن وهن يطرقن كفا بكف وتغيب عيونهن على مرمى البصر ، حيث كل شئ هامد ومتراخ ، والشمس تصب أشعتها على تجمعات البيوت وشجر اللبخ والجميز والجرن البعيد وكل الأشياء ، لغطت النساء وهن يغيمن بعيونهن ، فى آخر المكان : -يادى الفضيحة " ( )

لقد كانت سرقة البندقية محركا للجميع للدرجة التى نشعر عندها أن الرواية نفسها جاءت نتيجة لحادث السرقة ، ومن الواضح أن الأمر سيكون مختلفا إذا ما جاء حادث السرقة فى منتصف الرواية أو آخرها ،عندها سيكون حادثا عرضيا لا جوهريا تأسس على حدث سابق وليس كما تصور الرواية من أن الأحداث كلها ترتبت عليه، وللقارئ بعدها أن يتأول البندقية بوصفها شيئا يمثل الكثير لنوح ، أو لغيره من أفراد القرية الذين سيطر عليهم حدث السرقة.

وفى : "مشوار "( ) تتعدد الأشياء المسيطرة على الغلاف : الطائرة – الوردة – الرسالة – الأهرام – أبو الهول – برج إيفل ، وكأنها أشياء تمثل رؤية شاملة لعالم متعدد المشاهد ، فالرواية تمثل رحلة لراويها يتجول خلالها فى كثير من الأمكنة المستكشفة عبر ثقافتها و أشيائها المشكلة لفضاء الرواية / الرحلة، للدرجة التى يمكننا خلالها أن نستكشف جانبا من طبيعة المجتمع :

هذه الثياب هى التى تساعد على اصطياد الزوج الثرى الذى يفهم بالماركات العالمية هذه " ( ) .

ثانيا : النسق المتغير

وهو النسق الذى تتغير فيه طبعة الرواية، ومن ثم يتغير الغلاف فتظهر أشياء أخرى هى من صميم العناصر المشكلة لفضاء الرواية، ولكن الرؤية الأخرى المنبثقة من القراءة الأخرى ( قراءة مصمم غلاف الطبعة اللاحقة ) تسيطر عليه أشياء مغايرة ،تشكل عناصر الرؤية المغايرة ، ويمكن رصد نموذجين دالين ، اختلف مكان النشر فى الأول، نشرت الرواية فى طبعتيها فى المكان نفسه فى الثانى.

أولهما : "الدراويش يعودون إلى المنفى" ( ) ، فى طبعتها الأولى : جاء الغلاف مفرغا إلى حد ما من الأشياء، فلم تظهر إلا الألوان وظهر شخصان غير واضحى نوعية الملابس ولا يمكن اكتشاف انتسابهما إلى بيئة معينة وإنما يمكن بسهولة بعد قراءة النص استكشاف الجانب الحضارى إذ هما ينتميان إلى حضارة حديثة مغايرة لما يمكن أن تطرحه كلمة الدراويش من ايحاء بملابس ذات طابع خاص .

وفى الطبعة الثانية تشكل الغلاف من لوحة تضم مجموعة من الأشياء، لوحة مصممة من أشياء متفرقة :

شواهد قبور – أحجار – أشجار – أرض خضراء يخرج منها ثلاثة أيدى وخلفية ذات لون أحمر . ويطرح كل هذا دلالات متعددة للحياة والموت والحرية والمعنى الإنسانى الضائع وكلها معان تطرحها الرواية وتؤكد عليها .

ثانيهما : "وقائع استشهاد إسماعيل النوحى" ( )، ففى طبعتها الأولى جاء الغلاف بسيطا مركبا من بقع لونية متدرجة بين الأصفر والأحمر والأخضر . كما بدا الغلاف سرياليا يطرح أطيافاً تحاول أن تعبر عن واقع مسيطر .

وفى الطبعة الثانية اختلف التصميم تماما حيث سيطر اللونان الأخضر الداكن والباهت وتوسط الغلاف لوحة لفنان عالمى (مايكل أنجلو ) يطالع فيها شيخ كبير أوراقا تبدو مخطوطا قديما ، والمخطوط يقارب إلى حد كبير الروح الملحمية للرواية بما تضمه من وقائع وأحداث .

إن حضور الأشياء فى غلاف الرواية متعدد الوظائف ، إذ يشى بعالم النص ويكون قادراً على أن يؤهل الداخل لهذا العالم لأن يتوافق مع الخيوط النصية ، والقارئ الذى يعطى الغلاف اهتماما بقدر ما، يتأثر إلى حد كبير بما يقدمه الغلاف من تفاصيل لا يستطيع أن ينفلت منها أو من أثرها أثناء القراءة ،وإن كان التأثير قد سبق عند القارئ الأول ( المصمم ) فقد لعبت الأشياء دورها بأن تضع نفسها فى دائرة وعيه ومن ثم يسجلها على الغلاف بوصفها نصا منتجا بأثر نص سابق، فتصبح وسائط بصرية للتلقى قادرة على أن تكون نصا جديداً ينتمى للنص الأصلى، وينبثق منه .

المبحث الثانىالأشياء ومستويات الرؤية

من يرى ؟

إن عينا ما ترى الأشياء ثم تعرضها لنا ونحن نراها عبر هذه العين ، وإدراكنا لها يكون أعمق إذا ما أدركنا بداية من الذى يرى وعندها سيتكشف لنا لماذا تبدو الأشياء مغايرة لما نعرفها عليه فى واقعنا . بداية وبداهة يقع الاتفاق على أن مساحة ما ( كبيرة أو صغيرة) تستقر بين ما نراه فى واقعنا وما نراه فى واقع النص من أشياء، وأن الصخور التى نراها فى الواقع ليست هى الصخور التى تطالعنا فى " فساد الأمكنة " ( ) ؛ فالروائى يبدأ من الواقع ولكنه لا ينتهى إليه :

" وإذا كانت نقطة انطلاق الروائى فى التقاليد الواقعية هو عالم الواقع فإن نقطة الوصول ليست هى العودة إلى عالم الواقع ، بل أنها خلق عالم مستقل له خصائصه الفنية التى تميزه عن غيره " ( )

ولأن الكاتب يبدع شخصياته مستقلة بعالمها وإن اشتركت مع غيرها فى مساحة هذا العالم ، فإنه يستفيد من غيرية السارد فى تحقيق هذه الاستقلالية، بحيث لا تتماهى شخصيته ( الروائى ) مع شخوصه ، ومع هذا التعدد ، تتعدد زوايا رؤية الأشياء ، مما يؤثر فى طريقة عرضها وإدراك المتلقى لها .

ويمكننا رصد مجموعة من الزوايا المؤثرة فى العرض والتى تتحدد حسب عوامل :

- الموقع .

- الزمن .

- الاجتماعى .

- التلقى .

أولا : عامل الموقع :

ونعنى به زاوية الرؤية المترتبة على : أين يقف الرائى ( الوسيط ) ذلك الذى يمثل العين المدركة الواقعة فى منطقة وسطى بين المبدع والمتلقى ؟ ، أو هى الوسيط الذى يجعله المبدع وسيلتها للتبليغ ، ويمكن التعرف عليه ، ورصد رصد أنواعه من خلال مقاربة الضمائر المتعددة حسب نموذج تودوروف المعدل فى مظاهر الحكى ( ) :

 رؤية أقرب من الأشياء تتمثل فى الراوى بضمير المتكلم .

 رؤية أبعد من الأشياء تتمثل فى ضمير الغائب .

 رؤية مساوية للأشياء تتمثل فى ضمير المخاطب .

وتتوافق هذه الرؤى مع طبيعة السارد، أو تعبر تعبيرا واضحا عنه .

ففى النوع الأول :

تمثل الأشياء للراوى( الراصد عالمه بالأخص وعالم الآخرين بالأعم) ، حقائق ليست دخيلة عليه فهو يقيم معها علاقة روحية والمتلقى لا يداخله الشك فى هذه العلاقة ، وليس أقدر على تقديم الأشياء بدقة ومن ثم العلاقة بها إلا ضمير المتكلم الذى يجعلنا نرى الأشياء بصورة أكثر واقعية، يقول بوتور:

" إننا نستعمل ، بالطبع صيغة المتكلم فى كل مرة نحاول فيها أن نجعل من الوهم حقيقة وإثباتا " ( ).

للوهلة الأولى نتوقع أن اقتراب الراوى من الأشياء – بحكم اقترابه من عالمه – تجعله أكثر إدراكا ووصفا لها ولكن الحقائق النصية تؤكد عكس ذلك ، ، وضمير المتكلم يجعلنا نرى الأشياء عبر مرورها بالحالة النفسية للوسيط ودرجة معرفته السابقة لها بدرجة يمكننا من خلالها أن نتأول رؤيته هذه بوصفها إظهاراً لما فى نفسه من شعور بالحاجة للأشياء ، جاء على لسان الساردة فى " أشجار قليلة عند المنحنى ":

"ثم وكأننى أدخل الحالة العادية لأهل المدينة رحت أتابع المعروضات ثياب ، وأحذية وحقائب جلدية وستائر ومراتب والحفة وملايات سراير وقمصان نوم وأطقم شاى وسفرة صينى وبايركس وستانلستيل" ( ).

كما تمثل هذه الأشياء حالة المدينة العادية ، و ــ بالمنطق التجارى ــ ما يحتاجه الناس فيها، ودرجة تحفزهم ، فإنها أيضا تمثل واقعا ما تحتاجه الراوية فى رغبتها لاستكشاف المكان أولا، وإشباع حاجاتها من هذه الأشياء ثانيا .

لقد جعلتنا الأشياء نرى الساردة وهى تتوافق مع أهل المدينة اللذين يمكن استكشافهم عبر تحليل الأشياء وملاحظة علاقتها بالحاضر والماضى ، وما هو منها صناعة محلية أو غير ذلك ، ولأن الساردة لا تنسي أنوثتها، فإنها عندما تدرك الأشياء بعد تفحصها تروح تمارس عملية الانتقاء مسلطة الكاميرا على التفاصيل الأكثر وضوحا ، كما تؤكد فى الوقت نفسه معنى إشباع الحاجات :

"راق لى طاقم فناجين قهوة "صينى" منقوش بصور روميو وجولييت ونظرات الحب بينهما" ( )

لقد تحولت الأشياء لمرآة قادرة على أن تعكس الحالة النفسية للسارد ، وفى عمق العلاقة الناشئة بين الساردة وطاقم الفناجين يمكننا بسهولة أن ندرك الإسقاط الذي تحدثه فى الخلفية ، فهى تعيش فى بلد غير بلدها ، انتقلت إليه مع زوجها الذي تحبه وهى عندما ترى روميو وجولييت، فإنها تسعى إلى ترسيخ الحالة التى تعيشها أو تحلم بها وحالتها تشبه بدرجة ما قصة العاشقين الشهيرين ( فقد خالفت أسرتها إلى حين عندما أعلنت رغبتها فى الزواج من رجل ليس مصريا ولا يقيم فى مصر) إنها ترغب فى اقتناء الطاقم لاستخدامه بغرض إحداث التواصل مع الآخرين من جهة ، ومن جهة أخرى ترى نفسها فى النقوش على الطاقم مصرحة "بنظرات الحب بينهما" وهى تحل لنفسها ما فعلت من خلال إعلانها أنها ليست الحالة المتفردة الشاذة كما أن روميو وجولييت ليسا حالة واحدة فتكرار الحالة يجعلها القاعدة وغيرها الشاذ وليس العكس ، لذا لم يكن إيراد كلمة (صور) الدالة على التعدد مجانيا والتعدد قائم على مستويين :

- مستوي اعتبار الصورة واحدة متكررة على كل قطعة من الطاقم مما يؤكد الحالة ويرسخها لقدرتها على التكرار ومحاصرة الإدراك والتعدد أمام بصره ومن ثم أمام بصيرتها وتفكيره .

- مستوى تغير الصورة وأنها ليست صورة واحدة متكررة وأن كل قطعة لها استقلاليتها مهما تشابهت ، مما يجعل من الحالة نموذجا يحق له أن يتكرر ولو لم يكن تكرره بالسيمترية نفسها .

ويمكن للمؤول أن يغوص قليلا ليدرك اختزال الأشياء/ الطاقم لبيئات ثلاثة رئيسية اجتمعت إزاء القارئ :

- الشرق الأقصى (الصين) الذي ينسب إليه المنتج ولو لم يكن مصنوعاً فيه الآن (وما زالت عقلية المستهلك العربى منحازة نحو المصنوع فى الصين بحثا عن الأصالة التى يفترض بوجودها توفر الجودة تماما كالسجاد الفارسى والصوف الإنجليزي وغيرهما)

- الغرب وفيه دارت أحداث قصة الحب الشهيرة .

- البيئة العربية التى تضم بشكل فرعى مجتمعين : مصر بلد الساردة والعاصمة العربية التى انتقلت إليها .

لقد صنع الغرب القانون ، قانون الحب وخلد كتابه القصة ، ونقشها الشرق المفتقر للقانون الإنسانى ، و أسقطت الساردة الحالمة بتكرار النموذج وتطبيق القانون ذلك على حالتها . فإذا ما عرفنا أن الساردة تراجعت عن الشراء تساءلنا معها :

"تراجعت فى شراء طاقم فناجين القهوة وأخبرت البائعة أن الشراء سيحدث فى نهاية اليوم حتى لا أحمل نفسى عبء التحرك به فى شوارع وسط المدينة . أحيانا تأخذنى اللهفة لاقتناء أشياء محببة إلى نفسى . ثم أتراجع عنها دون فهم سر التردد" ( ) .

ولكن اعتماد النظرة السابقة للساردة بإمكانه أن يكشف سر التردد فقد حققت ذاتها من خلال النقش / الأثر الثابت (فى لسان العرب النقش: الأثر فى الأرض والنمنمة) وأشبعت حاجتها المفتقدة الممثلة فى:

1- إحداث التواصل مع الآخرين ؛ فهى الوحيدة فى مدينة تدخلها للمرة الأولى وتختبر الآخرين لإحداث علاقات معهم ، وهو ما يتم عبر استخدام الطاقم فى توثيق العلاقة الاجتماعية مع ضيوفها وزوجها ، وقد تحقق التواصل مع البائعة التى ذهبت إليها لمعاينة الطاقم :

"وبعد أن منحت نفسها فرصة للارتياح راحت تثنى على ثوبى وتسألنى عن مكان شرائه . بش وجهها وكانت عابسة ثم دعتنى لكوب شاى ، وهى تخبرنى أنها تحب مصر والمصريين . أخبرتها أننى أحب القهوة أكثر من الشاى ، ربما لتلك المرارة المحببة فنادت عاملة البوفيه ، كانت مصرية ورقص قلبى حين رأيتها حتى ظننت أننى أعرفها" ( ) .

وكما أن هذا المقطع يكشف عن إسقاط جديد لسر العلاقة بين الساردة والقهوة التى تناسب مرارتها حالة المرارة التى تعيشها، المرارة المحببة لغربتها عن أهلها ووطنها ولكنها تعيش مع حبيبها مما يجعلها بالفعل مرارة محببة ، فإن المقطع نفسه يكشف بوضوح عن الجانب الآخر من سر التردد فقد تذوقت الساردة القهوة وحققت التواصل مع البائعة مواطنة بلد الغربة وعاملة البوفيه مواطنة الساردة المصرية لذا لم تعد فى حاجة لأن تشترى أو تقتنى الطاقم بوصفه أداة التواصل وقد تحقق أو أداة الإثبات وإشعار النفس بصحة المسلك وقد تحقق ذلك .

وفى النوع الثاني : الرؤية الأبعد للأشياء :

يتيح ضمير الغائب للأشياء فرصة كبرى للظهور وما كان السارد بضمير المتكلم فى حاجة إليه من مساحة تبعده قليلا عن الأشياء حتى يتحقق له إدراكها تماما يتحقق بالفعل مع السارد بضمير الغائب .

وضمير الغائب ليس يعنى أن الرواية كلها مروية به ، إذ من الممكن أن نعود إلى أشجار قليلة عند المنحنى" لإدراك الصورة التى ترسمها الساردة لغيرها ممن تروى عنهم بضمير الغائب ، وتعد صورة السيد الرئيس نموذجا واضحا لهذا الرؤية:

كنت أعرف ولع السيد الرئيس بصوره التى ملأت الشوارع والمبانى وكل مكان فى المدينة ، واجهات مستشفى القلب والصدر والأمراض المزمنة ومصحات الأمراض النفسية ومصانع الأسلحة ومعامل الطاقة الذرية والمحاكم والسجون ، حتى جدران دورات المياه العامة ، هذا غير واجهات الجرائد والمجلات . وقد بدت المسألة مثل مفارقة لاذعة السخرية حين أمسكت مرة بمجلة للطهى وثانية للحكاية وغيرها للتطريز لأجد صورة السيد الرئيس تتصدر أغلفتها وحين سبقتنى دهشتى تجاهل "عائد" الأمر بالدخول سريعا فى حديث آخر" ( ) .

لا يتوقف دور صورة السيد الرئيس عند اختزال المظهر السلطوى الذي يمارسه على أهل البلاد ، وإنما يتعداه إلى كونه ممثلا لصورة اجتماعية مغايرة لم تألفها الساردة مما يجعلها تصاب بالدهشة التى تتسلل بدورها للمتلقى ، يضاف لذلك ما يمكن عقده من مقارنة بين الصورتين اللتين تمثلان كيانين مغايرين :

- صورة روميو و جولييت بوصفها نقشا يمثل أثرا محافظا عليه لطبيعته الفنية والجمالية ويشير إلىصيغة عميقة للعلاقات الإنسانية، والتواصل الإنسانى عبر الزمان والمكان (عبور القصة إلى بيئة أخرى واجتيازها حدود الزمان، والمكان ، واللغة) .

- صورة السيد الرئيس المسطحة والموزعة بفعل ليس جماليا وإنما بفعل سياسى ، سلطوى ، ديكتاتورى يجعل من السيد الرئيس نموذجا للقهر والرواية تقدم – عبر مساحة واسعة – مشهدا لعملية التخلص من صورة السيد الرئيس مما يجعلها ترسم حالة قدرية لا يمكن الفكاك منها بسهولة تنضاف ذلك لما يمنحه السياق السردى لها من وظائف متعددة ، منها: كشف حالة الاختلاف القائمة بين أشجان المصرية وعائد زوجها الذي أظهر حالة من الرعب لتورط زوجته فى إلقاء صحيفة تحمل صورة السيد الرئيس فى سلة المهملات :

كانت نظراته تنتفض بشرر لا تطفئه إجابات اللامبالية كما تبدو له ، وكنت ما أزال أحتفظ ببعض من وداعتى فى استقبال هو من الآخرين ، وولعهم بتفاصيل غريبة ، أخبرنى بصوت مبحووح أن صورة السيد الرئيس تتصدر صفحة الجريدة.

- لم أقصد شيئا مما تخشاه .

مسح الزجاج بالجرائد طريقة أكثر شيوعا بين الناس فى بلدى ، وبلاد أخرى .

بدا "عائد" وكأن حشدا من كوابيس اليقظة يداهمه .. صفوف من الخوف والرعب والفزع ، فراح يفرد لى الصفحة لأرى صورة السيد الرئيس المبلولة والمخدوشة مثل وجه مكرمش ومشوه" ( ) .

لقد كانت سطوة الشئ / الصورة أكبر مما تتصور "أشجان" القادمة من بلد شأنها شأن الكثير من البلدان تملي عليها ثقافتها الشعبية أن تستخدم الصحف فى تنظيف الزجاج ، وما يبدو عاديا فى غير المكان بات غريبا فى هذه البلد التى يجعلها رئيسها تحترم أشياءه أو تخاف أشياءه خوفها منه ، فقد حلت الصورة / الشئ محل الذات صاحب السلطة المكتسب نوعا من القدسية وقدرا من الإكراه على الاحترام:

"وفى لحظة وكأنه تذكر شيئا جرى كالممسوس إلى باب البيت ، يفتحه وينظر يمينا ويسارا . ثم النافذة ليفتح خلفيتها ويتبصص فى كل الاتجاهات ثم يرفع سماعة التليفون ، يحدق فيها ويضعها ، حدث هذا أكثر من مرة وكأنه يرغب فى التأكد من شىء ما .

"بدا الخوف نابضا فوق ملامح وجه "عائد" وحركته المشدودة إلى كل أرجاء البيت لم أكن بحاجة لأن أستعطفه أن يهدأ ويرتد عن مخاوفه وكوابيسه هذه مكتفيا بإلقاء الورقة فى سلة قمامتنا أو قمامة الشارع ، وليختتم هذا العرض الكابوس من مهزلة قاتمة" ( ).

عائد – عبر تعامله مع أشياء المكان وخاصة صورة السيد الرئيس – يعد نموذجا لثقافة شعب بأكمله ، شعب يخاف الأشياء قدر خوفه من أصحابها ، وتبدو أدوات العصر كائنة فى بيته لا لاستخدامه لها ولكن لاستخدام الآخرين . فالتليفون يبدو وجوده – كما يراه عائد – وسيلة للتجسس عليه لا لاتصاله أو تواصله بالآخرين .

لقد حركت صورة السيد الرئيس الصيغة السردية، واستنهضت الأشياء للظهور والفاعلية (الباب – النافذة – سماعة التليفون – سلة القمامة – أعواد الكبريت – النار – الرماد) ولم يعد البشر فقط هم الذين يدورون فى فلك الشئ / الصورة وإنما أصبحت الأشياء أيضا يمكن تفسيرها أو استكشاف فاعليتها عبر التصور الجديد .

وفى "شطح المدينة" يقدم السارد وجها آخر لضمير الغائب يتفق مع رؤية أشجان المصرية فى دخول الشخصية لعالم مغاير لعالمها وما تعودت عليه ، المروي عنه هنا رجل جاء إلى مدينة يمعن السارد فى إخفاء ملامحها المفضية إلى ربطها بمدينة فى الواقع المتعين " ( ) .

والرؤية تتحقق عبر منظور الزائر الذي يستقى معلوماته عن الأشياء من مصادر شتى ولأنه ليس عائدا أو مقيما ( ) تتكشف دهشته الواضحة وانبهاره بما يرى :

"إنها البدايات، يشبه الوصول إلى أرض لم يطأها بولوج العالم الحسى لامرأة مبهر اكتشاف دقائق الخصائص الصغرى فى المرة الأولى كل منهن عالم، منظومة بمفردها" ( ) .

ومن منظور الزائر تتعدد العبارات الدالة على اللجوء لمصادر المعرفة بغية استكمال صورة العالم وجغرافيته، ومنها اللجوء لأشياء قادرة على استكمال هذه المعرفة :

  • ترددت شائعات ص13 .
  • يبدو أن ص15.
  • هنا تشير كتب الاجتماع ص15.
  • يؤكد العارفون ص 17 .
  • حدثنى أقدم العمار ص28 .

وتلعب الأشياء دورها فى استثارة المعرفة لدى الزائد الذي يقرأ المدينة وتاريخها وطبيعتها العلمية والثقافية والاجتماعية عبر أشيائها فيعقد فصولا كاملة لوصف :

  • المقهى وصاحبه ص26 .
  • الأزياء ص35 .
  • البرج ص54 .
  • البوابات السبع ص65 .
  • بنايات ص76 .
  • البناية وما شابهها ص79 .
  • متاهة ص 89 .

والخيوط التى تمدها هذه الأشياء تمنح النص طبيعته ، وتمثل مفاتيح قراءته ، والقارئ يأخذ وضعية الزائر وهو يتابع اكتشافاته للأشياء وحكاياتها ، فقد نجح السارد فى تحويل المتلقى من متابعة أشياء الرواية إلى الغوص فى رواية الأشياء وحكاياتها .

وتتسع دائرة وظائف ضمير الغائب فى رؤيته للأشياء ، فالنصوص الروائية العربية فى معظمها تتعامل مع هذا الضمير إذ هو أبسط الصيغ الأساسية للرواية على حد تعبير بوتور ( ) وهو يتيح للسارد استكشاف المساحات الأوسع من التفاصيل لدرجة الاستقصاء أحيانا .

النوع الثالث : الرؤية المساحية للأشياء (ضمير المخاطب) .

لأن الخطاب يحيل إلى لحظة آنية ، لحظة يحاور فيها شخص نفسه طارحا همومه وأشجانه ومرئياته أيضا ، واعتمادا على معرفة متبادلة أو تعاهد بين شخصين متخيلين يعيشان لحظة واحدة ويريان الأشياء فى اللحظة نفسها، ويدركان طبيعتها ،وما توصف به وفى أحيان كثيرة يكون الإدراك كافيا فلا تذكر أشياء اعتمدا فيها على إدراكها الذى يغنى عن ذكرها .

وما يذكر يكتفى فيه بالحد الأدنى من الصفات ، ويختلف موقع الرؤية ليطرح نظرة مغايرة ، فيتوحد الرائى بالأشياء لأنه قادر على التحاور معها ، أو محاورته نفسه عنها .

" كل شىء حولك ، يشف عنك ، يكشفك ، حتى حنفية المياه لا تأمن لها ، نحاسها المجنزر تراه قارا على أن يشى بك ، يصبح أنك هنا واقف تكاد تكتم أنفاسك .

باب دروة المياه مغلق ، لكنك تشاهده وهى تفتحه ، وتنظر لأسفلك نظرة عابرة أو محترمة وتشعر بازرار بنطلونك مفتوحة وبلباسك يتجعد بما يمتد .

الباب مغلق ، وأنت تسمع صوتها ينادى الصول فلا تسمع سوى مناداتها باسمك" ( )

لا يتوقف السارد عند وصف الأشياء وإنما يكتفى بالحد الأدنى من الصفات ، الصفات النحوية أو ذات الصغية الخبرية : نحاسها المجنزر – باب مغلق – أزرار مفتوحة .

ولا يحتاج السارد لإيقاف الزمن، واصفا الأشياء بصفات إخبارية مفصحة ، يفعل ذلك اعتمادا على اللحظة الآتية التى يقارب فيها الأشياء . فالمتلقى يشاركه اللحظة ولا يضعه السارد فى موضع البعيد زمانا أو مكانا مما يجعله قادرا على إدراك الأشياء فى لحظة بروزها وقيامها بدورها ، لذا يلجأ السارد إلى الاعتماد على المدرك البصرى فيرسم التصريح :

تصريح بالغياب

الوحدة /

الدرجة /

الاسم /

يصرح للمذكور بالغياب

من سعت يوم / /

إلى سعت يوم / /

القائد

والتصريح بدوره يتحول إلى لحظة حاضرة متجددة بالإدراك ، فكلما قربها المتلقى وجدها حاضرة بحضور القوة المدركة لها .

السارد هنا ليس متعاليا ولا يفرض رؤيته للأشياء على متلقيه وإنما يعادل بين ما هو موجود وما يجب أن يدرك ، يجعل من نفسه شيئا من الأشياء ، يقدم نفسه فى الوقت الذي تقدم فيه نفسها فلا يميز نفسه بمعرفة شئ ينفرد به .

ثانيا : عامل الزمن :

تتأثر عملية الرؤية بالعامل الزمنى للسارد أو من تقدم الأشياء من زاوية رؤيته ، ونعنى بالزمن خبرة الإنسان بالأشياء عبر مراحل عمره ، فالنص قد يقدم من وجهة نظر طفل أو شيخ، وعندها لابد أن تختلف زاوية الرؤية وتتأثر صورة الأشياء بهذه الزاوية .

يجسم المنظور الطفولى الأشياء ويضخمها ويمنحها من الصفات ما لا يكون مطابقا لواقعها ، متأثرا فى ذلك بمعرفة مستمدة من الآخرين .

وهو يرى الأشياء بصورة مستقبلية تمثل حلمه بالقوة أو ما يجب أن يكون عليه مستقبلا :

فى "الأرض" لعبد الرحمن الشرقاوى يعتمد الروائى على منظور الطفل الذي يرى عصا عبد الهادى علاقة على قوة قادرة أن تتحدى الحكومة :

"همس أحد الأولاد لجاره :

- شوف شعرة الأسد اللى فى صدر عبد الهادى .. بيدعك الشعرة اللى من الأسد.

- وأجابه زميله همسا :

- دا شرانى خالص .. بص له بص كده يا نهار أسوح . العفاريت بتنط قدامه .. دا بعون الله يا بنى يضرب الهندزة كلها .. يسوقهم بالعصا" ( )

- وتظل عصا عبد الهادى مسيطرة على رؤية السارد فيصبح عنصرا من العناصر الملازمة لعبد الهادى كملابسه تماما.

"كان يلبس جلبابا فضفاضا من الكشمير الكحلى ، ويمسك بيده الشمروخ الطويل ذا الشهرة الواسعة بين هواة لعب العصا فى قريتنا والقرى المجاورة" ( ) .

وتصبح العصا طقسا من طقوسه وحركة ملازمة تمثل افتتاحية للفعل .

- "وأمسك بعصاه ، وهزها فى الفضاء ، ثم أمسك بذقنه وتسمر ساعديه ووضع العصا على كتفيه ، وأسند إليها مؤخرة رأسه ، وأرخى عليها يديه ، ودخل حقل البطيخ" ( ).

- وضرب عبد الهادى الأرض بعصاه واقتحم الطريق ، وتحرك الأفندى وزميله ، وعبد الهادى يمشى مسرعا إلى القرية وعصاه تشق صمت الظلام" ( ) .

لقد أسبغ منظور السارد على العصا كل مظاهر القوة وجعل عبد الهادى أداة لتحريكها فأفضى كل منهما للآخر : عبد الهادى يضيف لعصاه والعصا بدورها تمثل علامة مشيرة إلى صاحبها .

وفى تفاح المجانين يأخذ السارد المنظور الطفولى ذاته ، ذلك المنظور الذي يعمل على تضخيم الأشياء ، ويضرب بالقوة كل ما هو مستقر فتبدو الأشياء خاضعة لمنطق القوة هذا :

"وقف بالساحة وقام بألعاب خارقة ، كسروا صخرة فوق بطنه ، ونام على سرير من المسامير ، وجذب بلحيته الحبل فشد السيارة إلى الخلف ثم ابتلع مالا حصر له من المسامير والشفرات" ( ) .

لقد استقطب السارد الأشياء ليضعها فى مواجهة الإنسان ، متحدية إياه إظهار قوته

وبالرؤية نفسها يطرح وعى الصغير تفاح المجانين الذي يمثل استحضارا للمستقبل :

"تفاحة واحدة تجعل منك رجلا .. رجلا يعرف كيف يثأر لكبريائه وكرامته .

وغير بعيد كانت الأشجار الحمراء الوحشية تصهل وتزأر وتنفجر ثم تعيد تكوين نفسها" ( ) .

ولا تقف التحذيرات السابقة حائلا دون تجربة التفاح ما دام قادرا على أن يختصر الزمن ، وتتغلب ممكنات الوعى وأحلام القوة على كل المحظورات :

"كانت تبدو شهية .. طافحة ، تقدم نفسها بشراهة . فأكلتها ،أكلتها دفعة واحدة . وفى الحال تحولت إلى جمرة ، ناولنى ثانية ، وثالثة فصرت سفودا أحمر يقترب من درجة الذوبان ..

ثم أحسست أننى أتحول من ماء إلى بخار . ومن حولى كان البرقوق يتحول إلى عيون أبقار .. وكان ثبات عرف الديك الذي يتوج رأس تلك الطيور الصلفة ينبت على كتفى وعلى رءوس أصابعى" ( ) .

لقد حدث التحول ، ولكنه تحول على مستوى الداخل (الوعى) لا الخارج ، لقد أثرى الخيال بالمعرفة المدركة عن التفاحة فشوهد الواقع من زاوية جديدة ، زاوية حالة التحول الذي يرى السارد نفسه فيه :

- ها قد أصبحت قويا .. قال بدر العنكبوت ، وبعدها ، دحرجنا بعض الحجارة الكبيرة من القمة إلى سفح الوادى ثم تصارعنا ، فأوقعته أرضا وقررنا الانتظار حتى المساء لنبدأ الهجوم على الشاويش حسن" ( ) .

ومن أعلن القوة وقع أرضا فدلل على زيف الإعلان ومن شعر بالقوة انتظر الظلام للهجوم ، فالقوة مزيفة ، والرواية إذ تعمد إلى هذه الرموز / العناصر (الطفل – التفاح) تحسن توظيفها رامزة إلى منطق زمنى واضع المعالم ، فالكبار لا يثورون بالقدر الذي يثور به هؤلاء الصغار وفى الوقت نفسه يستثمر رمز الطفل للإحالة إلى طفولة من هم فى وضع المحتل ، حيث يحققون بطولة مزيفة لا تعتمد على قوة حقيقية ، على سلاح قادر على مجابهة العدو يمثل أسلحته، والخال الذي يفتقد البندقية عمليا يلجأ إلى طرحها نظريا على وعى الأطفال محققا شيئا فى نفسه ومدعما الوعى الطفولى بمداعبة خيالهم بوصفه الوسيلة الوحيدة – أو تكاد – للمعرفة :

"أمسك الخال بقلم الرصاص وأخذ يرسم البندقية:

رسم فوهتها.. رسم الماسورة.. رسم القبضة.. رسم كتلة الترباس.. رسم الأخمص.. رسم النابض.. رسم الزناد.. رسم الفرح والدهشة والانبهار.. رسم الفضاء.. رسم المسافات الشاسعة.. رسم الرمال وقطرات المطر" ( ) .

تحول الرسم إلى نص أدركه المتلقى ( المهيأ لتأويله) حال تلقيه، فالأشياء فى تسللها إلى الخيال الطفولى انتقلت من حيزها المادى إلى حيزها المعنوى ، وعوضت الصورة فقدان المادة ، وقد نجح الروائى فى بث دلالة الأشياء ، فاللجوء للتفاحة – مع ما يطرحه من مرجعية تتناص مع ما يحمله التراث العربى عنها وعلاقتها بالإنسان وخروجه من الجنة – كان وسيلة العاجز المقهور الذي يصر على ألا يستفيد من قوانين الواقع ومنطقه ، فالعدو : القريب الشاويش حسن ، والبعيد الممثل يمتلك كلاهما سلاحا أقوى بكثير من سلاح التفاحة المانحة القوة المزيفة، والمجتمع أو الجماعة البشرية غير المدركة متطلبات واقعها هى كالطفل فى وعيه حين يتخذ من الحمار قدوة ، وقد أكل الحمار التفاحة فصار مجنونا، و لم يتعظ مما أصاب الحمار فجعله أداة للتدمير لا للحصول على الحرية أو الفوز بما هو إيجابى . وقد أحسن الروائى فى تحريك الأشياء متكئا على رؤية الطفل أو الوعى الطفولى، فالحمار فى ثورته لم يخلص الحارة أو أهلها من سطوة المحتل ولا انتقم من الشاويش حسن، وإنما خرب ودمر ما يعتمد عليه الناس فى معيشتهم من أشياء لا يحصلون عليها بسهولة :

"داهم فى البداية حقل البطيخ مدحرجا كسرات البطيخ ، شاجا رؤوسها ، مسيلا دمها الأحمر" .

وبعد حقل البطيخ ، داهم بيوت النور ، رافسا من اقترب منه قاطعا حبال الخيام ، قالب الجرار والغرابيل وأقفاص الطيور .

دب الذعر ، فهرب الرجال ذوو الشوارب المعقوفة والنساء ذوات الأثواب المزركشة والأطفال العراة . وصل محطة البنزين …" ( ) .

ويمكننا – تبعا لهذه الزاوية – أن نتوقف عند زاوية زمنية أخرى تتمثل فى السارد شابا أو على أعتاب مرحلة الشباب، فالروائى يستثمر هذه المرحلة فيجعل العالم يتحرك تحت وعيها وبتأثير من خبراتها .

فى "أيام الإنسان السبعة" تتفتح حواس عبد العزيز على العالم فلا ينشغل وعيه بأشياء طرحتها كثيرا رؤية الفلاح التى كانت غالبا تهتم بالغرائبى والخرافى فتظهر العفاريت والأشباح فى ظلام القرية أو فى الأماكن الخلاء والمهجورة نهارا ، وإنما تسيطر على عبد العزيز روح الحب والتفتح للعالم لذا يأتى منظوره لعالمه رائقا صافيا رغم تعاسة أهل الريف والأشياء تعمل على إحداث الاستدعاءات التى يشعر المتلقى إزاءها بأن العالم يتحرك حركة سهلة ميسورة لا صعوبة فيها ، تسيطر على حركته روحانية عالية .

من هذا المنطلق لا يقف عبد العزيز الشاب عند الأشياء فى ذاتها، لها حضورها المجرد فى العالم وإنما هى أشياء تستدعى حكايات وأشخاصا وواقعا حيا ، وهو عندما يدرك العالم يرى الأشياء علامات تحافظ على القيم والأعراف التى تستقر فى عالمه .

فالأريكة علامة على مكانة صاحبها ولو غاب عنها ( ).

وحضور الحصير مطروحا على الوعى يجعل الحكاية تنساب كاشفة عن قصة الشيء / الحصير :

- افرش الحصر يا بنى .

- حاضر يا عم الحاج .

وتفرش الحصير البيضاء الناصعة على أرض الصالة المبلطة ، شمعية البياض هذه الحصر ، تقسم صفاءها أحجبة ومربعات ملونة بالأحمر والأخضر ، حصر جميلة ضعها الرجل الصالح سيد من محلة منوف …" ( ).

ويروح السارد طارحا حكاية الرجل الصالح سيد ، مما يجعلنا ندرك الإنسان وقد أفضى إليه الشىء أو جاء فى سياق الأشياء ،وعبد العزيز المقبل على الحياة لا يرى فى الحصير إلا ألوانا زاهية صافية ، جميلة ، بيضاء تمثل انعكاسا لهذه النفس الصافية البكر التى لم تتلوث بعد ، والحصر تفتح مكان الحكاية أمام المتلقى فلا يظل خياله حبيسا لمكان الحكى ، وإنما يأتى الاستدعاء لصانع الحصر بوصفه انطلاقا يفتح مكانا جديدا ، ويطرح حركة محركة للخيال كما يصور صانع الحصر بالسندباد البرى الذي تحركه أحماله :

"إذا ما أعجبته تحفة من الحصير ، مصلى أو مفرش دكة طواها وحملها على خاصرته – على طريقة أهل مهنته – وجاء بها من قريته إلى الحاج كريم ، طريق طويل ، يقطعه مارا بالناس والحقول والقرى تؤنسه التراتيل والتسابيح ، يقرئ الناس السلام حتى العيال الذين يلعبون بالتراب .. وحينما يصل ويضع حمله يجلس صغيرا ساكنا كحمامة لا يصدر منه إلا صوت حسوات القهوة من الفنجان المزركش الكبير ثم ينهض منصرفا ويعترض الحاج كريم :

- ريقنا ما اتبل من لقاك يا شيخ سيد .

- إرادة ربنا .

- لقمة ..

- ما فيش نصيب" ( ) .

ليكن الشيخ سيد متحركا بفعل الحب للحاج كريم ولكنه فى كل مرة يسعى للوسيلة "الحصير" الأجمل ليتقرب به إلى محبوبه ، فإذا لم توجد التحفة غاب الشيخ سيد الذي يأخذ بعده الجسمانى من عمله وعبد العزيز يدرك ذلك :

"بيديه خشونة وصلابة غريبة كأنهما أظلاف ، ربما ذلك من كثرة ما تدكان السمار على الخيطان فى مهنة الحصير" ( ) .

ولم يتوقف الأمر عند ملاحظة اليدين وإنما يتعداه إلى ما يحرك أفكار عبد العزيز ويطرح عليه ما يجعله يتساءل :

"ترى هل تكمن إرادة الله فى صلابة اليد الغريبة" ( )

وهو تساؤل الوعى الذي لم يختبر الحياة بعد، و تحركه الأشياء للتساؤل دون أن يدرك شيئا من كنه العالم الذي يعايشه .

ثالثا:العامل الاجتماعى

يتيح الوضع الإنسانى للفرد فى مجتمعه أن يتعامل مع أشياء دون غيرها، وتتحول الأشياء لديه إلى : متاح، وممكن، ومستحيل بعيد المنال ، ويحسب سعادته أو شقاءه أو حرمانه فى الحياة بمقياس اقترابه من الأشياء ، أو امتلاكه لها ، وما يحرك رجل المدينة من أشياء يختلف عما يحرك رجل القرية ، ومن هم فى أدنى السلم الاجتماعى يتعاملون مع أشياء تكشف عن طبائعهم ووسطهم الاجتماعى خلافا لما يبدو عليه الأمر عند من هم فى أعلى السلم ، والسجين لا يرى الأشياء كما يراها من يعيش حراً تنبسط أمامه مفردات الحياة جميعها بأشيائها المتنوعة ، المتعددة .

وحين تتحرك الأشياء من منظور السجين يصبح الداخل واقعا مرفوضا والخارج واقعا مسعيا إليه ويختلف النطاق الوظيفى للأشياء إذ ما هو فى الخارج اختيار قد يتحول إلى العكس خلف الأسوار .

الشطرنج فى "المستنقعات الضوئية" لإسماعيل فهد إسماعيل يقوم بدور المستهلك للوقت أولا ، وقت لابد أن يمر – مع ثقل مروره – ولكنه محكوم بنظام إجبارى، كما يمثل الشطرنج علامة الصراع الذي يعيشه "حميدة" فى السجن وبالقدر نفسه خارجه ثانيا .

داخل السجن يدور الصراع بين العقول المدبرة ، بين الصياد والفريسة التى وقعت فى شباكه ، كيف يحافظ السجان على مسجونيه؟ ، وكيف يمر الوقت على المسجونين بأقل الخسائر النفسية والمعنوية أو كيف يحاولون التخلص من سطوة السجان؟ وهذا ما يتكشف من خلال الصراع النفسى بين السجان ومدير السجن عبر رقعة الشطرنج.

"وكان المدير ينشغل بتحريك إحدى قطع الشطرنج

- حميدة

بينما راح شريكه فى اللعب يعقد حاجبيه مفكرا:

اللعين يجيد اللعب وضع وزيره فى المكان المناسب بعد حركتين سيقضى على ملك المدير ، والمدير …" ( )

ولكن وظيفة الشطرنج لا تتوقف عن ذلك الحد ، فهناك وظيفتان تكمنان فى العمق:

1- التعبير عن الصراع بين الزوج (حميدة) وصديقه المخلص فهما يجيدان اللعب دون زوجته .

"صديقى المخلص يقضى معظم وقته معنا.

هو وأنا نجيد فى لعب الشطرنج، حاولت أنا وكذلك هو.. لكننا فشلنا، ولم تتعلم هى لعب الشطرنج. كانت تقول:

- أكره لعب الشطرنج، هو يسبب لى الصداع " ( )

ولكن قوانين اللعبة، الصراع أصبحت فى يد الصديق المخلص المتمتع بحريته وبزوجة صديقه (السجين) مما يجعله (السجين) غير قادر على استثمار إجادته السابقة للعب فقد أصبح الشطرنج علامة على ماض لا يستطيع أن يتخلص من سطوته، إذ يكون حضوره قرينا الشطرنج الذي يمثل – إضافة إلى ما سبق – علامة على الزوجة وحبه لها ، فقد أهمل اللعبة لأنها صرحت بكراهيتها لها .

"ثم هناك رقعة الشطرنج ، وذلك الماضى الموغل فى الذاكرة ....

الأصدقاء والتحدى

- أنا أكره الشطرنج .. هو يسبب لى الصداع" ( ) .

2- ثم تأتى الوظيفة الكبرى (الأعمق ) للشطرنج ، والمعتمدة على تكرار ظهور رقعة الشطرنج – تصريحا أو إيحاء – الذى يتوازى مع ظهور المستنقعات الضوئية ، والأمر بداية يتوقف عند الصورة المتخيلة لكل منهما ، فالشبه كائن بين الشبكة الضوئية المكونة من لونين الأبيض (الضوء) والأسود (الظلام) ، ولونى الرقعة (الأسود والأبيض ) ، وإذا كان الصراع على رقعة الشطرنج صراعا كليا أطرافه الجميع وهو يبدو صراعا تغلب عليه المادية (وجود الذات المضاد لوجود الآخر) فإن الصراع الذي تمثله المستنقعات الضوئية يمثل صراعا كونيا لازما للبشر جميعهم على اختلاف مشاربهم ، صراع الحرية أو الحصول عليها حين افتقادها ، وفى الوقت نفسه كانت المستنقعات علامة على ما أصاب نفس حميدة من ثقوب تشبه تماما المستنقعات فى ثقوبها بفعل الخارج المضىء ( وما حدث لحميدة كان كذلك بفعل هذا الخارج الذي لم يكن موضوعيا حين زج به فى السجن) ، وهو إذ يراقب المستنقعات يراقب نفسه/ داخله، ويستشف المتابع لحضور المستنقعات ما يمكنه من تأكيد ذلك ، فحضورها يتكرر حسب رؤية حميدة ثلاث مرات تمثل فى كل مرة كشفا جديدا حسب سياقها المختلف :

(1) حميدة ينشغل عن أحداث السجن بالمستنقعات :

"لكن حميدة لم يعلق بشيء ، عيناه تتابعان الكوى الصغيرة التى صدته ، لكن النور بالرغم من صغر الكوى ووجود القضبان ينفذ إلى الرواق . ويسقط على الأرض المعتمة ليرسم مستنقعات ضوئية" ( )

ولا يفوتنا هنا ما يمنحه السارد (السجين) من وصف للكوى ، فهو لم يفعل ذلك عند ذكره لرقعة الشطرنج التى يعتمد فى تصور المتلقى لها على كونها مدركة خارجيا ، توجد فى خارج يعيشه المتلقى ، ولكن المستنقعات ليست حاضرة هناك فى الخارج لذا يأتى وصفها ترسيخا وتقوية لحضورها ، يضاف لهذا السياق مجموعة الملامح التى تعبر بدورها عن وظائف فى حد ذاتها (كوى صغيرة – جدار مرتفع – قضبان حديدية صدئة – الأرض المعتمة) ، فالمفردات قادرة على بث معنى السجن ومخالفة واقعة الظلم لواقع الخارج المضىء .

ويأتى الاستدراك (لكن) كاشفا عن روح التحدى لهذا النور الذي يتشبث به السجين ويستمد منه القدرة على مواجهة الداخل البارد المعتم ، والسارد فى المرة الأولى يعبر عن المستنقعات باللفظ النكرة إذ هى غير محددة الدلالة بالنسبة له ، أو بالنسبة للمتلقى الذي يعد تنكيرها علامة على جهله بها بداية ، خلافا للمرة الثانية التى يصبح هناك التقاء فكرى من نوع ما بين السجين ومتابعه فتتحول المستنقعات إلى منطقة المعرفة العهدية بين الاثنين .

(2) حميدة يستعد للخروج مع المدير :

يغامر المدير بأن يقترح على السجين أن يخرج لمشاهدة فيلم زوربا الذي يرى أنه يشبه حميدة :

"واحتواه الرواق الطويل المعتم . وبلا وعى منه راحت عيناه تتابعان المستنقعات الضوئية التى يرسمها النور القادم من كوى فى أعلى الجدار .

هى تضفى على الظلام وحشة محببة" ( )

بدت الظلمة محببة لأنها صارت مؤقتة ، مؤهلة لملاقاة المنبع (النور) الممثل للحرية ، بالقوة – حسب ثقته فى المدير – أصبح حميدة فى الخارج لذا كان عليه – بلا وعى منه – أن يتابع داخله ، يستكشف وقع التجربة عليه، ومدى استيعابه لها وهو السجين الذي قضى سنوات سبعة لم ير فيها نور الحرية وتراوده كوابيسها ، ومع اقتراب الموعد يزداد التصاقه بالداخل ، داخل نفسه وإحساسه بأن الخارج أصبح لا قيمة له بفقده حريته وزوجته لذا لم تعد أضواء المصابيح أو أضواء الداخل بقادرة على أن ترسم هذه المستنقعات .

(3) حميدة يستكشف داخله المظلم :

"الرواق طويل ، النور الباهت الذي ترسله المصابيح القذرة المعلقة فى السقف لا يكاد يبدد وحشة الظلام ، ولا يرسم مستنقعات ضوئية على الأرض" ( )

فقد أظلم الداخل لأن قرار الخروج كان مباغتا، وحميدة يعلم أنه مؤقت مما يجعله يشعر أنه يوضع بين شقى الرحى ، فهو لا يريد الخروج لأن زوجته( رمز الخصوبة والحب ووجه الحياة الآأخر لديه ) قد افتقدها، وفى الوقت نفسه لا يحب البقاء فى سجنه ،ولا يريد أن يقابل إحسان المدير بالإساءة إن هو فكر فى الهرب ، وفى الوقت الذي أظلم فيه الداخل كانت "الأنوار ساطعة فى الخارج والحرية كان بالإمكان أن تكون ساطعة لو أنها … لعلها الآن …." ( ) .

فقد تم القضاء على حميدة بوصفه إنسانا ، مستسلما، فاقدا الحافز لحياة فقد معناها .

لقد بسطت رؤية السجين عالم الأشياء وتشكلت جغرافية العالم ولا يتوقف الأمر عند الشطرنج والمستنقعات ، إذ يمكن للمتلقى تتبع الكثير من مفردات الأشياء ،مفردات الخارج المستدعى والمرتبط بالحادثة الذي راح حميدة ضحية لها ، وقد استراح أطرافها بالموت وظل حميدة باقيا شاهدا على العذاب الإنسانى ، ومؤهلا لأن يشير تلميحا إلى الخيوط التى تنسج حوله وهو المثقف الذي يسعى لإصلاح الكون حسبما يتيح له وعيه بنفسه وبعالمه وبقدراته الكامنة .

من مفردات الخارج : المسدس ، الخنجر ، فى مقابل المعول فى الداخل، الأول وسيلة للقتل ويمثل مع الخنجر سببا لدخول حميدة السجن ، ماذا كانت النتيجة لو لم يعمل المسدس أو الخنجر؟. هل كان للمعول حضور وهل كان للنص أن يكون أيضا ؟ .لقد انبنى النص على حضور الأشياء التى تحركت عندما أحس أصحابها أنهم قادرون على تغيير العالم أو تغيير حالة الأخت العاهرة بوسيلة ربما لم يكونوا على دراية بما ستجلبه على غيرهم ، من هنا كانت حركة أشياء الخارج مؤدية إلى حركة أشياء الداخل بل ومستحضرة وجودها .

والمعول عندما يهوى على الأرض الصلبة فإنما يحاول تحطيم قسوة الحياة التى تتكشف اولى ملامحها عند افتقاد الحرية .

- "أهوى بالمعول على الأرض الصلبة" .

أشغال شاقة ، كلهم أشغال شاقة ، إلا أنت ، أشغال شاقة مؤبدة .

أنا وارث هذا السجن ، جدى حمورابى أورثه لأبى هارون الرشيد ، وأبى هولاكو أورثه لى …" ( ) .

- "أن تنخدع لسنة ، فذلك أمر محتمل

واقتلع المعول من الأرض

أما أن تنخدع العمر كله …

ثم أهوى به ثانية" ( )

ورغم طلب السجان من حميدة أن يستريح :

"عاد وانحنى ثانية على المعول" ( )

فقد باتت راحة حميدة الحقيقية فى أن يتخلص من قسوة الصخور بوصفها المعادل أو الرمز لقسوة الحياة والآخرين ؛ لذا لا يأبه بنصيحة السجان ويروح ينصت لعمل المعول الذي يفتت الصخور ولكنه فى الحقيقة يفتت الأشياء التى يرى حميدة أنها تستحق أن تختفى من العالم ، وهى ليست أشياء مادية فحسب وإنما هى أيضا أفكار يحلم بتخليص العالم منها وعندما يحل موعد الراحة لا يخلع المعول من الأرض ، فهو يعول على فعله الدائم ودوره الذي يحتاج إلى مجهود كبير ليصل إلى ما يطمح إليه :

"أعلنت صفارة السجن عن بدء فترة الراحة .

المساجين يهرعون ضمن مجموعات صغيرة نحو أقرب ظل ، حميدة يترك معوله منغرسا فى الأرض " ( ) .

ثالثا:عامل المكان :

عندما يقارب الروائى مساحة تمثل فضاء نصه فإن تشكيل جغرافيتها تأتى موافقة لمجموعة من الطبائع :

- طبيعة البشر : علاقاتهم – أعمالهم – ثقافتهم .

- طبيعة العصر والبعد التاريخيى : فالنص الذي يستلهم فترة تاريخية يستدعى أشياءها كما يستدعى مفردات المكان الذي ننتقل إليه مع الروائى ، والنص الذي يتجه للمستقبل يصنع أشياءه المغايرة التى تبدو متخلصة من أو متطورة عن أشياء الحاضر أو الماضى أو مطورة أدوات الواقع خارج النص .

- وتلعب طبيعة التقسيمات الجغرافية دورها الواضح فى أثر ظهور الأشياء ،حيث المكان أحياز أو دوائر لا متناهية تبدأ من التقسيمات الكبرى :

- الماء – اليابسة .

- الحضر – البادية .

- القرية – المدينة .

- المدينة – الصحراء .

- الحى – الشارع .

- الشارع – الحارة .

- الأمكنة العامة – الأمكنة الخاصة .

وتنتهى بالجسد بوصفه مكانا تلازمه أشياؤه الخاصة ، وكل من هذه المساحات والفضاءات له أثره فى :

  1. غياب أشياء وحضور أخرى .
  2. تعدد الأشياء (ازدحامها) أو تقلصها عدداً .
  3. طبيعة الأشياء ونوعيتها (حديثة – قديمة – خشبية – حديدية – ذهبية – قماشية – نباتية) .
  4. علاقة الإنسان بهذه الأشياء .
  5. مدى فاعليتها فى مكانها .
  6. قدرتها على تحريك المتلقى نحو تفعيلها ، وقدرتها من ثم على الحضور فى ذهنه أو حال تلقيه .
  7. تكرار أشياء بعينها تمثل طبيعة للمكان .

ويمكن مقاربة هذه الأحياز لاستكشاف أشيائها عبر طريقتين :

  • المقارنة بين مكانين لهما طبيعة واحدة : (قريتين – أو مدينتين تظهران عن ساردين مختلفين) ( ) .
  • إدخال عامل الزمن بالمقارنة بين نصين سرديين فى زمنين مختلفين ( ).

إن طرح الأشياء عبر زاوية رؤية الروائى ، وحسب منظوراته المتعددة التى تبدو عبر شخصياته تنتج نوعا من الفلسفة ، أو الرؤية الفلسفية للأشياء ، تبتعد حتى ترى الأشياء فى عمومها ، وتقترب حتى تراها فى خصوصيتها ، يقول محمد الراوى فى "تل القلزم " :

قد نستسلم للأشياء فى أشكالها الظاهرية ، نأخذها كما نراها فى المرة الأولى أو المرة الألف ، ويعبرها البصر ، وقد يجوس البصر فيها ولكنه لا يغيرها ، إنما يألفها وتفاعل معها . وإذا كانت الأشياء ذات كيان وتاريخ قديم ، فإنها تستطيع بدورها أن تألف العين حال وجودها ، وتعطيها الكثير ، وتمتزج بها فى دورة العمر .

العين تعاشر الأشياء أيضا ، وإذا استسلمت للمعاشرة فإنها تعانى باستمرار من ركود المعرفة فى الأشياء " ( ).

والمقطع السابق يمثل صوت الروائى حيث يأتى فى الاستهلال سابقا كل الأصوات الممثلة للشخصيات والمعبرة عنها ، مما يجعله صوتا خالصا فى إحالته للروائى ، وكاشفا عن رؤيته الفلسفية للعالم .

المبحث الثالثالمستويات الوظيفية للأشياء

من الصعوبة بمكان أن نحصى الوظائف المتعددة للأشياء خارج النص أو داخله ،إذ يصاحب عملية رصد العلاقة بين الإنسان وأشيائه قدر من التعقيد الذى قد لا تفسره نظريات علم النفس ، والعلاقة الروحية - أو شبه الروحية - الرابطة بين الشخصيتين : الأولى الحقيقية ( الإنسان ) ، والثانية الاعتبارية ( الأشياء ) لا تخضع لقانون واحد أو عدة قوانين محددة يمكن خلالها أن نفسر هذه العلاقة الموسومة بالتعقيد .

إذا كانت الأشياء التى تبدو خاصة بصاحبها تفسر الكثير من طبيعته ودواخل نفسه فما تفسير الأشياء التى تخص المدن والقرى والتشكيلات العمرانية الأخرى؟. إن كثيراً منها يدل على ثقافة المدينة وحضارتها ، أو مدى تحضرها ، وفى الوقت الذى تحسب أشياء الفرد للعامل النفسى والحالة الاقتصادية ، فإن الأخير ( العامل الاقتصادى ) قد لا يكشف طبيعة المدن الاقتصادية تماما.

لذا تبقى العلاقة خارج النص الأدبى غير مفسرة ، وغير دالة بالمعنى الدقيق خلافا للنص الأدبى الذى يكاد كل شىء فيه أن يكون دالا ( وذلك محكوم بقراءة واحدة) فما لا أعول عليه أنا فى التأويل يعول عليه غيرى ، والعكس صحيح لذا على المستوى الفردى أو على مستوى القراءة الواحدة يكاد كل شىء فى النص يكون دالا ، وعلى مستوى القراءات المتعددة فكل الأشياء دالة ومعبرة وقادرة على أن تكشف عن طبيعة ما ، أو حقيقة ما قد لا تظهرها إلا الأشياء فى نص تخييلى يعتمد صاحبه على أن ينتقى، ويختار، مناسبا ورابطا بين الأشياء ذاتها من ناحية وبين الأشياء والإنسان من ناحية أخرى ، ويكون حريصا على أن يختار الأداة المناسبة لتحريك حدث لا يتحرك إلا بها.

إن المستوى الوظيفى للأشياء فى الرواية ينطلق من مرحلة الوجود الحقيقى ( مع الاختلاف الواضح بين وجود الشيء فى الواقع ثم تسربه وتشكله فى النص الروائى فإن الرواية الحديثة لا تخلق الأشياء وإنما توظف ما هو موجود وكائن ( باستثناء نوع واحد من الرواية ) ( ) والوجود الحقيقى هو ذلك الوجود الواقعى للأشياء ، الذى تسربت منه إلى النص شأنها شأن الكثير من العناصر الروائية ( الأشخاص – الأحداث – الأشياء ) السابق وجودها الواقعى على وجودها الروائى : " والكاتب يمثل حلقة الوصل بين الشئ والعلامة الدالة عليه كما يمثل حلقة الوصل بين اللغة والتعبير فيعمد إلى " المعجم " كى يختار ما يمكنه من بلورة تعبيره تحت دفع لا وعيه وخصائصه الذهنية وانتماءاته الاجتماعية " ( ) .

الأشياء فى الواقع تبدو ساكنة ، تحاور الإنسان فى سكونها ، تغرى الروائى وقد تغرر به أحيانا لإدخالها عالم نصه الذى يضمن لها الخروج من هذا السكون لتصبح مفكراً فيها ناطقة بعد أن تدخل دائرة الاهتمام :

" إن الأشياء فى هذا الكون الممتلئ بها تصبح بالنسبة للإنسان مجرد مرايا تعكس له صورته إلى مالا نهاية : إنها هادئة مستأنسة تنظر إلى الإنسان بنفس نظرته " ( ) .

ولكنها لا تبقى على هذا الوضع عندما تدخل نطاق النص الذى تتدرج فيه عبر وظائف ثلاثة تشترك فى واحدة منها أو تتشابه مع وجودها الحقيقى وتختلف فى بقية الوظائف .

وهى وظائف تبدأ من المستوى الحقيقى وتنتهى بالسحرى ، مروراً بالمجازى، ويقابلها ثلاث صور للأشياء توازى هذه المستويات :

- الحقيقى ← المجازى ← السحرى .

- سكون ← اهتزاز ← حركة .

( توازن ) ← ( كسر التوازن ) ← ( توازن جديد )

(1) المستوى الحقيقى

وهو المستوى الذى يبدأ من الواقع المتعين حيث الأشياء تدل على ، وتشير إلى ، وتنتسب للإنسان مسببة له الكثير من المشكلات الصغرى والكبرى ومحققة له الشيء ونقيضه ، ورغم ذلك تكون نظرة الإنسان لها عادية ، فهى بالنسبة له مجرد أشياء تعد وسائل للحياة والحركة فى العالم ، وقد لا يشعر الإنسان بما هو كائن من صفات فى الأشياء وقادر على تحريكه أو توجيه انتباهه إلا فى حالات قليلة منها :

1- استخدام جديد لشيء كائن تحت نظره أو بين يديه ، فإذا ذهب لمكان آخر وجد الشيء نفسه يستخدم بصورة مغايرة فيتحرك اهتمامه به .

2- فقدانه الشيء الذى تعوده وألفه ،كأن يفقد أحدنا ساعته مثلا فتتحرك ذاكرته مستعيداً علاقته بها .

3- مباغتته بشيء جديد لم يره من قبل .

وغيرها مما تتحرك له حاسة الإنسان لإدراك الأشياء واستكشاف علاقته بها .

ويظل هذا المستوى الوظيفى منطبقا على الأشياء التى تسربت للرواية ، فالقارئ الذى لا يتوقف عند الأشياء ولا يثيره منها إلا الغريب لا تتحرك حواسه نحوها وقد لا يتوقف بالمرة عند هذا المشهد بأشيائه :

" قادت خادم صغيرة ياسين إلى حجرة الاستقبال ثم انصرفت . كان يقوم بزيارة بيت المرحوم السيد محمد رضوان لأول مرة فى حياته ، وكانت الحجرة – على طراز بيت أبيه – واسعة الأركان ، مرتفعة السقف ، فيها مشربية ، تشرف على شارع بين القصرين ، ونافذتان تطلان على العطفة الجانبية التى يفتح عليها مدخل البيت ، وقد فرشت أرضها ببسط صغيرة ، واصطفت فى جوانبها الكنبات والمقاعد ، وأسدلت على الباب والمنافذ ستائر من مخمل رمادى باهت من القدم ، وعلى الجدار المواجه للباب علقت البسملة فى إطار أسود كبير ، بينما توسطت الجدار الأيمن – فوق الكنبة الرئيسية – صورة للمرحوم السيد محمد رضوان تمثله فى أوسط العمر . . " ( ).

وقد لا يتوقف القارئ عند الوظائف التى تتبوأها الأشياء المتعددة التى يتشكل منها فضاء الحجرة ( السقف – المشربية – النافذتان – البسط الصغيرة – الكنبات – والمقاعد – الباب – المنافذ – الستائر المخملية – البسملة – الإطار – الصورة ) ولأنها أشياء فى وضع – يظنه القارئ – سكونيا لتشابهه مع الواقع ولا ينتبه لوظيفتين يمثلان الحد الأدنى للأشياء فى نطاق النص ، وهما يمثلان دوراً مزدوجا بعيداً وقبل استقصاء دلالات الأشياء :

"ويؤدى الشئ دوراً مزدوجاً فى الرواية فهو يشير إلى حقيقة واقعية فى العالم الخارجى . . . . وهو من جانب آخر يحمل دلالة خاصة فى النص : إذ يجب أن يكون حاملاً لمعنى . فإن الأشياء قد تكون إشارية والفارق بين الرمز والإشارة أن الرمز أكثر كثافة ويرتبط بمجموعة من الدلالات المعقدة " ( ) .

ولكن لأنها ليست القاعدة التى يمكن القياس عليها فإذا كان هذا المستوى ممثلا سكونية لم يتخلص فيها القارئ من منطق الواقع للدخول إلى منطق النص ( ) فإن المستوى الثانى قادر على نقل الشئ من الوظيفة الممثلة فى المستوى الحقيقى إلى الوظيفة المجازية مع الوضع فى الاعتبار أن كل انتقال للأشياء من الواقع للنص فهو نقلة من الحقيقة للمجاز .

(2) المستوى المجازى

إذا كان الشيء فى المستوى الحقيقى مقصوداً لهدف وضع له، ولغاية يستخدم لتحقيقها ، فإن المجاز فى استخدام الشيء ينقله من وظيفة الغرض الواحد إلى الأغراض المتعددة وكل انتقال للأشياء من الواقع للرواية هو فى الحقيقة نقلها من حيز الغرض الواحد إلى الأغراض الدلالية المنتجة للمعنى والمنشطة لقوى الدلالة لصالح الأشخاص ،أو الأحداث أو المكان ، أو الزمان ، وهى العناصر التقليدية فى النص السردى يضاف ما هو لصالح المتلقى بما يستطيع من قدرة على استنطاق الأشياء فى سياق الرواية ( )، وكم من أشياء بثها الروائيون ولم يتنبه لها القارئ مما أفقده الكثير من معالم النص ، " والرواية تبنى كحركة لهدف غير مرئى أيضا . فمؤلفها يظل يزاول البحث والقارئ يشاركه فى بحثه ، ويتنبأ ويتكهن وقلبه يعيش فى المستقبل " إنه يشبه رمى بسهم بدقة ولكنه يمكن أن يصيب أو يخطئ " ( )

وللمستوى المجازى عبر الرواية مظهران :

المظهر الأول : مظهر حلول فى النص : إذ مجرد حلول الأشياء فى النص الروائى يتحقق لها قدر من المجاز،والأشياء التى يأتنس بها أمين فى رواية " ما يعرفه أمين " رغم بساطتها وشعور القارئ أنها لا تختلف عن الأشياء التى يمكن أن يراها فى أمكنة شبيهة ، رغم ذلك فإنها ليست هى أشياء الواقع بعد أن دخلت العالم الروائى الدال :

" ردهة الشقة واسعة وتنفتح عليها غرفتان ، فى ركن منها الأنتريه الكبير وفى وسط الردهة تقريبا السفرة الدائرية وطقم الكراسى حولها وخلفها النيش الكلاسك . يأتى الضوء الضعيف ويرمى ظلاله على الباركيه الخشبى والأثاث الأنيق – من غرفة بابها المفتوح ومن تابلوه كهربائى فى الحائط ومن لمبة داخل نيش زجاج لامع . وهذا الضوء الأخير يجعل أكواب الكريستال وأباريق الخزف الصغيرة وتماثيل لبوذا وحوارييه فى جلستهم الهادئة المتربعة وابتسامتهم الراضية – مصقولة ولامعة ،اندفع أمين فى الردهة ناحية المطبخ وقبل أن يصل إليه انقلب على عقبيه عائداً إلى غرفة النوم بنفس الخفة والنشاط وكأنه تذكر شيئا أخذ مجلة الموعد التى غلافها الخارجى صورة لفنانة راحلة ثم وضعها على رصة المجلات بجوار الكومودينو . أشعل سيجارة من علبة مارلبورو أحمر . رفع قليلا صوت التليفزيون وأخذ نفسا عميقا من سيجارته وضحك . . .. ( )

يمتلئ فضاء الرواية بالأشياء التى تظهر مع حركة أمين فى المكان وهى حركة لا تكتفى باستكشاف الأشياء ، وإنما تظهر مدى استئناسها بها وإحساسه بعدم الوحدة معها ، وما لا يراه أمين ويتعامل معه لا ندركه نحن ، يقول الغيطانى :

" عندما تنتفى الحاجة تختفى الأشياء من البصر حتى مع وجودها " ( ) ، ومن ثم لا نملك إلا أن نرى الأشياء بصورة مغايرة، وبداية المغايرة أن ندرك أن الأشياء ليست لمجرد امتلاء الفضاء المكانى أو شغل فراغه ، وإنما تخرج عن كونها أشياء أمين إلى أشياء مرئية من وجهة نظره تمثل رؤيته مع احتفاظها بحق دلالتها عليه ؛ ولأن المكان :

" لا يظهر إلا من خلال وجهة نظر شخصية تعيش فيه أو تخترقه وليس لديه استقلال إزاء الشخص الذى يندرج فيه. وعلى مستوى السرد فإن المنظور الذى تتخذه الشخصية هو الذى يحدد أبعاد الفضاء الروائى ويرسم طبوغرافيته ويجعله يحقق دلالته الخاصة وتماسكه الأيديولوجى " ( ).

وفى مظهر الحلول تبدو الأشياء فى سكونها أقرب للوصف منه للسرد ، فالوصف الذى يوقف زمن السرد يعطى الفرصة لإدراك فاعلية الأشياء ، وامتداد وجودها فى مساحة من فضاء المكان :

" فالوصف أسلوب انشائى يتناول الأشياء فى مظهرها الحسى ويقدمها للعين ، فيمكن القول أنه لون من التصوير ولكن التصوير بمفهومه الضيق يخاطب العين أى النظر ويمثل الأشكال والألوان والظلال . . . . وقد اقترن الوصف منذ البداية بتناول الأشياء فى أحوالها وهيئاتها كما هى فى العالم الخارجى وتقديمها فى صور أمينة تعكس المشهد وتحرص كل الحرص على نقل المنظور الخارجى أدق نقل " ( )

و الأشياء تبدو ماثلة هناك تجابه الفراغ ، إلى أن تقضى عليه ، ثابتا فى الأمكنة التى نعرفها ، ونتحرك فيها أو متحركا كما نجده فى أمكنة التنقل البحرية ، والبرية ، والجوية (السفن ، و السيارات ، والطائرات ) ، تماما كما تشغل حيزا متحركا فى السفينة، مختلطة بالبشر مزاحمة لهم :

" مسافرون من جميع السبل والرياح والأنحاء ، إناث وصغار ورجال ألوان شتى ، أزياء جمة ، والطاولات الرمادية الوطيئة ملأى لفافات ونظارات وأقلام حبر ورباطات عنق ومناديل ، صناديق كرطون صغيرة ملقاة هنا وهناك ، ذهب وفضه ورسائل ، صحف وقطع شكلاطة وبيتزة وعلب شطرنج ودومينو متفاوتة الأحجام ، سجائر وأكياس تبع ولوحات زيتية ومعلقات إشهار ، ومسبحة وغليون وصليب . حاملات مفاتيح وقوارير عطر وخمر ومربعات حلوى وحبوب ودواء ولادن وعلب كبريت ، كتب ومجلات وأزرار قمصان مذهبة وقفازان مخمليان ، وطلاء أظافر " ( )

لقد تدافعت الأشياء لتشغل حيز السفينة، قائمة بعدة أدوار من أهمها: الإشعار بامتزاج هذا العالم واختلاطه فى مساحة واحدة يبث السارد فيها من الأشياء ما يمثل عوالم شتى ، فالمدقق فى هذه الأشياء التى يكتفى برصدها فى لحظة يتوقف فيها السرد يتكشف له أن كل عنصر منها يشير إلى ثقافة أو بنية اجتماعية مغايرة ، تماما كالأخلاط البشرية التى تحملها السفينة . ويقوم الحشد الشيئى - بديلا عن السرد المتوقف- بتوسيع أفق خيال القارئ الذى ليس بإمكانه تخيل الأشياء متراكمة بعضها فوق بعض وإنما هى متجاورة تتيح للعين أن تدركها بشكل أفقى مسطح .

إن المكان المستدعى إليه هذه الأشياء يشبه خيال متلقيها المستدعاة إليه ، إذ ما يتسع فى الحقيقة ليس المكان الواقعى، وإنما هو خيال المتلقى الذى تُبث هذه العلاقات ملتقطا إياها من عملية التخييل التى يصنعها المؤلف .

إن دوراً سرديا تقوم به الأشياء فىهذه الرحلة ، فليس الوصف مجرد توشية لمشهد أو زخرفة للغة والكاتب إن أحسن التوقيت الذى يقدمه يعطى نصه تكاملا فنيا كبيرا وهذا ما فعله " بوجاه " الذى جعل تاج الدين فرحات يتحرك فى عالم من الأشياء التى اختزلت العالم بكل تفاصيله .

المظهر الثانى : مظهر حلول وكسر التوازن ( المجاز الصريح ) .

لا يتوقف حلول الأشياء فى النص عند مرحلة الوصف الساكنة والتى قد تجعلنا نتابع الأشياء . فى مجازيتها غير المباشرة ، غير المصرح بها وإنما تطرح الأشياء نفسها – فى مرحلة متقدمة – بوصفها أشخاصا تتحرك وتقوم بالفعل وتشارك الإنسان فاعليته ، إنها تنتقل من المرحلة السكونية إلى المرحلة المتحركة ، وعندما نقرأ :

- الذين دهسهم القطار على مدى السنوات ( ) .

- توقف القطار فى محطة أولاد إلياس ( ) .

- كلما مر القطار ببلد ( ).

- تهاتفت أشجار الزيتون فى السانية القبلية وفى السانية الظهرية واستجاب الوادى المنسكب خلف سميكاته القليلة اللزجات ....( ) .

- قالت المشايات حتى باب البيت الكبير ، أن الأعرج سار خلف السيدة إلى الحمام . لهذا كان للحديقة سبق الرصد لتلك الأحداث ( ) .

- جدران المنزل قررت ترك أماكنها بالهجرة والعودة إلى الأرض ( )

- تدارست البيوت وقررت أن ترسل رسائلها إلى أرض تلك البلاد البعيدة تسألها عن جثث أبنائها ( ) .

- دفعت البيوت الطينية ردودها على كل الرسائل بإجابة واحدة الآن انتفضت الأرض ، تشققت قشرتها ( ) .

إننا أمام أشياء تتحرك مانحة السرد قدراً أعلى من المجاز المتعدد الصريح ما بين الاستعارة والمجاز المرسل ، ولا يتوقف حلولها عند الوصف الساكن ، وهو مستوى يمكن متابعته بسهولة فى الرواية العربية التى تستثمر تقنيات المجاز فى التعبير إلى حد كبير ، وقد تعددت استشهاداتنا من رواية "نقيق الضفادع " لكونها تعتمد على هذه الصيغة بصورة واضحة تتفوق فيها على غيرها من النصوص إن قورنت بها .

واستخدام الروائى لهذا المستوى ليس إظهاراً لغرام باللغة بقدر ما هو توظيف للأشياء فى الصورة فـ " نقيق الضفادع " بلغتها الجادة لا تطرح من خلال جملة : ( تدارست البيوت وقررت ) أو ( دفعت البيوت الطينية ) مجازا مرسلاً علاقته المحلية( ) (وإن كان ذلك قائما ) وإنما تطرح دلالة أعمق تتمثل فى أن البيوت لم يعد فيها من يفعل ما فعلته ، لقد سرى القهر بين هؤلاء فأصبحوا غير قادرين على الفعل الذى قامت به البيوت .

و فى المستوى نفسه تتعدد فاعليات الأشياء مع تعدد صيغ طرحها عبر النصوص التى تسعى لاستثمار أعلى للأشياء يتجاوز مرحلة سكونها وإن كان دالا ، ويقف القطار بوصفه واحداً من الأشياء الأكثر فاعلية فى هذا الجانب ومتابعة نصوص مرتبطة ببيئة معينة يشير لفاعليته إلى حد كبير ( ) .

إن نوعا من المجابهة واقع بين الإنسان والأشياء التى تنازعه دوره ، وتعمل فى أحيان كثيرة على سلبه هذا الدور بما تحمله من تاريخ وارتباط بالبشر عبر حياتهم ، لقد كان قنديل أم هاشم سابقا لوجود إسماعيل بوصفه متعلما يسعى لمجابهة الجهل والتخلف لذا لا يحد إسماعيل بداً من مجابهته بالقوة والسعى للتخلص من سطوته التى خرجت عن كونه جامداً .

" هذا هو القنديل قد علق التراب بزجاجه واسودت سلسلته من ( هبابه ) . تفوح منه رائحة احتراق خانقة . أكثر ما ينبعث منه دخان لا بصيص ضوء . هذا الشعاع إعلان قائم للخرافة والجهل . يحوم فى سقف المقام خفاش اقشعر له بدنه . حول المقام أناس كالخشب المسندة ، وقفوا مشلولين متشبثين بالأسوار ، فيهم رجل يستجدى صاحبة المقام شيئا لم يفهمه إسماعيل ، وإنما وعى أنه يستعديها على خصم له ، ويسألها أن تخرب بيته وتيتم أطفاله . والتفت إسماعيل إلى ركن فى المقام فوجد الشيخ درديرى يناول رجلا معصوب الرأس بمنديل نسائى زجاجة صغيرة فى حرص وتستر ، كأنما هى بعض المهربات لم يملك إسماعيل نفسه . . فقد وعيه ، وشعر بطنين أجراس عديدة ، وزاغ بصره ، ثم شب ، وأهوى بعصاه على القنديل فحطمه وتناثر زجاجه ، وهو يصرخ :

- أنا . . . أنا . . أنا " ( )

هل كان على إسماعيل أن يصمت إزاء هذا الالتفاف حول المصباح ؟ وهل كان محقا فيما فعل ؟ . لقد ظن إنه قضى على المصباح، ولكن المصباح غير وسيلة سيطرته وظهر بصورة مجازية عبر المؤمنين بقدراته ، ونال إسماعيل جزاء تطاوله على المصباح ذى القدرات المتوهمة .

" ثم لم يستطع أن يتم جملته . ( من يدرى ماذا كان سيقول ؟ ) هجمت عليه الجموع وتهدمت قوته ، فخر على الأرض مغمى عليه . ضربوه ، وداسوه بالأقدام ، وجرح رأسه ، وسال الدم وجهه ومزقت ثيابه .

علمنا بعد ذلك أنه أو شك على الموت تحت الأقدام " ( ) .

هل أراد إسماعيل بقوله ( أنا . . أنا ) أن يجعل من ذاته ( بما يحمل من علم ) مجابها للمصباح الذى لم يسمح له أن يصرح بفلسفته الأنوية هذه ؟. وهل كان إسماعيل هو المتحرك بذاته أم يحركه العلم ( المعنوى ) الذى لم يستطع أن يقف فى وجه الجهل المادى ؟ . .

تبدو الأشياء فى هذا المستوى محدثة كسرا فى التوازن الذى يعهده الإنسان عندما يتعامل مع الأشياء بوصفها أدوات لاستمراره حياته وتحسينها، فالأشياء الساكنة تأخذ فى الاهتزاز للخروج من سكونها تمهيدا لانطلاقها إلى وظائف تنفرد بها أو تشارك فيها الإنسان .

3- المستوى السحرى

تتجاوز الأشياء وظيفتها الحقيقية بوصفها تشير إلى الإنسان وحضوره أو غيابه وكونها – فى مرحلة متقدمة – تمنح النص ( أو تساهم فى ) خلق الدلالة الكلية فيه . يتجاوز ذلك كله إلى وظيفة سحرية تمثل مرحلة يتجاوز فيها المجاز إلى ما بعده فلم يعد المجاز بصورته المعرفة قادراً على تفسيرها ، إذ لا تنطبق قواعده أو قوانينه على هذه الحالة السحرية : فى " هاتف المغيب " تتحرك أشياء الصحراء بوصفها كائنات أسطورية تمنحها الصحراء بعدها السحرى الواضح :

" فى بلخ أخبروه عن شيخ وصل منذ أربعة شهور ، لزم الشجرة ، قديمة ، نادرة هائلة ، نادرة ، هائلة الأغصان ، غليظة الجذع جداً ، لابد من أربعين رجلا مفرودى الأيدى ، متشابكى الأصابع ليمكن الإحاطة به دائريا ثمارها مختلفة ، كل غصن يظهر نوعا ، منها ، يشبه السمسم ، وآخر فى حجم البطيخ . . . " ( ) .

والضريح الوحيد :

" الكل يسعى إليه ، المرأة عند زواجها لابد أن تأتى مع أقرب صاحباتها وتشرب أولا ، ثم تستحم عند مدخل الضريح ، ترتدى ملابسها وتدخل منفردة لتتلو الشهادتين . . . يؤكد أحمد بن عبد الله أنه رأى سحابة تظلل الضريح ، وينزل منها ما يشبه خيوط الحرير ، يصعد عليها شخص لم يتحقق من هويته ، وفور اكتماله طلوعه ارتفعت الغمامة ، ومضت بعيداً هذا ما عاينه بنفسه " ( )

ولا يكتمل عالم الأشياء باكتمال حركة لا تتوقف فى صحراء يعدها د . شاكر عبد الحميد داخلة فى جغرافيا الوهم العربية : " استفاد جمال الغيطانى . فى هاتف المغيب على نحو واضح من جغرافيا الوهم العربية كما تمثلت فى كتابات القزوينى وغيره من الرحالة والجغرافيين العرب ، لكنه خرج من حدود تلك النصوص التراثية إلى فضاء عملية الإبداع الأدبى فقدم هذا العمل الذى يمتزج فيه التاريخ بالجغرافيا ، والحاضر بالماضى ، والإبداع بالاتباع ، والإدراك بالأحلام بالأساطير ، والأصوات بالمشاهد بالملامس ، بالطعوم بالمذاقات ، الظاهر بالباطن ، الشرق بالغرب ، والمحدود بالمطلق " ( )

لقد تحول النص القديم إلى حافز ومؤثر وداخل فى تقنية " هاتف المغيب " فهو قبل الكتابة حافز دافع للإنتاج وأثناءها أدخل جغرافيا الوهم التى استفاد منها المؤلف فى بث أشياء خارجة عن منطق الواقع ، ومتجاوزة هذا المنطق ، والمزيج الذى أشار إليه د. شاكر عبد الحميد أو جد كل عنصر فيه أشياءه مما جعل النص ذا صيغة أسطورية واضحة تتحرك عبرها الأشياء حركتها السحرية المتجاوزة للمجاز نفسه ، وبعد الكتابة ظهر النص بوصفه شيئا سحريا منقلة من النصوص أو الأشياء التى تأثر بها . وفى " مسالك الأحبة " يطرح خيرى عبد الجواد صورة أخرى لسحرية الشئ ، فكتاب النيل الذى يعاين المتلقى تفاصيله وصفاته يقدم هذا المتخيل السحرى " يقول أحمد بن أباديس " ثم أننى تقدمت من الكتاب ومددت يدى انتزعه من مكانه وقلت تلك هى الغنيمة الكبرى التى من حازها ملك البلاد . والعباد ، لأنى أعلم أن هذه البلاد سر بقائها فى هذا النهر المبارك ، فهو ينبع من نهر فى الجنة ، فمددت يدى وقبضت عليه ، فلا أدرى إلا وشيئا خرج من الكتاب ولطشنى فى وجهى لطشة هججت صوابى وعقلى فوقعت مغشيا على ، ولم أعد أعرف هل أنا فى السماء أم فى الأرض مدة ساعة ، فلما أفقت وملكت صوابى أعدت المحاولة فحدث مثل

وتكتمل علامات السحرية فى الكتاب بصدور صوت منه ، تمعن فى تأكيد سحريته وخروجه عن المألوف : " وحدثتنى نفسى الأمارة بالسوء بتكرار المحاولة ، فسمعت صوتا لا أدرى شخصه يأتى من ناحية الكتاب يقول : تأدب يا هذا واقنع بما وصلت إليه فلست أهلا له " ( )

هنا لا يمكننا اعتبار الكتاب مجازاً عن الإنسان ، فالصورة الممعنة فى السحرية تفرض فهما آخر يتجاوز رؤية الأشياء فى وضعها الساكن ، ويقف عند دورها الجديد المؤسس على عجائبيتها والمتكئ على مغادرتها ما تعورف عليه من منطق الحياة أو الواقع فى جانبه المرئى . والصوت الذى كان من الممكن أن يصدر غير مفهوم ولكن النص يجعله واضحا مفهوما يجعلنا نتناسى كونها أحدثت خللا فى الوظيفة القديمة ونراها محدثة توازنا جديداً يبدو طبيعيا . فإذا كان المستوى المجازى مصوراً الأشياء بوصفها كائنات تشبه الإنسان فى عمله وحركته ، فإن علاقتها بالإنسان يجعل عناصر لها وجودها المغاير وطرائقها فى التعبير عن نفسها بتمايز واضح تخلق فيه قوانينها التى يجب أن نعاملها بها ، وتستعصى على كل محاولة لأن نطبق عليها قوانين غير ما يجب أن نعاملها به .

ووجود شئ سحرى واحد فى النصوص التى تطرح هذه الأشياء لا يتوقف بمفرده مختصا بهذه الصفة وإنما تظهر أشياء أخرى لها هذا الحضور مما يجعلها مشكلة سيمفونية لحضورها الجمعى الذى لا تبدو فيه بوصفها نشازاً وإنما يعزف كل عنصر حضوره ، ففى " هاتف المغيب " تتعدد الأشياء السحرية التى ترسم هذه المعزوفة .

وفى مسالك الأحبة لا يقف الكتاب بمفرده متخذا هذا الوضع والأمر منطبق على مستويات الثلاثة ( وخاصة المجازى والسحرى ) فليست البيوت وحدها متخذة الوضع المجازى فى " نقيق الضفادع " فالروائى دائما وهو يسعى لإحكام نصه يحرص على ألا يجعل من صوت واحد نغمة نشازاً وإنما تتضافر الأشياء بما تملكه من سمات مشتركة – بدرجة أو بأخرى فى إظهار هذه الوظائف .

المبحث الرابعأشياء النص

نص الأشياء

فى قراءتنا للأشياء عبر النصوص معتمدينها بوصفها تقنية لا موضوعا ،وبعد أن انتقلنا مع الأشياء من الواقع الذى انتقلت منه إلى النصوص التى استقرت فيها ، نحن أمام نوعين من الأشياء النصية التى يمكن من خلالها أن نرى النوعين يمثلان مرحلتين لهذه العلاقة :

1- أشياء النص .

2- نص الأشياء .

التقسيم بداية يطرح تأكيد قدرة الأشياء على أن تكون مفاتيح للنصوص وموجهات قراءة ، وعوامل تكشف قدرات النص الفنية على توظيفها لهذه الأشياء .

أشياء النص تعبير يمكن إطلاقه على النص السردى القديم حين ملازمة الأشياء للقصة ، فما دامت هناك حكاية فهناك أيضا أشياء ترتبط بإنسان الحكاية ويكشف عنها السياق ، وأما نص الأشياء فتعبير يمكن استخدامه مع النص الحديث ، ذلك الذى لا تمثل الأشياء لديه موضوعا قد يحكى عنه أو هامشا يتردد ملازما للأفراد أو حكاياتهم وإنما ينطلق من كون الأشياء موظفة بوصفها تقنية لها حضورها الجديد يقول د. صلاح بوجاه :

إن الأشياء ذات حضور فعلى إطار الحركة القصصية ، فهى تشارك نظير بقية الفواعل الإنسانية والنباتية وسواها ، فى سير الأحداث وتأزمها ثم النزول بها نحو الانفراج ، مما يبوئها منزلة ليست بالثانوية ضمن العالمين " الأكبر " و" الأصغر " للنص ، بل إن هنالك ضروبا من الأشياء التى يمكن أن نحلها قصصيا محلاً أرفع من الفواعل الإنسانية ذاتها .

ويجدر بنا أن ننتبه إلى " قصة – أو قصص – الأشياء أكثر من انتباهنا إلى " أشياء القصة " ( ) .

علاقة اتفاق واختلاف

لقد توقفنا طويلا عند نصوص روائية حديثة كشف سياقها عن أشياء ما كان لهذه النصوص أن توجد بدونها ، واستقصاء وظائفها وإدراك مدى قدرتها على فاعليتها السردية والجمالية يزداد وضوحا إن نحن قاربنا النص السردى القديم سعيا لتحقيق هدفين :

- توضيح صيغتى أشياء النص – نص الأشياء

- رؤية الأشياء فى النص الجديد مقارنة بنص مغاير من شأنها أن تكون وسيلة إعلامية لهذه الأشياء .

قالت :

" بلغنى أيها الملك السعيد ، أنه كان تاجر من التجار ، كثير المال والمعاملات فى البلاد قد ركب يوما وخرج يطالب فى بعض البلاد فاشتد عليه الحر فجلس تحت شجرة وحط يده فى خرجه وأكل كسرة كانت معه وثمرة فلما فرغ من أكل الثمرة رمى النواة وإذ هو بعفريت طويل القامة وبيده سيف ، فدنا من ذلك التاجر وقال له : قم حتى أقتلك مثل ما قتلت ولدى ، فقال له التاجر : كيف قتلت ولدك ، قال له لما أكلت الثمرة ورميت نواتها جاءت النواة فى صدر ولدى فقضت عليه ومات من ساعته " ( ) .

" ثم إنه سمى الله ورمى الشبكة فى البحر وصبر إلى أن استقرت وجذبها فلم يطق جذبها وإذا بها اشتبكت فى الأرض فقال : لا حول ولا قوة إلا بالله فتعرى وغطس عليها وصار يعالج فيها إلى أن طلعت على البر وفتحها فوجد فيها قمقما من نحاس أصفر ملآن وفمه مختوم برصاص عليه طبع خاتم سليمان .

فلما رآه الصياد فرح به وقال هذا أبيعه فى سوق النحاس فإنه يساوى عشرة دنانير ذهبا ، ثم إنه حركه فوجده ثقيلا فقال لابد أننى أفتحه وأنظر ما فيه ، وادخره فى الخرج ثم أبيعه فى سوق النحاس ، ثم أخرج سكينا وعالج فى الرصاص إلى أن فكه من القمقم، وحطه على الأرض وهزه لينكب ما فيه فلم ينزل منه شىء ، ولكن خرج من ذلك القمقم دخان صعد إلى عنان السماء ومشى على وجه الأرض ، فتعجب غاية العجب وبعد ذلك تكامل الدخان واجتمع ثم انتفض فصار عفريتا رأسه فى السحاب ورجلاه فى التراب برأس كالقبة وأيد كالمدارى ورجلين كالصوارى ، وفم كالمغارة ، وأسنان كالحجارة ومناخير كالإبريق وعينين كالسراجين ، أشعث أغبر " ( ) .

فى الحكايتين- كما فى حكايات ألف ليلة وليلة جميعها- تتعدد الأشياء وتنبسط المساحة التى تتشكل منها لتتعدى كونها رموزا دالة تنضاف إلى رموز النص المتعددة ، وفيهما يمكن مقاربة ثلاثة أنواع من الأشياء :

1- أشياء رئيسة : تأخذ وضعيتها عبر فاعليتها فى النص :

فى الأولى : النواة .

وفى الثانية : القمقم .

2- أشياء تبدو هامشية :

فى الأولى : كسرة الخبز – التمرة – السيف .

فى الثانية : الشبكة – الدنانير – السكين – القبة – المدارى – الصوارى – الحجارة – الإبريق – السراجين .

للوهلة الأولى تبدو الأشياء الرئيسة متناقضة فى فعلها ، فالنواة تقتل عفريتا ( تناقض بين السبب والمُسَبب ) وقمقم يحمل ماردا ( تناقض بين الحامل والمحمول ) ، والجنى فى القمقم موت مؤقت ،والنواة فى الجنى موت دائم .

و فى الحكايتين ( كما فى حكايات ألف ليلة وليلة ) تظهر السكين فجأة دون تمهيد سابق خلافا للسارد الحديث، (فى القديم تبدو الوحدات ( الوظائف بمفهوم بارت ) تكاملية حيث تتكامل الوحدات مكونة أسلوب السرد وفى النص الحديث تبدو الوظائف توزيعية يفرض فيها الأسلوب طريقة تبادلية : " لشراء مسدس صلة متبادلة بأمور أخرى إذ له علاقة بأوان استخدامه ( وإذا لم يستخدم ، ينقلب التأثير إلى علامة للتشويش ) ( ) .

السرد القديم قد يباغت القارئ بوجود الأشياء ، إذ لا تظهر قبل استخدامها، ويعول السارد على قدرات المتلقى على أن يدرك ارتباط الأشياء بالإنسان فيدعوه إلى إعادة النظر فى الشخصية التى تستخدمه ( بمعنى أن السكين من الأدوات الملازمة للصياد)، ولكن السارد الحديث لا يستخدم التقنية نفسها وإنما يلجأ إلى حساب الأمور بطريقة مختلفة ، أكثر حسما من نظيره القديم .

و الساردان يعملان معا على توسيع الأفق باستخدام أشياء مستدعاة للنطاق السردى ، وهناك أشياء لا تقوم بدور واضح فى النص ولا يتكرر ظهورها أو تكون هى بؤرة تنطلق منها الأحداث ويدور حولها الصراع وإنما تأتى بوصفها مستدعاة لسياقات توضحية تستكشفها بلاغيا وتبدو واضحة عند استخدام تقنية التشبيه ( فى حكاية الصياد مع العفريت ) .

  • رأس كالقبة ( القبة )
  • أيد كالمدارى ( المدارى )
  • رجلين كالصوارى ( الصوارى )
  • فم كالمغارة ( المغارة )
  • أسنان كالحجارة ( الحجارة )
  • مناخير كالإبريق ( الإبريق )
  • عينين كالسراجين ( السراجين )

والسارد الحديث لا يميل للطرح المباشر للأشياء ، حيث يطرحها عبر حالة الاستدعاء( ) القارة فى التشبيه( البليغ فى معظم الأحيان ) كما يمنحها الطاقة الرمزية : " الأحرف تعاويذ لها فعل الولوج فى كل الأشياء " ( ) . والعمل على إبراز علاقة الأشياء بالإنسان " ستظل شبحا يطارده ما بقى فى عروقه نبض ، لن ينساك مهما شرب وحاول ، الصوف الهيلد . . سبيلى ويعتت " الريبان سينكسر يوما أو يصرعه صنف جديد، الجوخ سيهدى للأقارب بعد موت أبيه ، الألعاب سيحطمها الولد خلال أيام ، لن يبقى فى النهاية إلا إياك " ( ) وفى الحالتين تحدث عملية الاستدعاء لأشياء تعمل أول ما تعمل على توسيع الأفق التخييلى إضافة إلى إبراز ثقافة المكان ودرجة تحضره أو مدنيته .

كما أن السارد القديم يبتكر الأشياء ويسعى لتضخيمها بغية بث الصورة المثيرة لتميز السارد ( فى الحكاية الشفوية ) ، حيث السارد يحكى عن مكان مغاير لمكان الحكى ، ومن ثم يسعى إلى استخدام آليات تجعله منفرداً برؤية الأشياء قابضا على خيوط السرد، يحكى عن أشياء بعيدة ( مشبه ) لا يمتلك السامع إلا تركيب أجزاء متعددة من ( المشبه به ) الذى يضمه واقعة ليدرك ما يلقيه السارد فى خياله ، والصورة التى يرسمها السارد للعفريت ( والصياد مع العفريت ) تحتاج من السامع لإدراكها أن يستقطب أشياء كثيرة ويركب مجموعة من الموجودات ليتسنى له إدراك الصورة المتخيلة ، وفى المقابل فالسارد الحديث يوظف الأشياء ولا يبتكرها إذ هى موجودة تملأ فراغ الواقع وهو لا يريد أن يتميز عن متلقيه من هذه الزاوية.

علاقة تكامل

قراءة النص السردى الحديث يفضى إلى اكتشاف أشياء تتكرر بين نص وآخر يوظفها أصحابها بصورة مغايرة ولكنها لا تخفى على المتابع ، والأمر ليس متوقفا عند تكرارها وإنما تكاملها بين النصين : القديم الذى وردت فيه للمرة الأولى، والجديد الذى أعاد توظيفها وذلك على أن السارد الحديث لا يخلق الأشياء كالقديم وإنما يخلق استعارة كبرى للأشياء من الواقع ( الواقع المتعين – الواقع التراثى ) المتمثل فى نصوص التراث ، وهناك أشياء تتأكد عبر تكرارها وهى متعددة منها : الكتاب ( المخطوط)- الصندوق - العصا .

المخطوط

يكاد الكتاب المخطوط يكون القاسم المشترك فى أكثر من نص حديث منها :

  • أسرار صاحب الستر : إبراهيم درغوثى .
  • التاج والخنجر والجسد- النخاس : صلاح الدين بوجاه .
  • مسالك الأحبة : خيرى عبد الجواد .

ومرجعية المخطوط ( الكتاب ) فى ألف ليلة وليلة متكررة عبر حكاياتها ( ومنها حكاية الملك يونان والحكيم روبان " التى تحكى ما حدث للحكيم روبان الذى عالج الملك من مرض البرص بأن جعله يقبض على قصبة الصولجان وقد أوغر الوزير صدر الملك عليه فقرر أن يقتله ولكن الحكيم الذى تحقق من أمر قتله يقول للملك :

أيها الملك إن كان ولابد من قتلى فأمهلنى حتى أنزل إلى دارى فاخلص نفسى وأوصى أهلى وجيرانى أن يدفنونى وأهب كتب الطب وعندى كتاب خاص الخاص أهبه لك هدية تدخره فى خزانتك ، فقال الملك للحكيم وما هذا الكتاب قال: فيه شئ لا يحصى وأقل ما فيه من الأسرار إذ1 قطعت رأس وفتحته وعددت ثلاث ورقات ثم تقرأ ثلاث أسطر من الصحيفة التى على يسارك فإن الرأس تكلمك وتجاوبك عن جميع ما سألتها عنه " ( )

وينجح الحكيم فى خداع الملك بعد أن دس له السم فى الكتاب وما إن يقتل الحكيم يدفعه حب الاستطلاع لاستكشاف أسرار الكتاب فيروح يبلل أصابعه بريقه ويقلب الصفحات ، وعندها يسرى السم فى بدنه .

يتوقف عبد الفتاح كيليطو عند الحكاية واصفا الكتاب بأنه الكتاب القاتل يقول " الكتاب ، شأنه شأن الحكى ، لا يضمن الحياة وأقصى ما يمكن أن يقوم به هو تأصيل الموت والانتقام " ( )

والسارد الحديث يمنح الكتابة دائما أسراراً مؤجلة لا تبوح للعامة ومعارف تمثل :" كنوزا معرفية : الأشياء والكائنات كلها تترافد : عين البقرة المذعورة ، وعواء ساعات السحر ، ونقيق الغدير البعيد وضحكات الأنثى الخفرة المغناج ، وهمهمة المتصوف والأعمى . . . وما تحوى الكتب من كلم مربك ساحر إليه تعود الخرافات جميعا " ( ) .

و تقوم" أسرار صاحب الستر" على التناص مع مخطوط قديم يعد محركا النص ، وصانعا خيوطه السردية ، وعندما يعثر عالم الآثار وتابعة الشاب على المخطوط يتحول النص إلى مخطوط تراثى يتولى حكاية الوليد بن يزيد الأموى . وينقل النص إلى تقنية الحكاية الشفوية حيث يأخذ عالم الآثار وضع المروى له ويأخذ الشاب وضع الراوى الذى يفضى بأسرار المخطوطة إلى عالم الآثار ، وعملية الإفضاء تكتمل دلالتها إذا ما عرفنا أن الشاب تونسى وأن عالم الآثار فرنسى مما يحقق فكرة إفضاء العربى بتاريخه وكنوزه للآخر الغربى ، وأن الغربى هو الذى يعرف ما تجود به قريحة العربى وتراثه أكثر مما يعرفه العربى عن نفسه وتراثه .

علاقة / علاقات مع الدلالة

فى السردية الحديثة تتعدد علاقة /علاقات الشيء بالنص والعالم الذى يفضى إليه ، أو ينطلق منه ، ولأن الأشياء لصيقة بالمكان أو يرتهن وجودها بوجود مكان ذى سمات محددة ، معروفة فإنها تلعب وظائفها بصورة متعددة الوجوه ، مشيرة فى مواقعها إلى قدراتها على أن تقدم من الدلالات ما لا يمكن لغيرها أن تقوم به ، ومن هنا يكون النص الحديث كاشفا عن أقصى قدرات العناصر الشيئية على النهوض بالرموز والدلالات .

الأشياء فى الرواية الحديثة تطرح بعدا ثقافيا للمكان تطرح من خلاله علاقة الإنسان بعصره ، وعالمه ، وأشخاص يتحرك بينهم .

من هذه الزاوية يمكننا أن نقف عند ثلاثة أشياء تعتد بها ثلاث روايات ، وتعتمد عليها فى إنتاج دلالتها :

  • الحقيبة الجلدية فى رواية سيد الوكيل " فوق الحياة قليلا "( )
  • الصور فى رواية منتصر القفاش " أن ترى الآن "( ).
  • الحزام فى رواية أحمد دهمان " الحزام " ( ).

فى " أن ترى الآن " تتحول الصور التى يلتقطها إبراهيم لزوجته درأ لنسيان ملامحها إلى عناصر يقام عليها النص وتشكل عصبه الأساسى ، فالصور التى يستغلها بعضهم لتشويه علاقة إبراهيم بزوجته ( بأن يعيد مشوهة إليها ) ترسم بعد قليل صورة لعصر يتجرد من الخصوصيات ، فالصور التى تعبر عن لحظات التحرر للزوجة ، وكذا بعض المشاهد الحميمة لها تفقد خصوصيتها تماما كعصر لم يعد له السمة نفسها ، وتشير بصورة حادة إلى الشكل الذى تأخذه العلاقات الاجتماعية على مستوييها : العام والخاص ، وإبراهيم الذى يعانى من النسيان ، نسيانه لملامح زوجته فيقترح تصويرها فى أوضاعها المنزلية يدخل نفسه فى سياق كابوس إجتماعى لا يمكنه الفكاك منه بسهولة ، فالصور التى تتحول فى لحظة ما – ظاهريا – إلى هامش فى إطار الواقع المعيش ، لاتنته عند حدود هذا الواقع بل تتحول إلى فيروس متكاثر فى عالمه الخاص ، ولا تنتهى الرواية قبل أن تطرح اللحظة التى تملأ الصور فيها كل مكان :

"بكل قوته دفع إبراهيم باب الشقة ، بدت انفراجة دقيقة ، استطاع من خلالها فهم أن الصور ملأت الشقة ووصلت إلى السقف وتمنعه من الدخول .

تحرك عدد منها إلى الفراغ الذى ينظر منه ، وكادت أن تتسرب إلى الخارج ( ).

وتتحول إلى كائن مواجه يكافئه فى القوة ، ولا يتوقف عن المنافسة :

" شغله التفكير فى أنه كلما اشتدت اندفاعته نحو الباب زادت كمية الصور التى تتسلل خارجة " ( ).

لقد تحول العالم إلى مشهد فانتازى عصبه الصور التى صنعها إبراهيم لتقضى عليه ، بوصفها الأداة الأكثر عصرية ، والأكثر قدرة على أن تفضح الداخل الحميم ، ولم تكن الكاميرا التى التقطت الصور سوى الآلة الجهنمية التى تحول الهدوء إلى نوع من الجحيم ، كما تمثل العين المراقبة للذات فى أدق خصوصياته .

وفى " فوق الحياة قليلا " لا يتوقف دور الحقيبة المتآكلة من الموسلاى عند دورها التقليدى بوصفها إناء يضم حاجيات الشاب المرتحل ، بل قد لا يعول المتلقى كثيرا – بإيعاز من النص – على هذه الوظيفة التى قد لا يلحظها وإنما يتجاوز الأمر ذلك كله إلى كونها تمثل التاريخ القدرى للشاب ، كما أنها تعد علامة على ثقافته ، وشهادة على عصره ، والسارد عندما يجعلها تضم ملابسه ذات الرائحة الكريهة منتقلا بها عبر شوارع القاهرة وأحيائها فإنه يبث عبرها مجموعة من الملامح لعصر يعد هذا الشاب وعالمه العلامة الكبرى ، أو الدلالة الأعمق لهذا العصر ، وأصبحت الحقيبة مؤشرا على الشاب الذى تعود على رائحتها لا يحتملها الآخرون حتى فى المكان المتسع :

" ولم يكن يدرى أن الضابط الذى أدار وجهه ناحية الميدان ، ثم غادره تماما على دراجته البخارية ، لم يكن فى الحقيقة مشغولا بعمله كما بدا ، فقد كان منزعجا من تلك الرائحة التى انبعثت من الحقيبة بمجرد فتحها ، ومن الجريدة التى تشربت البول ونشرت رائحته كلما لوح بها فى وجهه " ( ) .

وفى " الحزام " تلعب الأشياء وظائفها مقترنة بالمكان ، طارحة ثقافته الخاصة ، كاشفة عن أبعاده التاريخية ، والنفسية ، والاجتماعية مستثمرا خاصية التكرار للحزام الذى يظهر مقترنا بأشخاص ثلاثة تمثل تنوعا على مستوى النوع ، والجيل البشريين ، حزام الرجل ، حزام المرأة ، حزام الطفل .

الحزام الأول يمثل علامة على المخزون الاستراتيجى للعناصر التى تحفظ للرجل كرامته بين ضيوفه " والسبتة حزام داخلى من الجلد المفتول يضعه الرجال على أجسادهم ، ويعلقون فيها مفاتيحهم بحيث تتدلى هى الأخرى بين أفخاذهم ، وهى مفاتيح غالبا ما تكون من الحديد ، يخفونها فى هذا المكان الأمين ، وهى خاصة بمخازنهم التى يحتفظون فيها بكميات قليلة من القهوة والهال والطحين والسمن والعسل ، حتى إذا جاء ضيف بغتة ولم يبق لدى المرأة شيئ ، انسل الرجل إلى هذا المخزون يحمى به شرفه وسمعته " ( )، ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد فالرجل الذى يعطى هذا المفتاح لزوجته يفقد ذكره ويصبح " زوجة زوجته " ( ).

والحزام الثانى المغاير خاص بالمرأة ، تتأسس مغايرته بداية من المادة المستخدمة فى صناعته ، فحزام المرأة " من قماش عريض " ، كما يطرح استراتيجية جديدة للشرف الذى يرمز لحفظه .

والحزام الثالث ينتمى لعالم الطفل ملون يمثل علامة على الرجولة المنتظرة .

لقد طرح النص الوظائف المتعددة للحزام تلك التى لم يكن منها تلك الوظائف التى يعرفها المتلقى الراهن عبر ارتباطه بمفهوم عصرى للحزام يكون مغايرا تماما لهذه المفاهيم التى تطرحها ثقافة المكان .

الهوامش 

  - جون ديوى : الفن خبرة ، ترجمة : د. زكريا إبراهيم ، دار النهضة العربية ، القاهرة 1963، ص 42.

- لسان العرب ، مادة: شيأ.

- على بن محمد بن على الجرجانى : التعريفات ، تحقيق :إبراهيم الإبيارى ، دار الكتاب العربى ، بيروت ط1 ، 1405 ، جـ 1 صـ170.

- المائدة 101

- الأعراف 85.

- هود 85.

- الشعراء 183.

- سنن أبى داود : كتاب الصلاة .

- مصطفى بن عبد الله القسطنطينى : كشف الظنون عن أسامى الكتب والفنون ،دار الكتب العلمية ، بيروت 1992، جـ 1 ، ص 10.

- زكريا بن محمد بن زكريا الأنصارى: الحدود الأنيقة والتعريفات الدقيقة ، تحقيق : د. مازن المبارك ، دار الفكر المعاصر ، بيروت ط1 1411 ج 1 ص 74.

- د. عبد الغفار مكاوى : مدرسة الحكمة ، دار الثقافة للطباعة والنشر ، القاهرة ص 281.

- السابق ص 283.

- السابق نفسه .

- السابق نفسه.

- السابق نفسه.

- يحدث أن يتأثر المبدع بالمتلقى حين يستلهم المبدع متلقيه أو واقعه وهو ما تبرزه

عملية الكتابة، للدرجة التى تكاد نرى فيها هذا التأثر الواضح بالواقع ومعالمه ،

والواقع هنا يلعب أدوارا ثلاثة :

أ‌- قبل النص : يقوم بدور الحافز الدافع للكتابة .

ب‌- أثناء النص : ويكون آلية للكتابة .

ت‌- بعد النص : يصبح النص نفسه علامة على واقعه الذى تأثر به .

- سير موريس بورا : الخيال الرومانسى ، ترجمة: إبراهيم الصيرفى ، الهيئة

المصرية العامة للكتاب ، القاهرة 1977 صــ 31 .

- نورثروب فراى : تشريح النقد ، ترجمة : محى الدين صبحى ،

الدار العربية للكتاب تونس 1991 صــ 491

- نجيب محفوظ : ملحمة الحرافيش ، مكتبة مصر صــ 157 .

- انظر : الموسوعة الشعرية ، المجمع الثقافى ، أبو ظبى ، الإصدار الثانى 2001، وعنوانها على الشبكة الدولية للمعلومات ( الإنترنيت www.Cultural.org.ae

- انظر : د. مصطفى الضبع : استراتيجية المكان ، الهيئة العامة

لقصور الثقافة القاهرة ، 1998 صــ 373 وما بعدها .

- إن مقارنة هذه العناوين بعنوان مثل منتهى لهالة البدرى أو مشوار لمصطفى شهاب يوضح هذا الأمر ، إذ يكون العنوان النكرة فى حاجة قصوى - على المستوى النحوى – لتوضيحه بعض الشيء فيضطر المتلقى إلى تركيب جملة مكتملة نحوية – هى منتهى أو هذا هو المنتهى – أو أنه مشوار أو هو مشوار وغيرها من الصيغ التى يتداخل المتلقى مع العنوان من خلالها فى الوقت الذى يكون فيه العنوان المعرفة ليس فى حاجة لذلك فتكون إحالته للنص مغايرة لإحالة اللفظ النكرة الذى يكون الانشغال باستكمال بنيته شاغلا عن ربطه بالنص .

- فى طبعتها الثالثة جاء غلاف رواية " المسلة " لنبيل سليمان لوحة لمسلة فرعونية تجاور معبداً فرعونيا مما فرض على المتلقى قصدية العنوان وقصدية معنى لم يكن قائما فى الرواية إذ لم يكن النص يطرح بالمرة هذه العلاقة بين المسلة والمسلات الفرعونية الشهيرة .

– انظر: نبيل سليمان : المسلة ، مصر العربية للنشر والتوزيع ط 3 1997 .

- يحدث ذلك أيضا مع العناوين التى تتضمن أشياء تشير إلى ثقافة

مغايرة لثقافة المتلقى مثل : الدقلة فى عراجينها للروائى التونسى

البشير خريف أو الياطر أو لحنا مينا وغيرهما من العناوين التى تمتح من ثقافة شديدة المحلية ، يضاف لذلك التفاوت فى حياة بعض الألفاظ العربية فى بلد عربى دون الآخر أو حياة غيرها فى بلد آخر .

- كاتب مغربى و"الحجاب" روايته الأولى الصادرة عن منشورات

الرابطة الدار البيضاء 1996 .

- روائى تونسى وقاص من أعماله :

الدراويش يعودون إلى المنفى 1992

القيامة الآن 1994

أسرار صاحب الستر 1998

إضافة إلى أربع مجموعات قصصية .

- نبيل سليمان : ثلج الصيف ، دار الحوار ، اللاذقية طـ 5 1994 صــ 9 .

- إبراهيم درغوثى : شبابيك منتصف الليل ، دار سحر للنشر ، تونس 1996 صــ 3 .

- من النماذج العالمية الشهيرة زوربا فى الرواية الشهيرة للروائى اليونانى

كازنتزاكيس ، فنحن لا نفكر فيما يطرحه زوربا من معان بقدر ما نحتفظ بزوربا

ذاته بعيدا عن هذه المعانى والدلالات إذ تنجح الشخصية فى أن تدخلنا لتكون هى فقط

دون أن ننشغل بأطروحات أخرى .

- جمال الغيطانى : خطط الغيطانى ، دار المسيرة بيروت 1981 صـ 9 .

- التصريح فى الرواية ليس لفظا يحيل إلى معنى أو إلى صيغة معنوية مجردة وإنما

هو قطعة من الورقة تمثل علامة لإباحة مغادرة الثكنة العسكرية يُمنحه المجند من

قبل قادته ومن ثم تنمحى عند القراءة صيغة المصدر الصريح ( صّرح تصريح )

ويحل التصريح الجامد المحيل لذات محسوسة .

انظر : منتصر القفاش : تصريح بالغياب .

- قاص و روائى مصرى وهذه روايته الأولى .

- قاص، و روائى مصرى صدرت له خمس مجموعات قصصية، وروايتان هما:

- حلم على نهر 1993 .

- حجرة فوق سطح 2000 .

- شاعر وروائى مصرى .

- مقارنة الواو بالفاء مثلا فى العطف يكشف ما يمكن فى العطف الواوى من دلالة : ففى الوقت الذى تطرح فيه الفاء دلالة الانتهاء والتوالى كأن تقول فلان مخلص فمجتهد فأمين مما يوحى بثبات الصفة الأخيرة التى لم تنته بانتهاء سابقتيها ولكن أن تقول : فلان مجتهد ومخلص وأمين فهذا ما يجعل الصفات مستقرة متراكمة ومن أمثلة ذلك خطبة واصل بن عطاء الشهيرة : "وأشهد أن محمد عبده ونبيه وخالصة وصفيه" .

والقرآن الكريم يطرح الصيغتين فى سورة الزمر:.

 وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ  الآيات 71 – 73.

والشاهد فى الموضعين ( حتى إذا جاؤوها – فتحت أبوابها ) دون العطف عند ذكر أصحاب النار وحتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها ) بالواو عند ذكر أصحاب الجنة فالنار قد فتحت أبوابها بعد انتهاء فعل المجيء ، مجيء الكافرين والجنة تفتح أبوابها ترحيب واستقبالا قبل حدوث فعل المجرد مما يوحى بتداخل الحدثين، ومن ثم الزمنين وهذا ما يحدث عندما نكون على علم بزيارة ضيف عزيز لنا نفتح أبوابنا مرحبين وهو على درجات السلم خلافا لضيف ثقيل نتمهل حتى يدق الباب .

- صلاح الدين بوجاه : التاج والخنجر والجسد ، دار سعاد الصباح ، الكويت الطبعة

الأولى ، 1992 ، صــ30 ، صــ 31 .

- نعنى بها تلك العبارة التى لا يدرجها المؤلف تحت بند الإهداء ولا تحمل أية إشارات تجعلها داخلة فى هذا البند، وتكاد تشكل عبارة تختزل أو تشير بوضوح للنص أو لمعنى ما فيه ، كما يدخل تحتها العبارة الإحتراسية التى يحذر فيها المؤلف من التشابه غير المقصود بين الواقع ، ومجريات النص .

- محمد داود : قف على قبرى شويا ، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، القاهرة 2001،

ص 5.

- فوزية رشيد : القلق السرى ، دار الهلال ، القاهرة ، 2000، ص 5 .

- طالب الرفاعى : ظل الشمس ، دار شرقيات ، القاهرة ، ط1 1998، ص 7.

- تأخذ لوحة الغلاف نسقين أساسيين :

1- كونها لوحة تمثل منتجا فنيا سابقا للنص( لكتابته أو لنشره ) كما فى أغلفة الكتب التى يكون غلافها متضمنا لوحة أو مقطع من لوحة لفنان عالمى قديم أو حديث .

2- كونها لوحة منتجة خصيصا للنص مما يعنى أن منتجها قد قرأ النص فى صورته النهائية ( لذا نسميه القارئ الأول المتأثر بالنص بعد أو عند تهيئته للنشر ) وبإيحاء منه ( النص ) صمم هذه اللوحة .

انظر : د.مصطفى الضبع: استراتيجية المكان ، صـ 82 وما بعدها .

- يحدث فى طبعات مختلفة أن تتغير ملامح الغلاف مما يعنى احتمال تغير الناشر ومصمم الغلاف ومن ثم دخول رؤية جديدة للأشياء وسنتوقف لا حقا عند هذه النماذج التى وإن تغيرت ملامحها يظل قانونها الأول لا يتغير .

- انظر : يحيى يخلف : تفاح المجانين، دار الآداب ، بيروت ، ط 2 ، 1989 .

- نفضل استخدام لفظ (المصمم) على لفظ ( الرسام) لكون الغلاف – فى الأغلب – ليس لوحة تشكيلية فقط ، وإنما هو مزيج من صيغ مختلفة : خط وتصوير ورسم .

- انظر : منتصر القفاش : تصريح بالغياب ، دار شرقيات ، القاهرة ط 1 ، 1996.

- انظر : شوقى عبد الحكيم : أحزان نوح ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ( طبعة مكتبة الأسرة ) 1998 .

- سبق أن توقفنا فى هذا السياق عند نصين يطرحان بيئتين مصريتين مختلفتين: الصعيد والدلتا عبر روايتي : الأرض لعبد الرحمن الشرقاوى ممثلة الدلتا ( القرية الشمالية )، والجبل لفتحى غانم ممثلة للقرية الصعيدية ( القرية الجنوبية ) وكيف أن الغلاف طرح غطاء الرأس المختلف بين فلاح الجنوب وفلاح الشمال .

راجع طبعتى الروايتين :

- الأرض ،مكتبة غريب ، القاهرة د.ت .

- الجبل ، دار الهلال، القاهرة 1965.

- أحزان نوح صـ9 .

- مصطفى شهاب : مشوار ، دار السنابل ، صور ، 1999.

- السابق صـ 63 .

- إبراهيم الدرغوثى : الدراويش يعودون إلى المنفى .

الطبعة الأولى : دار رياض الريس ، لندن 1992 .

الطبعة الثانية : دار سحر . تونس 1998 .

- سمير ندا : وقائع استشهاد إسماعيل النوحى

الطبعة الأولى : هيئة قصور الثقافة 1997 .

والثانية : الهيئة نفسها 1998 .

- صبرى موسى : فساد الأمكنة ، مكتبة روز اليوسف، 1976.

- د. سيزا قاسم : بناء الرواية ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1984،

ص 78 .

- نعنى بنموذج تودوروف المعدل ذلك النموذج الذى وضعه الناقد الفرنسى بويون pouillon J.وطوره تودوروف راصدا من خلاله الرؤى الثلاثة للسرد:

- الراوى < الشخصية ( الرؤية من الخلف ) .

- الراوى = الشخصية ( الرؤية المحايثة ).

- الراوى > الشخصية ( الرؤية الخارجية ).

انظر : تودوروف : الأدب والدلالة ، ترجمة : د. محمد نديم خشفة ، مركز الإنماء الحضارى ، حلب ، ط1 1996، ص 77وما بعدها .

- ميشال بوتور : بحوث فى الرواية الجديدة ، ترجمة : فريد أنطونيوس ، منشورات

عويدات ، بيروت ، ط3، 1986، ص65.

- نعمات البحيرى : أشجار قليلة عند المنحنى ، دار الهلال 2000 ص41.

- السابق نفسه .

- السابق ص42-43.

- السابق ص 41-42.

- السابق ص102.

-السابق ص101.

- السابق نفسه .

- بسؤاله عن الطبيعة المرجعية لهذه المدينة ، أصر المؤلف على عدم الإفصاح عنها ، مما يفهم منه علاقتها بمدينة ذات واقع متعين ، وتلعب الأشياء ذات الطبيعة المغايرة دورا كبيرا فى رسم صورة مغايرة للمدينة وتحويلها إلى مكان ممعن فى الخيال .

- يتخذ السارد – وكذا الشخصية المروى عنها – واحدا من أوضاع ثلاثة تعبر عن رؤيتها

المكان وعلاقتها به :

 زائر : يدخل المكان للمرة الأولى ، ومن ثم يختبر الأشياء لإدراكها .

 عائد : يمتلك خبرة سابقة بالمكان قبل غيابه عنه حينا .

 مقيم : تتعدد خبراته بالمكان والأشياء .

انظر : د. مصطفى الضبع : رواية الفلاح/ فلاح الرواية ، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1998 ص250وما بعدها .

- جمال الغيطانى : شطح المدينة ، دار الهلال ، 1990، ص 8.

- انظر : ميشال بوتور : بحوث فى الرواية الجديدة ، مرجع سابق ص63.

- منتصر القفاش : تصريح بالغياب ص37 .

- عبد الرحمن الشرقاوي : الأرض ، مكتبة غريب ، ص67.

- السابق ص24 .

- السابق ص47.

- السابق ص60 .

- يحيى خلف : تفاح المجانين ص37.

- السابق ص49 .

- السابق ص49.

- السابق ص50.

- ص81.

- ص43.

- عبد الحكيم قاسم : أيام الإنسان السبعة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1988 ص7 .

- السابق ص19.

- السابق ص 20 .

- السابق نفسه .

- السابق نفسه .

- إسماعيل فهد إسماعيل : المستنقعات الضوئية ، دار العودة – بيروت ط1، 1971

ص35 .

- السابق ص23 .

- السابق ص39 .

- السابق ص32.

- السابق ص47 .

- السابق ص58.

- السابق ص75 .

- السابق ص9.

- السابق ص10.

- السابق ص12.

- السابق ص15.

- فصلنا القول فى هذا الجانب عبر دراستين سابقتين :

- رواية الفلاح : وطرحنا فيها المقارنة بين القرية الشمالية (الدلتا) والقرية الجنوبية (الصعيد) فيما يضمان من أشياء ودلالتها ودورها فى النص الروائى ص158 وما بعدها .

- استراتيجية المكان : وقاربنا فيها الأمكنة الروائية وحركة الأشياء فى القرية

والمدينة والمقهى والجسد الإنسانى ص182 وما بعدها .

- يبدو ذلك واضحا فى الأعمال التاريخية التى تعود إلى فترات التاريخ القديمة وهناك

أعمال كثيرة قاربت هذه المنطقة منها :

- ليالى ألف ليلة : نجيب محفوظ .

- الزينى بركات : جمال الغيطانى .

- نوار اللوز - تغريبة صالح بن عامر الزوفرى . واسينى الأعرج .

كما يبدو واضحا فى المقابل فى الأعمال التى تتجه للمستقبل والمتعارف عليها بروايات

الخيال العلمى ومنها :

- السيد من حقل السبانخ: صبرى موسى .

- ابن النجوم : نهاد شريف .

إذ تبدو الروايات طارحة أشياءها التى تبدو منبتة الصلة بأشياء الحاضر.

- محمد الراوى : تل القلزم ، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، القاهرة ، 1998، ص 11.

- نعنى رواية المستقبل أو رواية الخيال العلمى التى تخلق أشياءها الخاصة بها ، أشياء ذات طبيعة مميزة تتناسب مع طبيعتها ، ويتشابه هذا النوع مع حكايات ألف ليلة وليلة ، والأخبار العجيبة قديماً فى اعتمادهما على خلق أشيائهما الخاصة لأغراض فنية ( سنتوقف عند ذلك لا حقا ) .

- صلاح الدين يوجاه : الشئ بين الوظيفة والرمز المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ، بيروت ط 1 – 1993 صـ 15 .

- ألان روب جرييه : نحو رواية جديدة ، ترجمة : مصطفى إبراهيم مصطفى ، دار المعارف،القاهرة ، د. ت صـ 69 .

- نجيب محفوظ : قصر الشوق ، مكتبة مصر صـ 123 .

- د. سيزا أحمد قاسم : بناء الرواية ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة 1984 صـ 100

- تمثل قوانين النص التخييلية منطقا خاصا به يختلف كثيراً عن منطق الواقع ، وإشكالية تلقى نصوصنا الأدبية عامة والروائية خاصة أننا ندخل النصوص بمنطقنا نحن الذى قد لا يتوافق مع منطق النص الذى يمثل عالما أقيم بقوة الخيال ( وإن ارتبط أو تشابه مع الواقع ) ولا يكون دخوله صحيحا إلا باستخدام قدر مكافئ من القوة نفسها ،قوة الخيال ؛ و القارئ العربى فى دخوله النص الروائى بمنطقة وقوانينه ( هو / يشبه من يعيش فى بلد غير بلده ويرغب أن يعيش بقانونه هو لا بقانون البلد الذى يعيش فيه لذلك تواجه الرواية العربية الكثير من مشكلات التلقى بين أبناء العربية فقد تطورت الرواية العربية وتبوأت مكانتها فى إطار الرواية العالمية وأصبحت قادرة على المنافسة وبات لها كتابها القادرون على ضخ دماء جديدة فى عروقها ، ورغم ذلك تبقى أحد أهم مشكلات الرواية العربية فى المتلقى وفيما يدور حول الرواية من مشكلات مما يعيق عملية التلقى الجاد والمثمر .

- المجاز هنا بمعناه البسيط فى البلاغة استخدام اللفظ فى غير ما وضع له العلاقة ( المشابهة – غير المشابهة ) مع وجود قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلى . والقرينة هنا وجود الشئ فى النص الروائى ، فى نص يعتمد أساسا على المجاز ويقترب من الكناية بالصورة التى تجعل منه نصا كنائيا فى المقام الأول وهو الطابع الغالب على السرد عموما .

- انظر : د. حميد لحمدانى : أسلو بته الرواية : مدخل نظرى منشورات دراسات : سال ، الدار البيضاء ط1 1989 صـ 55 وما بعدها .

- أ . ف . تشيتشرين : الأفكار والأسلوب ، ترجمة : د . حياة شرارة دار الشئون

الثقافية ، بغداد ، د . ت صـ 54 .

- مصطفى ذكرى : هراء متاهة قوطية ، شرقيات – القاهرة ط 1 1997 صـ 9 – 10 .

جمال الغيطانى : دنا فتدلى ، دفاتر التدوين ( الدفتر الثانى ) ، مركز الحضارة العربية ، القاهرة 1998 صـ 192 .

- حسن بحرواى : بنية الشكل الروائى ، المركز الثقافى العربى بيروت ، ط 1 1990 صـ 32.

- د . سيزا قاسم : بناء الرواية ، مرجع سابق صــ 79 – 80 .

صلاح الدين بوجاه : النخاس ، دار الجنوب للنشر – تونس صـ 21 .

- خالد إسماعيل : عقد الحزون ، دار الأحمدى للنشر القاهرة 1999 صـ 73 .

- السابق صــ 78 .

- السابق صــ 78 .

- النخاس صــ 77 .

- صلاح والى : نقيق الضفادع ، الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة 1988 صــ 24 .

- السابق نفسه .

- السابق صــ 38 .

- السابق صــ 54 .

- العلاقة المحلية : إطلاق المحل مع إرادة الحال فيه .

- انظر دراستنا : القطار فى الأدب : الحبل السرى بين الشمال والجنوب ، أخبار الأدب . العدد 271 ، 20 / 9 / 1998 .

والنصوص التى نعنيها الرواية بشكل عام ، والنصوص التى ينتمى أصحابها إلى جنوب مصر ( الصعيد ) إذ لا يوجد كاتب ينتمى لهذه المنطقة إلا وظهر القطار فى أعماله بصورة كبيرة يستوى فى ذلك الشعراء والقصاصون والروائيون ، وقد أفرد الروائى جمال الغيطانى كتابه " دنا فتدلى " دفاتر التدوين الدفتر الثانى لتدوين رحلاته بالقطار فى مصر ، وخارجها ويمثل الكتاب نصا تقوم الفاعلية الأولى فيه للقطار يقول :

القطارات الأنثوية ، أنوثة القطارات الترابط ، التواصل ، التوابع القيام ، الوصول ، العبور للمركبات ، للبشر ، أى صلة كامنة ، زاخرة أيهما يتحقق بالآخر " صـ 8 .

ويقصر السفر والرحيل على القطار ذى الطقوس الخاصة ذات الطعم الخاص لدى الإنسان : سفرى بالقطارات ، الرحيل عندى ما يتم بالقطار ، لا بالعربات ، ولا الطائرات ، ولا السفن ، الكبير منها والصغير ، مرأى العربات المحاذية للأرصفة ، من محطة إلى أخرى ، قادم ، صاعد ، مفارق ، هابط معا لا أبلغ المعنى الذى لم أُوفق فى التعبير عنه حتى الآن إلا بتمام قصدى ، القطار . " صـ9 .

- يحيى حقى : قنديل أم هاشم ، دار المعرف ، القاهرة ، ط5 ، 1984 صـ45 .

- السابق صـ46 .

- جمال الغيطانى : هاتف المغيب ، دار الهلال ، القاهرة ، 1992 صـ 33 ، 34

- السابق صـ68 .

- د. شاكر عبد الحميد : الحلم والرمز والأسطورة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1998 صـ 122 – 123 .

- خيرى عبد الجواد : مسالك الأحبة ، مركز الحضارة العربية ، القاهرة ط 1، 1998صــ 26

- السابق نفسه .

- د. صلاح الدين بوجاه . الشئ بين الوظيفة والرمز ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ، بيروت ط 1 1993 صــ59 .

- الحكايتان من ألف ليلة وليلة .

- ألف ليلة وليلة : حكاية التاجر الجنى ، الليلة الأولى .

- رولات بارت : النقد البنيوى للحكاية ، ترجمة : أنطوان أبو زيد منشورات عويدات ، بيروت ط 1 1988 صـ 106 – 107 .

تقوم فكرة الاستدعاء فى التشبيه عبر المشبه به بوصفه قطبا مرتبطا بالمشبه والاثنان معا يكونان علاقة يسعى المتلقى لإدراك القطب الأول ( المشبه) عبر المشبه به الذى يستدعيه التشبيه لنطاق إدراك المتلقى ،ويعد الاستدعاء ركنا أساسيا فى التشبيه يتم عبر آليتين :

- استدعاء كلى : يتم بإقامة التشبيه نفسه ، واستدعاء خمسة عناصر : " الطرفين ليحصل والوجه ليجمع والغرض ليصح والأحوال ليحسن والأداة لتوصل " انظر :

شرف الدين الطيبى : التبيان فى علم المعانى والبديع ، تحقيق : د. هانى عطية ، مكتبة النهضة العربية ، ط1 1987، ص 180.

- استدعاء جزئى : يعرف من النظر للمشبه به ، حيث يواجه المتلقى بنوعين منه :

1- قريب يقع عند أطراف مداركه ، كأن يكون المشبه به مما يقع فى المحيط القريب للمتلقى ( الشمس ، والنجوم والجبل والبحر ، وغيرها .

2- بعيد يجد المتلقى نفسه مدفوعا للبحث عن معرفته لوقوعه خارج نطاق المحيط القريب ، كأن يكون المشبه به نموذجا بشريا تاريخيا ، بعيد زمانا أو مكانا .

- سحر توفيق ، طعم الزيتون ، المجلس الأعلى للثقافة . القاهرة 2000 صـ 9

- إدريس على : انفجار جمجمة ، المجلس الأعلى للثقافة ، القاهرة 1997 صــ140

- حكاية الملك يونان والحكيم رويان ، الليلة الرابعة من ليالى ألف ليلة وليلة .

- عبد الفتاح كيليطو : العين والإبرة، ترجمة : مصطفى النحال ،دار شرقيات، القاهرة ط 1 1995 ص 46، وانظر: إشارته إلى الكتاب الغريق وتحليله الممتع للحكايتين : (الكتاب القاتل والكتاب الغريق ) ص 41 وما بعدها .

- صلاح الدين بوجاه : التاج والخنجر والجسد : دار سعاد الصباح ، القاهرة ، ط1 1992 ص 18.

- سيد الوكيل : فوق الحياة قليلا ، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، القاهرة ، 1997.

- منتصر القفاش : أن ترى الآن ، دار شرقيات للنشر والتوزيع ، القاهرة ، 2002.

- أحمد دهمان : الحزام ، دار الساقى ، بيروت ، 2001.

- أن ترى الآن ، ص 115.

- السابق ص 117.

- فوق الحياة قليلا ص 94.

- الحزام ، ص 21.

  - السابق نفسه .



إقرأ المزيد